هل للإلهام قانون؟.. هكذا تأتينا أفضل أفكارنا
ذات مرة سأل ألبرت أينشتاين أحد علماء النفس قائلا: لماذا تواتيني أفضل أفكاري في الصباح أثناء حلاقتي؟ فقال له: "إن العقل يحتاج في كثير من الأحيان إلى الاسترخاء من الضغوط الباطنة -أن يتحرر من أحلام الليل وأحلام النهار- وذلك حتى يتيح الظهور للأفكار غير المألوفة". يحكي "رولو ماي" عالم النفس الوجودي هذا الموقف في كتابه "شجاعة الإبداع" ويقول: "ليس منا من لم يستخدم من حين إلى آخر تعبيرات مثل (وبغتة انبثقت فكرة) أو (جاءت فكرة على نحو غير متوقع) أو (هبطت) أو (جادت وكأنها حلم) أو (فجأة خطرت لي) هذه كلها طرائق متنوعة لوصف تجربة مشتركة هي: انطلاق الأفكار من عمق كامن تحت سطح اللاوعي". إذا اختبرنا لحظة تنوير كهذه فغالبا نسأل أنفسنا ما الذي حدث؟ وكيف جاءتني هذه الفكرة دون توقع سابق؟(1)
تشير دراسات علم نفس الإبداع للإجابة عن هذا السؤال إلى أهمية "لحظات الاسترخاء والابتعاد المؤقت" في السماح للأفكار المهمة بأن تظهر. إن ما يفعله الناس غالبا هو العكس من ذلك، فهم يبذلون الكثير من الجهد والإلحاح في مطاردة الفكرة التي يعملون عليها لكن في الغالب هذا الضغط والعمل المستمر لا يؤدي إلى نتائج فريدة، بينما تأتينا أفضل أفكارنا ونحن منخرطون في نشاط مريح لا علاقة له بالموضوع الذي نعمل عليه. فمثلا لم يكن "ماكس فيبر" يرى أي فضيلة في الكدح والاجتهاد، وكان يقول إن أفضل أفكاره أتت إليه عندما كان يسترخي على الأريكة ويدخن سيجاره. ويقترح "هاردنج" أن ومضة الإلهام غالبا ما يحظى بها الفنانون والعلماء عندما يبتعدون عن التفكير المباشر في موضوعات عملهم، أي في لحظات الارتياح من التفكير. في هذا الوقت يكون العقل في حالة راحة، في حالة ترقب واستعداد لالتقاط أي شيء يدل على الحل، بينما تكون الفكرة موجودة في أحد أركان العقل.(2)(3)
يرى رولو ماي أن الأساتذة يحاضرون بطريقة ملهمة عندما يتناوبون بين وجودهم في الفصل وخروجهم إلى شاطئ البحر من وقت إلى آخر مثلا، وأن المؤلفين يكتبون بشكل أفضل، ويضرب مثالا بـ "ماكولي" الذي كان يكتب لمدة ساعتين ثم يخرج ليقذف حلقات الرمي ثم يعود للكتابة وهكذا. كذلك عندما تحدث ماركيز عن الطريقة التي يتغلب بها على جمود التفكير، يقول: "إنني أعيد التفكير في كل شيء من البداية، هذه هي الأوقات التي أعيد فيها تصليح كل الأبواب والفيش في البيت، بالمفك وبدهن الأبواب باللون الأخضر، إذ إن العمل اليدوي يساعدنا أحيانا في إزالة الخوف من الواقع".(4)(5)
"البصيرة لا يمكن أن تولد في كثير من الأحيان إلا بعد أن يسترخي التوتر الواعي والتناول الواعي"
(رولو ماي، شجاعة الإبداع)
يشبّه أفلاطون أفكارنا كأنها طيور ترفرف في قفص عقولنا، لا يمكنها أن تستقر إلا عندما نتيح لها فترات من الراحة الخالية من الأهداف، لذلك فكثيرا ما يقال إن أفضل أفكارنا تأتينا عندما لا نفكر بها. إن لحظات مثل التي نحدق فيها من النافذة دون هدف تسمح لصوتنا الداخلي الدفين وأفكارنا المختبئة بأن تطل قليلا إلى نافذة الوعي. لقد كان الفنان الفرنسي "غوستاف كايبوت" (1848- 1894) يعرف أهمية هذه اللحظات، لم يشعر أنها إضاعة للوقت الثمين بلا طائل ملموس، كما تصورها المجتمعات المهووسة بالإنتاجية اليوم، والتي تدفعنا دائما إلى القيام بأي شيء المهم أن يكون مردوده ماديا ومتوقّعا. لذلك رسمها كايبوت مرارا وبطرق متعددة، فكانت لوحاته بمنزلة توثيق لما يرى الفنان أنه أولوية، وتسجيل للأهم بالنسبة لصحتنا العاطفية.(6)
أمام النافذة المفتوحة أو الشرفة يقف أشخاص كايبوت في شرود، يحدقون في المشهد خارج النافذة، ينظرون بطريقة عابرة إلى السيارات والناس في الخارج، أو ربما يحلمون حلم يقظة يتخذ من الأشجار والحقول التي تمتد على مرمى البصر أرضا له. عندما رسم كايبوت هؤلاء الأشخاص كان يعرف أهمية هذه اللحظة الخالية تقريبا من الضغوط المدفوعة بهدف، والتي نفتح فيها لوعينا النافذة لكي يهيم كما يشاء، لحظة بطريقة ما تجعلنا نعيد استكشاف محتويات عقولنا، وأفكارنا الأكثر أصالة وعمقا، كأنها لحظة حرية لذلك العقل المسجون بين جدران وسياج كثيرة يفرضها عليه موقعنا في هذه الحياة.
لم يكن كايبوت يرسم مشهدا جميلا فحسب، لقد كان صادقا، فهو نفسه يُقدّر هذه اللحظة التي يصورها لنا، يمارسها كثيرا، سنلاحظ هذا عندما نشاهد الكثير من أعماله الأخرى التي كانت عبارة عن مشاهد للطبيعة أو للشوارع والحياة اليومية في باريس مأخوذة من زاوية علوية، تحديدا من الزاوية التي وقف ينظر منها من النافذة. كذلك رسم الكثير من المشاهد المختلفة لنفس لحظة التأمل الشارد تلك، منها: أشخاص يسيرون في نزهة بين الحقول، أو يركبون قاربا في البحر، أو يسترخون قليلا على العشب، ورسم آخرين يسبحون في النهر، أو يتصفحون الجريدة في هدوء. إنها بمنزلة لحظة هروب آمن من مكاننا الضيق الذي لا يمكننا الإفلات منه إلى رحابة أحلامنا ومشاعرنا المختبئة خلف عتبة الوعي في انتظار أن نفتح لها نافذة.
"في اللحظات التي يتبدد فيها الكف العصبي المتراكم، قد تتاح فرصة للمبدع في أن يلقي نظرة جديدة وهادئة على فكرته وقد يلتقط هاديات جديدة لها ومن ثم قد يتوصل إلى الحل. ولعل هذا ما يعطيها صفة التلقائية والمفاجأة والإدهاش"
(د. شاكر عبد الحميد)
لحظات استبصار في تجربتين
يروي رولو ماي في كتابه تجربتين، الأولى له والأخرى لواحد من أعظم الرياضيين في القرن التاسع عشر هو "جول هنري بوانكاريه". في التجربة الأولى كان رولو ماي ما زال طالبا متخرجا يقوم بالبحث عن "معنى القلق" الذي درسه من خلال مجموعة من الأمهات الشابات غير المتزوجات والحوامل، وكان قد توصل إلى افتراض قوي وافق عليه أساتذته ينص على أن "الاستعداد السابق أو القابلية للقلق في الأفراد تتناسب مع درجة رفض أمهاتهم لهم". لكنه واجه حقيقة مربكة أثناء البحث والدراسة، وهي أن نصف النسوة ينطبق عليهن افتراضه تماما، لكن النصف الثاني لا يصلح أبدا لهذا الافتراض، كانت إحدى هؤلاء فتاة طردتها أمها وهي صغيرة هي وإخوتها وتعرضت لخبرة قاسية من والدها الذي كان مسجونا، لكنها كانت تقول نواجه متاعب لكننا لا نعبأ بها. وقد أظهرت الاختبارات أن هؤلاء النسبة لا يتحملن أي نسبة غير عادية من القلق. كان ماي في ذلك الوقت يشعر أنه وقع في مشكلة لا حل لها.
وذات يوم نحّى كتبه وأوراقه جانبا، ونزل يهيم في الشوارع باتجاه محطة القطار، وكان مجهدا لذلك حاول أن يزيل عن تفكيره هذه المشكلة برمتها، وبعد نحو خمسين قدما من السير خطر على باله فجأة أن هؤلاء النسوة اللواتي لا ينسحب عليهن فرضه ينتمين جميعا إلى طبقة البروليتاريا. بعد أن هبطت هذه الفكرة على رأسه تدفقت بعدها الكثير من الأفكار الأخرى التي كوّنت فرضا جديدا كاملا. وكان ما توصل إليه أن رفض الأم لابنتها ليس هو الصدمة الأولى التي كانت مصدرا للقلق، إنما المصدر الحقيقي هو الكذب. أن تحاول الأم إظهار التقبل والحب وهي في الحقيقة تكذب ولا تستطيع تقبلها. وهذا ما يحدث في الطبقة المتوسطة التي ينطبق عليها الفرض بينما النسوة من طبقة البروليتاريا يعرفن بشكل واضح أنهن مرفوضات من قِبل أمهاتهن، فيخرجن إلى الحياة ويبحثن عن رفقاء آخرين، فلم يكن هناك أي خداع في موقفهم. يقول:
"هذه البصيرة اقتحمت عقلي الواعي ضد ما كنت أحاول التفكير فيه بطريقة عقلانية.. أصبح كل شيء حولي بغتة واضحا كل الوضوح"
ويعتبر رولو ماي تجربة بوانكاريه أشد ثراء وتعقيدا من تجربته السابقة، يكتب بوانكاريه في مذكراته إحدى تجارب الانبثاق الذي حدث له: "خمسة عشر يوما وأنا أجاهد لإثبات أنه لا يمكن أن توجد دوال شبيهة بتلك التي أطلقت عليها منذ ذلك الحين دوال فوكس. وكنت حينذاك جاهلا أشد الجهل، ففي كل يوم كنت أجلس إلى مكتبي فأمكث ساعة أو ساعتين، محاولا إجراء عدد كبير من التركيبات دون أن أبلغ أي نتيجة. وذات يوم وعلى خلاف عادتي احتسيت قدحا من القهوة السوداء فلم أستطع النوم، وتزاحمت الأفكار في حشود متزاحمة وشعرت بها تتصادم حتى تلاحم زوجان من هذه التركيبات ليؤلفا توليفة ثابتة. وما إن أشرق صباح اليوم التالي حتى كنت قد برهنت على وجود. ولم يتبق أمامي سوى أن أسجل النتائج". وفي موضع آخر من مذكراته يكتب عن تجربة أخرى قائلا:
"صرفت انتباهي بعد ذلك إلى دراسة المسائل الحسابية دون نجاح يذكر، ودون أي شبهة في اتصالها بأبحاثي السابقة. وحين أصابني الاشمئزاز من إخفاقي ذهبت لقضاء أيام قلائل على شاطئ البحر، واتجهت بتفكيري إلى شيء آخر، وذات صباح أثناء سيري على جرف عال، خطرت لي الفكرة بنفس سمات الإيجاز والمباغتة واليقين الفوري، وهي أن التحولات الحسابية للصيغ التربيعية الثلاثية غير المحددة مطابقة مع أشكال الهندسة اللاإقليدية..".
ويتساءل بوانكاريه بعد هذه التجارب ما الذي يحدث في العقل كي تنبثق كل هذه الأفكار من مكان ما في هذه اللحظة تحديدا. وما يقترحه أن من الممكن أن تكون فترات الراحة تعمل على إعادة النضارة للعقل المتعب من العمل، لكن هذه التجليات لن يحظى بها المرء دون أن يسبقها عمل جاد على الموضوع المقصود حله. بالتالي فهو يرى ضرورة التناوب بين العمل والاسترخاء، إذ إن الاستبصارات تأتي غالبا في لحظات الانقطاع بين الحالتين، أو على الأقل خلال اللحظة.(7)
أهمية العزلة والصمت
خلال هذه المرحلة التي يطلق عليها "الاختمار" في التراث، هناك مجموعة من النصائح والأنشطة التي يقترحها "هتشنسون" للعلماء والفنانين ولكل من يريد أن يزيد من التدفق التلقائي والطبيعي للصور الداخلية، أهمها: تنظيم الوقت بحيث يعطي المرء نفسه حرية كاملة للعمل بقدر الإمكان، تحديد نوع الظروف التي من الممكن أن يكون خلالها أكثر تلقائية في تخيلاته ونشاطه بشكل عام، والأهم هو القدرة على الانعزال بعيدا عن المشتتات. إن في هذا العالم شديد الوطأة علينا أن نكون قادرين على الانسحاب واستخدام العزلة بشكل بناء. يكتب رولو ماي:
"كثيرا ما يخطر لي أن الناس الذين يعيشون في مدينتنا الحديثة المحمومة، وسط الضجيج الدائم… هؤلاء الناس الذين تحاصرهم المشاغل الدائمة، يجدون مشقة بالغة في أن يدعوا الاستبصارات تنبثق من أعمال اللاشعور. وبالطبع حين يخشى الفرد من اللامعقول، أي من الأبعاد اللاشعورية للتجربة فإنه يحاول أن يكون في أشد حالات الانشغال. ويحاول الاحتفاظ بأقصى ضجة ممكنة حوله… ومن الجلي أننا إذا شئنا أن تطفو الاستبصارات إلى لاشعورنا فإننا بحاجة إلى أن نكون قادرين على الاستسلام للعزلة".(8)
في هذه العزلة تكون الفكرة معنا لكننا منشغلون بها انشغالا غير مباشر أو كما تقول دورثي كانفيلد:
"يمارس المبدع حياته بينما تمارس الفكرة حياتها بداخله"
ربما علينا أن نتذكر أن الأفكار لا تأتي للشخص الخطأ ولا تضل طريقها، إنها تعرف صاحبها جيدا، ذلك الذي ظل يفكر بها كثيرا ويبحث عنها، "إنها تأتي وفق نموذج أحد عناصره الأساسية هو التزامنا الخاص". فعالم الرياضيات لن تأتيه استبصارات بشأن دراسة في علم النفس أو العكس، إننا نحظى بلحظات من الاستبصار في الموضوعات التي كرّسنا لها معظم فكرنا الواعي والنشط، لتأتي الفكرة وتكمل الصورة أو النموذج الناقص الذي نحاول إنهاءه وتنير لنا ما كان مظلما.(9)