سالفاتوري غاروا صاحب اللوحة الخفيّة.. أن تبيع الفراغ وتربح آلاف الدولارات
مضى عام ونيف منذ ذيوع ذلك الخبر المُثير للانتباه حول الفنان الإيطالي المتمرِّد "ماوريتسيو كاتيلان" الذي باع موزة بـ 120,000$ (1)، تلك الثمرة التي تمكَّنت من جذب الأنظار إليها فيما هي مُثبَّتة على الجدار بشريط لاصق، وكانت محطَّ اهتمام وجدل بين الجادِّين والمُتهكِّمين على حدٍّ سواء. لم يدر بخلد أحد أن يذهب شخص إلى أبعد من ذلك، حتى جاء الفنان التشكيلي الإيطالي "سالفاتوري غاروا" منذ بضعة أيام فقط لينجرف بعيدا مخالِفا كل التوقُّعات.
أعلن "غاروا" عن بيع منحوتته التي أطلق عليها اسم "أنا" في مزاد علني لقاء أكثر من 18 ألف دولار (2)، إلى هنا يبدو الحدث عاديا، لكن ما هو غير عادي تماما أن عمله الفني لم يكن مرئيا من الأساس، مما يعني أن شخصا ما أسقط آلاف الدولارات على قطعة لا يراها، مصنوعة حرفيا من اللا شيء.
كان المزاد تنافسيا، يُمكننا بشكل مُتخيَّل استراق السمع هناك، لتتناهى إلى أسماعنا عدة أصوات تُعلِن عن رغبتها في تلك القطعة، هذا يقول 10 آلاف، وآخر يزيد عليه بثلاثة إضافية، يساهم هذا في ارتفاع السعر مرة بعد مرة، لكن لماذا قد يتقاتل شخصان أو أكثر من أجل الظفر بشيء لا وجود له؟
في تلك النقطة يدافع "غاروا" عن نفسه، فيقول إن المشتري يحصل على شهادة ملكية، مُوقَّعة ومختومة منه، مع مجموعة من الإرشادات المتعلِّقة بكيفية عرض العمل. الهدف هو تشجيع المالك على عرض المنحوتة (3)(4)، على أن يفعل هذا في منزل خاص يحمل مساحة مُحدَّدة مُعلَنة، وخالية من العوائق. ما من داعٍ لإضاءة من نوع خاص أو مناخ لازم للحفاظ عليها (5)(6)، فهي لن تُرى في كل الأحوال.
الفراغ ما هو إلا مساحة مليئة بالطاقة، إن حدث وأفرغناه ولم يتبقَّ شيء، فإن العدم لا يمكن إلا أن يكون له وزن، وفقا لمبدأ عدم اليقين للفيزيائي الألماني واسع الشهرة "فيرنر هايزنبرغ"، لأنه لا يمكن فيزيائيا للفراغ المطلق أن يحدث، لذا فإن هذا الفراغ يمتلك طاقة تتكثَّف وتتحوَّل إلى جسيمات دون ذرية، عندما يُقرِّر "غاروا" عرض منحوتة غير مادية في مساحة معينة، فإن تلك المساحة، بحسب وجهة نظره، ستُركِّز كمية معينة وكثافة معينة من الطاقة، أو قل من الأفكار، في نقطة مُحدَّدة، مما يخلق منحوتة تتخذ أكثر الأشكال تنوُّعا (7)(8).
لنحاول تبسيط الأمر فيزيائيا، لنفترض أن بين أيدينا زجاجة، نحن على يقين أنها فارغة، لكنها تحوي الأكسجين وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين وغيرها من مكونات الغلاف الجوي، لكن لو افترضنا أننا سحبنا كل الهواء من داخلها، وأبعدنا الزجاجة عن أي إشعاع، بالطبع سيكون الفضاء خاويا، لكن هذا غير صحيح بالنسبة لمبادئ الفيزياء الكمّية (9)(10).
لم تكن هذه محاولة "غاروا" الأولى للالتفاف حول تلك الفكرة المُقتبَسة من عالم الفيزياء، حيث سبق له أن وقف مُشهِرا تمثالا مزعوما له في ساحة "ديلا سكالا" في مدينة ميلانو الإيطالية، مُشيرا بيده صوب الخلاء، مُتفوِّها بالكلمات التالية: "أنت لا تراه لكنه موجود؛ فهو مصنوع من الهواء والروح، هو عمل يُطالبك بتفعيل قوة الخيال، القوة التي يمتلكها أي شخص، حتى أولئك الذين لا يعتقدون أنهم يمتلكونها" (11). لن تقف الأمور عند هذا الحد، فعلى ما يبدو، يعتقد "غاروا" أيضا أنه أشعل ثورة جديدة وحقيقية، لهذا لن يتوقَّف عن بيع أعمال أخرى غير مرئية.
في محاولته أن يهب منحوتاته الفراغية بُعدا فلسفيا، يجعلها "غاروا" علامة على العصر الحالي وميوعته. فبحسب رأيه، بات من الممكن الاستغناء عن الجسد، وإعلاء الصوت والصورة الافتراضية عليه في شبكات التواصل الاجتماعي. هذه المظاهر، التي هي أيضا غير مادية، تُعزِّز من حِدَّة الغياب الذي يفرض نفسه في أيامنا باعتباره الوجود الحقيقي الوحيد (12).
مَن هو "غاروا"؟ هو فنان المناظر الطبيعية الداخلية، يستخدم أسلوبا مُتدفِّقا لرسم أشكال مُبهَمة، وتتميز لوحاته باستخدام الأسود أُحادي اللون الذي يُثير جوًّا مُظلما مضطربا. الطبقات التي يبنيها في الغالب سميكة، تمحو حركتها المنتشرة حدود المناظر الطبيعية، وتنقل إحساسا مُقلِقا، لكنها، وبشكل متناقض، تجعل اللوحة القماشية نابضة بالحياة، على الرغم من جودتها التي تعطيك إحساسا بعدم الواقعية (13).
حسنا، لا بد أنك تتساءل الآن عن السبب في كل ذلك، تفهم الفكرة العامة لكن تتشعَّب في دماغك أسئلة لا بد منها، هل هو محتال أم كسول أم ذو بصيرة ثاقبة؟ هل ما يفعله يُعَدُّ فنًّا حقيقيا؟ وهل سبق له أن وُجِد؟ ولِمَ يُبدِّد أناس كل هذه الأموال في أشياء سهلة المنال ولا تحتاج إلى كل هذا القدر من العناء؟! بالعودة في الزمن طويلا إلى ما قبل ولادة "غاروا" يتضح كل شيء.
يميل عمل "غاروا"، وكذلك "كاتيلان"، إلى الانتساب إلى مدرسة "الفن المفاهيمي" (Conceptual Art)، يرتكز جوهر هذا الفن على الفكرة أو المفهوم باعتباره عنصرا أساسيا يقوم عليه العمل الفني، ويكون له الأسبقية في التمثيل على أي عناصر جمالية أخرى (14).
تخاطب المفاهيمية العقل بدلا من الحواس، إذ ترى أن الفن يجب أن يدور حول البحث الفكري بدلا من المتعة الجمالية (كما هو مفهوم تقليديا). لا تُعَدُّ هذه الأفكار جديدة كليا، حيث سبق أن أشار إليها الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" في القسم الأول من كتابه "نقد ملكة الحكم" (15)، ويُمكن القول إن هذا المبدأ هو الذي ربط الفن بالفلسفة، لأنه يتناول في المقام الأول الحياة والإنسان وقضاياه الوجودية مِن منظور فكري فلسفي، وتعود أصوله إلى السريالية (ما فوق الواقعية)، لكنه استقل بذاته بفضل أحد أوائل الأعمال المفاهيمية.
يمكن في هذا السياق أن نفهم كيف أن هذا النمط من الفنون مُلغَّم بكل ما هو غير تقليدي، مما يجعل العاملين به متورطين في مُساءلة مستمرة لمفاهيمهم حول العمل الفني الجيد: ممَّ يُصنع؟ وكيف ينبغي أن يكون؟ وما وظيفة الفنان؟ وما دور المُتفرِّج؟! لذا فعادة ما تكون ردات الفعل على هذا النوع من الفن هي الإحباط أو الانزعاج وطرح أسئلة مُستعصية.
يُرجِع الفيلسوف الإنجليزي "فرانك سيبلي"، الذي اشتهر بورقة بحثية عام 1959 بعنوان "المفاهيم الجمالية"، علّة هذا السخط إلى عدة أسباب يُلخِّصها في قوله: "يتعيَّن على المتلقي رؤية هوية العمل، كأن يُصغي إلى الشجن أو الجموح في الموسيقى، وأن يلاحظ بهجة الألوان أو أُفولها في اللوحة، أن يدركه الشعور بقوة الرواية، ومزاجها، أو عدم اليقين في نغمتها. قد تحوطه هذه المدركات دفعة واحدة، وقد يفطن إليها فقط بعد مرات من إمعان النظر أو الاستماع أو القراءات المتكررة، وربما من النقاد. المهم هو أن ترى أو تسمع أو تشعر" (16).
إذن، كيف لنا أن نتأثَّر بعمل فني من المفترض أساسا أنه فكرة؟ يؤمن أحد رواد هذا المذهب، وهو الفنان الأميركي واسع الشهرة "سول لويت"، أن "الفكرة نفسها هي عمل فني"، وأنه لا يتحتم على هذا الفن اتخاذ شكل مادي (17)، يمكن أن يُختزَل في مواد عديدة، كشيء يقوله أو يفعله الفنان، أو وثيقة ما، كما فعل "غاروا". لذا لا تستغرب أن بعض المهتمين بالفنون يعتبرون ما حدث بمنزلة ثورة فنية ضد التسليع المتزايد للفن أو القيود الإبداعية التي يفرضها الفن الحديث الذي يُدرَّس في أماكن تقليدية.
في عام 1917 تغيَّر الفن إلى الأبد، حدث ذلك مباشرة بعد أن ابتاع الفنان الفرنسي "مارسيل دوشامب" مبولة، أطلق عليها اسم "النافورة" (18)، وقدَّمها إلى معرض جمعية الفنانين المستقلين بوصفها عملا فنيا خاصا به، كان يعلم أنه لا يمكنهم رفض العمل ما دام قد دفع رسوم الدخول المطلوبة. وبالفعل، لم يرفضوه، لكنهم اكتفوا بوضعه في ركن خفي، استعادها "دوشامب" لاحقا بعد أن فتَّش المعرض لأيام بحثا عنها.
ما فعله "دوشامب" يُعرِب عن رغبة عارمة في تدمير فكرة الجمال ذاتها، عن تحدٍّ غرضه استفزاز واضح للنُّخب الفنيّة في أوروبا في فترة ما بين الحربين، والحط من قدر الفن (19)، أراد هنا أن يُبرهن أنه إذا قدَّم أحدهم شيئا ما على أنه فن، فمَن ذا الذي سيقول خلاف ذلك؟ مَن الذي يُقرِّر بالفعل ما إذا كان الشيء فنًّا أم لا؟ بعد سنوات هجر "دوشامب" الفن وكرَّس حياته للشطرنج.
أعاد "كاتيلان" ما فعله "دوشامب" بعمله الذي ذاع صيته "أميركا"، وهو مرحاض مصنوع بالكامل من الذهب الصلب، صنعه للاستهزاء بأقوى دول العالم. "كاتيلان" نفسه الذي باع الموزة المُثبَّتة على الحائط رمزا للسخرية من التجارة العالمية معروف بسخريته من عالم الفن ومؤسساته والقائمين عليه وجمهوره فاحش الثراء الذي يحب التباهي بثروته، بهذا يجيب عن سؤال "دوشامب" ويفضح عالم الفن المعاصر الذي لا يسير وفق الجدارة أو الجودة، بل بالمضاربة المالية، يُوجِّه انتقاداته اللاذعة إلى الفن من داخل عالم الفن، بدلا من الحفاظ على مسافة ساخرة منه (20).
أما "سالفاتور غاروا"، بمنحوتته غير الملموسة، فإنه لا يرمي إلى إحداث تمرُّد على غرار الفنانين السابقين، لكنه يقطع بنا مسافة إلى وادٍ من المفاهيم، نتساءل فيه: كيف أغرى الفن المفاهيمي أناسا بشراء أشياء غير موجودة؟ في الحقيقة، منذ ظهوره في الستينيات، أثار هذا الفن عند جامعي التحف الإعجاب والحنق معا، الذين لم يكونوا مستعدين تماما لدفع أموال مقابل هذه الأعمال التي تردَّدوا في أخذها على محمل الجد.
حينما ألَّف"جوزيف كوسوث"، الفنان الأميركي، عمله الفني المُسمى "كرسي وثلاثة كراسي"، عام 1945، الذي اشتمل على كرسي حقيقي مسند إلى جدار، وصورة لهذا الكرسي، ونص تعريفي يحوي معلومات عن الكرسي، اهتم جدا بالعثور على مُشترين، وسعى لذلك سعيا حثيثا، حيث رأى هو ورفاقه من أصحاب هذه المدرسة أن نجاحهم في ترويج أعمالهم هو مناهضة للرأسمالية (21).
بحلول منتصف السبعينيات من القرن الماضي، لقيت هذه الأعمال رواجا، كان الفنانون يجدون طرقا لبيعها باللعب على أوتار مُعادية للرأسمالية، وفي الثمانينيات نما سوق هذه الأعمال بما يكفي لكي تعقد دار كريستيز -دار مزادات الفنون الرائدة في العالم كله التي بلغت حصيلة مزاداتها في عام 2015 ما مجموعه 4.8 مليارات جنيه إسترليني- مزادا لثماني وأربعين قطعة من هذا النوع، أما اليوم، تزدهر هذه الأعمال إلى حدٍّ ما، كحال منحوتة "غاروا" (21).
مقصد هذا الفن إذن قد يكون السخرية التي احتلَّت مقاعد "جوزيف كوسوث"، والاستخفاف بشتى السياسات والفئات المتغطرسة والحمقاء، لكنه أخذ مع الوقت منحى لا يسعنا النظر إليه على أنه مجرد كسل أو هذيان، يهدف إلى ابتلاع أموال بعض الناس، أناس يبدو أنهم، ولشدة هوسهم وابتعادهم عن الواقع، نسوا كم المعاناة التي قد تساهم أموالهم في تخفيفها وإحداث ولو فارِق واحد طفيف في هذا العالم، فقرَّروا بدلا من ذلك إنفاقها لشراء موزة مُثبَّتة على حائط، أو قطعة من الفراغ.
_____________________________________________________
المصادر:
- A (Grudging) Defense of the $120,000 Banana
- Italian Artist Salvatore Garau Sells “Invisible” Sculpture For $18,000
- Imaginary art: artist sells immaterial work for R$90 at auction
- Italian Artist Sells Invisible Sculpture for More Than $18,000
- Artist sells invisible sculpture for over $18K
- ‘Invisible sculpture’ by Italian artist sells for Rs 13.36 lakh at auction
- Italian artist sells ‘invisible’ sculpture for more than £12,000
- An Italian artist has sold literally nothing for £12,900
- The Importance of Nothing
- Heisenberg’s Uncertainty Principle
- ‘Immaterial sculpture’: Italian artist sells invisible art for $18,300
- Woman Pays $10,000 For ‘Non-Visible’ Work Of Art
- About The Artists presented by Marninart
- Conceptual Art: A Beginner’s Guide
- Conceptual Art
- Conceptual Art
- How to Appreciate Conceptual Art
- CONCEPTUAL ART
- Conceptual Art
- Banana artwork that fetched $120,000 is eaten by ‘hungry’ artist