أحدها "السلطان أحمد"..تعرف على قصص بناء أجمل المساجد التراثية
على مر الزمان، تتغير المدن ويتغير عمرانها، تسقط البيوت والقصور القديمة ويشيد مكانها أخرى، لكن دور العبادة تبقى خالدة شاهدة على مرور الزمن. لم يساو الإنسان أبدا بين مسكنه وبيوت الله، فقد كان يعرف دائما أن البيت الذي يشير إلى الله يجب أن يكون عظيما؛ أن يعكس توق الإنسان نفسه إلى الجمال والكمال، أن يكون ملاذه الهاديء عندما تكشف الحياة في وجهه عن قبحها وقسوتها، وعندما تطبق عليه الدنيا ويضيق به الكون، يجد في بيوت الله متسعا ورحابة ورهبة، يجد هناك ذلك السحر والغموض الذي يذّكره باللانهائي، لذلك فإن المباني الدينية منذ القدم تتوهج بنبض شاعري أكثر مما تخضع لغرض وظيفي. حتى أن أكثر الناس علمانية، يميلون إلى الاعتراف بأن الأديان أوجدت تحفا معمارية يستأثر جمالها المعقد بالوجدان.(1)
لقد أنشأ الإنسان المعابد لكي تلبي حاجة الروح الغامضة بطبيعتها، فأشارت بذلك إلى قدرته على الإيمان والتأمل فيما وراء هذا الوجود. يقول علماء التاريخ بأن "الآثار المشيدة أصدق من الأخبار المقيدة، وأن نقوش الأحجار مقدمة على سطور الأسفار"، لذلك فالمعابد هي أبدع الكتب الصخرية التي نشأت لدى الإنسانية "إذ أن عليها تبدو مظاهر النفوس الوثابة التى اعتنقتها والقلوب التى آمنت بها والقوى الهائلة التي تكاتفت على حمايتها ورفع شأنها…ومن ثم لم تظهر عبقريات الفن الإسلامي ولم تبد مراميه الاجتماعية ولم تتكشف أهدافه الإنسانية، كما تكشفت في المساجد" التي تمتد من مشارف شرق آسيا حتى أطراف غرب الشمال الأفريقي.(2)
يقول ثروت عكاشة أن للعمارة الإسلامية خصائص مشتركة وسمات فريدة، جاءت نتاج عوامل بيئية ودينية وجمالية. تنوعت هذه العناصر بتنوع البلاد التي حل بها العرب والمسلمون. فالصحراء – بيئة المساجد الأولى- برمالها المنبسطة وأرضها الجرداء وسماءها وهلالها ونجومها المتألقة ليلا، أضفت على روح الإنسان العربي أثرا عميقا، فأثارت وجدانه وألهمته، لذلك جاءت العمارة تحاكي ما يقع عليه بصر الفنان في الأرض وما يمتد إليه طرفه في السماء، فكانت تلك الأهلة التي تزين المآذن وكذلك القباب التي تشبه قبة السماء. كذلك مع انتشار الإسلام في بقاع الأرض، تأثرت عمارة المساجد بكل بلد حلت فيه، وأصبح لكل بيئة أثرها في المساجد. لكن رغم الاختلافات إلا أن جميع المساجد تشترك في وحدة الروح الإسلامية الكامنة وراء التكوينات المعمارية والتشكيلات الزخرفية.(3)
يبلغ عدد المساجد في اسطنبول نحو 500 مسجد، أغلبها مساجد تاريخية أثرية تتجسد بها فنون العمارة الإسلامية. كان بناء المساجد في الدولة العثمانية مجالا للسباق بين الخلفاء، لذلك أصبحت اسطنبول بعد الفتح الإسلامي متحفا كبيرا للمساجد ذات العمارة الفخمة والنادرة. وكانت الدولة العثمانية تأخذ كل المهندسين المهرة من كل الولايات التابعة لها إلى اسطنبول. خصوصا أن اسطنبول كان بها كنيسة "أيا صوفيا" التي وصفت بأنها أعظم بناء في العالم حين بنائها، مما جعل السلاطين يرغبون في تشييد مساجد تتفوق عليها. من أشهر هذه المساجد التي اعتبرت مرادفا للإبداع الفني والاتقان، مسجد السليمانية ومسجد السلطان أحمد المعروف بالمسجد الأزرق.(4)
(جولة في مسجد السليمانية مع تحليل للعناصر الفنية والجمالية في المسجد)
تميزت المساجد العثمانية بوجهيات موحدة اللون من الرخام، وكانت الزخارف والحليات المعمارية التي تزين وجهيات البناء بسيطة إلى أبعد الحدود، لكنهم تأنقوا داخل المساجد، فزودوها بالنوافذ الجصية ذات الزخارف الزجاجية وطرز الكتابة البديعة، واكتست الجدران بزخارف البلاطات المزججة، فكانت مترعة بأرق الألوان وأرهفها وكانت الألوان المستخدمة وضاءة لامعة وهي في الغالب الأحمر والأزرق والأخضر. وبالرغم من الجمال التي تمتعت به العمارة العثمانية في اسطنبول، إلا أنها جاءت في باقي ولايات الامبراطورية مخيبة للآمال، بسبب حمل أمهر الفنانين من جميع البلاد التي فتحوها على النزوح إلى اسطنبول.(5)
يقول يوسف غريب أننا "في مسجد السليمانية في حضرة حيز مفعم باحساس اللانهائية وحافل بطمأنينة روحية" فيرى أن هذا الجمال محصلة توليفة رائعة من ارتفاع القبة الشاهق والأساليب الزخرفية التي تكسو معظم المكان، ومن خلال منظومة الإضاءة المنبعثة من زجاج ملون يكتسب المكان فرادته عن طريق تكامل وانسجام كل هذه العناصر. أما المسجد الأزرق الذي تلوح مآذنه في الأفق من بعيد للقادمين على سطح بحر مرمرة أو مضيق البوسفور فيعد أرحب ما أنشيء من المساجد السلطانية. وعرف بهذا الاسم لأنه يغلب عليه التزيين بالبلاط الأزرق من الداخل. يتلألأ المسجد الأزرق بالضوء من خلال 260 نافذة محلاة بالزجاج الملون ينسكب ضوئها على أكثر من 21 ألف بلاطة خزفية براقة، بها أكثر من خمسين تصميما منها زهور التيوليب والقرنفل والفروع النباتية.(6)
تعد الفترة الصفوية من أكثر فترات تألق الفن الإسلامي في إيران، وكانت أصفهان التي تطل على النهر، أهم المدن وأجملها والتي عاشت عصرها الذهبي عندما اتخذها الشاه عباس الصفوي عاصمة له، فغير خريطتها، وشق لها طرقات جديدة واسعة وزينها بالأشجار وبنى جسور حجرية تربط بين جانبي المدينة، تقف شاهدا على إبداع العمارة في ذلك الوقت. فأصبحت أصفهان لؤلؤة تلمع بين المدن الشرقية، بعدما تألقت بقصورها وبساتينها ومساجدها، التي يعد أشهرها مسجد الشيخ لطف الله ومسجد الإمام. تميزت هذه المساجد بألوانها الزاهية البراقة المصممة بأجمل قطع القاشاني الملون بألوان لازوردية، والمطعم بالأحجار الكريمة، كما رصعت بأجمل أنواع الآجر ذي الألوان السبعة.(7)
يعتبر مسجد الشيخ لطف الله بقبته الخضراء الانسيابية، من قبل المؤرخين والزوار تحفة معمارية فريدة من نوعها بسبب تصميمه الفريد ورسوم البلاط الرقيقة والكريستال الرائع الذي يكسو جدرانه. وهو أحد أهم المشاريع المعمارية التي بنيت في أصفهان. الغريب في هذا المسجد أنه لا يوجد به مئذنة ولا فناء، كما أن ألوان القبة تتغير مع تغير الإضاءة. يقول البروفيسور آرثر أبهام بوب في كتابه عن الفن الفارسي، أنه من الصعب أن يكون هذا المبنى عملاً من صنع أيادِ بشرية، من فرط جماله ودقته. وأضاف أنه لا توجد نقاط ضعف في البناء، جميع الأحجام متناسبة تماما، كما أن تخطيط المسجد قوي والمبنى كله مفعم بالإثارة والحيوية، إلى جانب السكينة والهدوء. وهو يعتقد أن هذا التصميم بالغ الجمال لا يمكن أن يكون مصدره سوى الإيمان الديني والوحي السماوي.(8)
(فيديو جولة في مسجد الشيخ لطف الله)
يعد مسجد قرطبة الذي شيده عبدالرحمن الداخل، أحد أقدم الأثار الأندلسية المتبقية منذ أن حكم المسلمون الأندلس. ويعتبر هذا المسجد مثالا على قدرة الحضارة الإسلامية على تطوير أساليب معمارية خاصة بها نابعة من تراثها الاقليمي السابق. والذي يعد مزيجا غير تقليدي بين القديم والمبتكر، عن طريق المفردات الأسلوبية الجديدة التي من خلالها يمكننا التعرف على العمارة الإسلامية حتى اليوم. يعكس المسجد عظمة هذا العهد وازدهار قرطبة كمركز حضاري ينافس بغداد في أهميتها. وقد تم بناء المسجد على مدى مائتي عام، ويتكون من المسجد من قاعة صلاة ضخمة، وفناء به نافورة، وبهو برتقالي اللون، وممر يغطي الساحة.(9)
ويعد محراب مسجد قرطبة آية من آيات الجمال المعماري، مهد له الفنان بثلاثة عقود متتالية تبعث الهيبة في النفس. يقول قروث عكاشه: "لم يلجأ المعماري في بنائه إلى نحته حنية مجوفة في الحائط شأن كل المحاريب، لكنه اختار له شكل مقصورة يؤدي إليها باب زخرفي معقود على هيئة حدوة الفرس". فوق قاعدتين من الرخام يستند عليهم العقد توجد زخارف وكتابات بالعربية وحلي من الفسيفساء. ويغلب على التكوين اللون الأزرق العربي، ثم يليه اللونان الذهبي والأحمر. ويوجد فوق المحراب قبة رائعة. ولأن تاريخ الأندلس إلى اليوم يثير الشجون في نفوس معظم المسلمين، فقد سُجل الكثير من الشعر والنثر في حضرة هذا المسجد.(10)
القاهرة بها الكثير من المساجد الأثرية، أقدمها مسجد أحمد ابن طولون، الذي تفوق المصريون في عهده في صناعة الجص الذي يشهد عليه المسجد، ويعد من أجمل وأندر المباني الإسلامية الباقية حتى اليوم. كما شيد الفاطميون في مصر الكثير من المساجد وكان عهدهم عهد ازدهار وعصر ذهبي للعمارة الإسلامية ومن أثارهم الجامع الأزهر. لكن يظل مسجد السلطان حسن هو رائعة المساجد الأثرية في القاهرة وعجيبة من عجائب العصر المملوكي. ويستمد الجامع أو مدرسة السلطان حسن جمالها من البناء نفسه ومما يحتويه من قيم جمالية و من المقياس الإنساني، إذ أنه بالرغم من ضخامته لم يهمل المعماري المقياس الإنساني، وذلك بتجزئته عناصر المبنى وتوزيعها بطريقة منطقية.(11)
يقول عنه المصور المستشرق أوجين فرومنتان: "إنه درة من أنفس ما جادت به عصور الحضارة العظيمة من مبان". وعندما رآه جاستون فيت، أخذ ينقل بصره بينه وبين قلعة محمد علي ثم قال: "إن من يتأمل البناءين، تبدو القلعة في عينه جاثمة تستعد للوثوب والانقضاض، على حين تبدو المدرسة هادئة سامقة متعالية ترنو للقلعة المتحدية في شموخ الواثق دون مبالاة". ويستكمل قائلا أننا أمام هذا الأثر الفريد إلا أن نحس بأننا في يد سيمفونية كامة، اشترك فيها الأوركيسترا بكافة عناصره، بمنتهى الدقة والعناية، وباحساس مرهف مدرك للفروق مهما كانت دقيقة.(12)
"إنها قطعة من الفن المعماري الجريء يغني تأمله عن الإفاضة في وصفه، ولعله أكمل أثر خلفته لنا مصر الإسلامية وأجدر صرح يمكن مقارنته بآثار مصر الفرعونية"
(د.ثروت عكاشة)
وبالطبع يتربع المسجد الأقصى وقبة الصخرة قائمة أجمل المساجد الأثرية. لكن قائمة المساجد الجميلة التي بنيت في العصر الحديث تطول أيضا؛ فإذا اتجهنا إلى شرق أفريقيا سنجد "مسجد الحسن الثاني" أكبر مسجد في المغرب. كما تضم دول شرق آسيا مجموعة من أجمل المساجد، الذي يعد بعضها قديم نسبيا مثل مسجد وزير خان بباكستان. وتضم ماليزيا وحدها مجموعة جميلة من المساجد منها مسجد العبودية ومسجد السلطان صلاح الدين عبد العزيز شاه. وفي روسيا يوجد "مسجد قل شريف" الذي يتميز بتصميه الفريد. كما يعد مسجد الملك فيصل في باكستان أيضا أحد أكثر المساجد تميزا في تصميمه الذي يخرج تماما عن شكل المسجد التقليدي. (13) وكما أن المشهد المعماري الرائع في رأي جون راسكن، ينبثق من التفاصيل التي لا تظهر إلا بعد تشييد المبنى بمئات الأعوام، كذلك بالرغم من جمال تصاميم المساجد التي بنيت حديثا، إلا أن للمساجد الأثرية جمالها الذي يلا يمنحه سوى صمودها أمام مرور الزمن، فلا يصبح المشهد رائعا إلا بعد أن يضفي عليه التاريخ جمالا عرضيا. (14)