كذب وغش ونرجسية.. لماذا يتصرف بعض المبدعين بدناءة؟
في السابع من يونيو عام 1848 والذي كان عام الثورة في فرنسا، لم يكن الصحفي الثائر "كلوفيس غوغان" يعلم أنه رزق بطفل صغير، لأنه في ذلك الوقت كان يقف خلف المتاريس يدافع عن مكتسبات الثورة وعن المبادئ التي آمن بها. وعندما فشلت الثورة تعرض كلوفيس وأصحابه للتشريد والتنكيل بهم من قبل اليمين، كانوا مطاردين وكان كلوفيس غوغان مطلوبا، لذلك اقترحت زوجته الهروب إلى بيرو موطنها الأصلي، وبالفعل هربت العائلة على متن باخرة صغيرة في الشتاء، لكن الشتاء في ذلك العام كان قاسيا جدا فلم يحتمل كلوفيس وسقط صريع المرض ومات. ولم يكن ابنه الصغير "بول غوغان" قد بلغ الثانية من العمر.
خضع الطفل بول بسبب أمه لتربية محافظة تقليدية حتى لا يتعرض في حياته للمتاعب مثلما حدث مع والده الذي عاش حياة عنيفة ومضطربة، وظل بول إلى أن اقترب من الأربعينات من عمره يعمل موظفا في البورصة. كان نموذجا للموظف المثالي. وكان متزوجا من الدنماركية (ماتيه صوفي غاد) وقد كان لديه خمسة أطفال أطلق على أولهم اسم كلوفيس على اسم والده الذي لم يكن يغيب عن ذهنه، وأطلق اسم أمه ألين على ابنته، كما أطلق على أحد أطفاله اسم بول على اسمه هو نفسه. تبدو حياة طبيعية ومستقرة تلك التي كان يعيشها غوغان. لكن ما كانت تخشاه والدته قد حدث، لقد ذهب غوغان أبعد كثيرا مما كانت أمه تتخيل.(1)
فجأة ترك غوغان عمله في سوق الأوراق المالية واتخذ قرارا بالتفرغ للرسم وبعد عام من هذا القرار أفلس وبدأت المتاعب. لا يذكر المؤرخون بالتحديد متى اشتعلت لدى غوغان الرغبة في الرسم والسفر، لكنه منذ تفرغ للرسم وترك عمله بدأ يخط أسطورته التي ساهمت كثيرا في تشكيل صورة الفنان البوهيمي في العصر الحديث. لقد تخلى عن بيته وزوجته كي يكرس حياته للفن كما يقول، كان يبغض كل القيم البرجوازية خصوصا بعد أن خسر أمواله وتخلى عن أسرته، فالبرجوازين كما يراهم غوغان يضعون صروح الأخلاق السامية لكي يحافظوا بها على ما يملكونه ويخافون من فقدانه. لكنه لا يملك ما يخشى عليه من الضياع.
عندما كان في باريس يتخبط في حياته البوهيمية ولا يملك المأوى، استقبله صديقه الوفي شوفينكير في بيته واستأمنه على زوجته لكن غوغان خان الصداقة. في روايته "الفردوس على الناصية الأخرى" يكتب "ماريو فارجاس يوسا" على لسان غوغان الذي يسرد قصته في الرواية، قائلا:
"كنت قد تحولت لشخصٍ آخر. لقد بدَّلت جسدك وروحك، كنتَ منتشيًا، وواثقًا من نفسك، مجنونًا بالسعادة، لأنك اكتشفت طريقًا أخيرًا، وشرهًا إلى الفظاعات والفضائح. فأحد أول الأعمال التي أقدمتَ عليها في باريس، الانقضاض على لويز، زوجة شوفينكير الطيب، ولم تكن قد سمحت لنفسك قبل ذلك بأكثر من مغازلتها. أما الآن منقادًا لهذا المزاج الجديد المندفع الجريء، محطم الأيقونات، الفوضوي، انتهزت أول فرصة كنتما فيها وحدكما – كان شوف الطيِّب يعطي دروسَ رسم في الأكاديمية – كي تنقضّ على لويز. أيمكن القول أنك قد أسأت معاملتها يا بول؟ سيكون من المبالغة قول ذلك. لقد أغويتها وأفسدتها، في أبعد الحدود. لأن لويز لم تقاوم، إلا في البداية، وفعلت ذلك حفاظًا على الشكليات، أكثر مما هو عن قناعة. ولم يبدُ عليها الندم بعد تلك الزلة، قطّ.
– أنت متوحشٌ يا بول. كيف تجرأت على مدِّ يدكَ إليّ؟!
– السبب هو ما قلتِهِ، يا جميلتي، لأنني متوحِّش. أخلاقي ليست أخلاق البرجوازيين. غرائزي هي التي تتحكمُ الآن بأفعالي. وبفضل هذه الفلسفة الجديدة سأصيرُ فنانًا عظيمًا!"(2)
لقد كانت أسطورة غوغان هي أسطورة الفنان المتحرر من كل شيء عدا الغرائز باسم الفن. الفن عنده أهم وأكثر نبلا من رعاية العائلة والأبناء الذين تركهم وراءه ورحل. ووقود هذا الفن هو الحياة بلا قيود في الجزر البدائية التي لم تصلها الحضارة بعد، هناك في جزيرة تاهيـتـي يتفجر الإبداع الذي شرطه ممارسة الجنس والملذات بحرية مع أكبر عدد من نساء هذه الجزر التي لا تهتم كثيرا بوضع القيود على ممارسة الجنس. اختار غوغان كما يدعي الحرية عن طريق الغرق في الملذات الحسية بكل الطرق الممكنة والتخلي عن كل ما يمكن أن يحد من جماح رغباته المتأججة أو يضع على عاتقه أي نوع من المسئولية. لماذا، لكي يطهر الفن مما وصفه بـ"أمراض الحضارة"!
ما يميز غوغان عن الكثير من الفنانين الأخرين هو اعترافه برغباته وما يؤمن به. لقد اعترف بما اقترفه ودافع عنه وأبدع نظرية جديدة بالكامل في الفن في سبيل منح نفسه وما قام به منطق وشرعية، حتى أن التبرير الذي قدمه لأفعاله قد يكون أكثر إبداعا من فنه نفسه. وهو ما حدث بالفعل، إذ استمرت حكاية حياته لسنوات طويلة هي محور اهتمام مؤرخو الفن أكثر من تركيزهم على ما أبدعه من لوحات.
ويبدو أن حكاية غوغان تتكرر كثيرا في أوساط المبدعين بشكل عام لكن بطريقة أقل صخبا بكثير، حتى أن الكثير من الناس يربطون صفات مثل عدم الالتزام والهروب من المسئولية والمراوغة بالفنانين والمفكرين ذوي الأفكار الأصيلة.
في السنوات الأخيرة، كشفت الثورات كيف استطاع الكثير من المبدعين مخالفة ضمائرهم. لقد كانت مواقف الكثير من المبدعين التنويرين الذين طالما ادعوا انحيازهم للحرية ضد كل سلطة فاشية لا تعبر سوى عن الخذلان. إن ما يجعل المرء يرتبك أمام هذه السلوكيات هو الافتراض بأن رسالة الفن هي الصدق في المقام الأول أليس الفن بحسب قولهم "يمكن أن ينقذ العالم؟"، فكيف يكون هؤلاء الذين يدعوننا لهذا الصدق وهم أنفسهم كذابون؟
كذب وغش ونرجسية.. الجوانب المظلمة للإبداع
كثيرا مايتحدث الجميع عن فضائل الإبداع، فمن المعروف أن الإبداع يرتبط بمجموعة من الصفات الجيدة التي منها: حس السخرية والفكاهة والإيثار والقدرة على التعاطف والمرونة الشخصية والإيجابية. لكن نادرا ما نجد من يتحدث عن جوانبه القبيحة والمظلمة. لكن مؤخرا ظهرت مجموعة من البحوث والدراسات النفسية التي تشير إلى ميل المبدعين أكثر من غيرهم لارتكاب سلوكيات تتسم بالغش وانعدام الأمانة بسبب معرفتهم بأنهم قادرون على المراوغة وخلق التبرريرات الذكية والمقنعة لأفعالهم، فالتفكير الإبداعي يمدهم بأدوات عقلية مميزة تسمح لهم بتبرير عدم أمانتهم، وغالبا عندما يبرر المرء سلوكا فهو يشارك في هذا السلوك.(3)
جدير بالملاحظة أننا لا نعتبر الروايات ولا الأفلام والمسلسلات كذبا. وأغلب الناس يحبون الكذب عندما تكون كذباتهم أكثر متعة من الواقع المُلل ومن خلالها يمكن تغيير الواقع بطريقة سهلة عن طريق الهروب للخيال. ومن البديهي أن يكون الأشخاص المبدعين بعد تلقيهم الكثير من التدريب والممارسة في كتابة الروايات والأفلام سيكونون أكثر قدرة على الكذب، كما ستكون كذباتهم أكثر جودة. وفي دراسة أجريت 2008، عرض على المشاركين مجموعة من المشكلات التي قد تواجههم في الحياة اليومية لكي يقومو بحلها، فأظهرت النتائج أن الأشخاص الأكثر إبداعا كانوا يكذبون أكثر وكانت كذباتهم أفضل من الأشخاص الأقل إبداعا.(4)
كما تشير الدراسات إلى أن المبدعين أكثر ميلا للغطرسة والكبر والسلوك النرجسي وحب الذات، وهو ما يساعدهم على قضاء وقت أكبر لتطوير مهاراتهم وأفكارهم دون إنفاق الكثير من الوقت في محاولة استرضاء الأخرين. كذلك فإن هذه الثقة الكبيرة في أنفسهم وقدراتهم تساعدهم في كسب ثقة الجمهور وسهولة اقناعه أو حتى خداعه. كما لا يثق المبدعون بسهولة في الأخرين فهم أكثر ميلا للشك والارتياب مما يجعلهم يحتفظون بأفكارهم الإبداعية لأنفسهم. كما تظهر دراسات أخرى أن المبدعين أكثر ميلا للقيام بتصرفات تتضمن نوعا من الشر، فهم يميلون للغش في المختبرات وكذلك يظهرون قدرة كبيرة على تبرير خيانة الأمانة. وتظهر ذروة هذا الشر في الجرائم التي تتطلب خططا وأفكارا إبداعية لتنفيذها.(5)
يفسر التحليل النفسي الفرويدي فعل الإبداع بأن الفنان هو شخص محبط في الواقع لأنه يريد الثروة والقوة والشرف والشهرة وحب النساء، لكن ينقصه الوسائل للوصول إلى هذه الإشباعات، لذلك فهو غالبا ما يتسامى عن هذه الرغبات ويعمل على تحقيقها في خياله. كما تشير دراسة نفسية أخرى إلى أن هذا الجانب المظلم يظهر في الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مبدعين وليس الأشخاص المبدعين فعلا. إذ أن أولئك الذين يظنون أنفسهم مبدعين، يطورون شعورا بأنهم يستحقون أكثر من غيرهم. يشعرون أن أفكارهم فريدة وجديدة ومهمة، فيمنحون أنفسهم الحق في أن يتصرفوا بشكل خارج عن القواعد. على سبيل المثال قد يعتبرون السرقة وسيلة مبررة لكي يحصلوا على شيء يستحقونه أصلا من وجهة نظرهم.(6)
إن صفة المرونة النفسية والعقلية التي يتمتع بها المبدعون هي التي تجعلهم يتمكنون بسهولة من إعادة تشكيل منظومة الأخلاق بحسب ما يتناسب مع المواقف المختلفة التي يتعرضون لها، إنها الأثار الجانبية لقدرتهم على رؤية كل شيء من زوايا غير متوقعة. الحقيقة أن ما تظهره هذه الدراسات لا يعني أن كل فنان هو شخص غشاش أو غير أمين، إنما تشير فقط إلى أن هؤلاء لديهم قدرة واستعداد أكبر لكي يستغلوا إمكاناتهم بطرق إبداعية قد تكون غير أخلاقية، لكن في النهاية يخضع الأمر لاختيار كل شخص ووعيه بذاته. وغالبا ما يعي الفنانون الحقيقيون هذه الجوانب في شخصياتهم ويعملون على مقاومتها وعدم الاستسلام لها وتحري الصدق والنزاهة في سلوكهم.
—————————————————————————-
المصادر
- هل هرب غوغان أم أجبر على الهروب، سلمان قطاية، الحياة التشكيلية
- ماريو فارغاس يوسا، هل الفردوس هنا أم على الناصية الأخرى؟
- The dark side of creativi
- The Creativity of Lying
- The Dark Side of Creativity
- The dark side of creativiy