عمارة قبيحة.. لماذا لا نحب ناطحات السحاب والمباني المرتفعة؟

اضغط للاستماع

"علينا أن نعي أن التعمير المعاصر في بيئة الوطن العربي هو تعمير ملوث بصريا، وأن المعيش مع مصنعات أشكالها ملوثة بصريا تؤدي بدورها إلى أن تكبت تفعيل القدرات الحسية"

(رفعة الجاردجي)

رغم أن العمارة هي الضلع الثالث للفنون المرئية بعد الرسم والنحت، فإنها لا تحظى بالاهتمام نفسه، ربما بسبب عدم تسليط وسائل الإعلام المختلفة الضوء عليها. ما يميز العمارة عن الفنون المرئية أنها فن وعلم، هي فن لأن لها تأثيرا بالغا على عاطفة الإنسان وانفعالاته ومفاهيمه الجمالية، وعلم لأن لها شقا هندسيا تقنيا، كما أنها تتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية، لذلك فهي عادة ما تكون مرآة تعكس تطور وتراث وحضارة المجتمعات.(1) والعمارة هي إحدى الوسائل التي يبتكرها الفكر ويسخّرها في إرضاء حاجات الإنسان، التي منها تأمين بقائه وتحقيق الراحة السيكولوجية وإِشباع الحاجات الجمالية.

يقول رفعة الجاردجي في كتابه "دور المعمار في حضارة الإنسان": "إن ترقية العمارة ونضجها أو فسادها ستؤلف الحالات المتعددة لمعيش الإنسان ضمن البيئة المعمرة. وتؤلف نوعية العمارة بذلك ترقية البيئة المعمرة التي يعيشها الفرد أو الجماعة أو إفسادها". فالعمارة بحسب الجاردجي تتضمن نوعية الثقافات التي يتعامل ضمنها الفرد والجماعة في إدارة أسلوب حياتهم اليومية وكفاءة معيشتهم. لذلك فإن إفساد "التكوين الشكلي" للعمارة الذي يؤثر على معيشة الإنسان له دور في إفساد الأداة التي توظف في تفعيل القدرات المعرفية والحسية لمجتمع الإنسان. يكتب رفعة الجاردجي: "إن العمارة أكثر من أي مصنع آخر لها تأثير في حياة الفرد والجماعة التي تعيش ضمن جدرانها وبين أبنيتها وأزقتها وساحاتها العامة. تؤلف جودتها ونضجها وفي المقابل تلوثها وفسادها دلالة واضحة على حالة حضارة المجتمع الذي يصنعها ويديمها في الزمن".(2)undefined

إن عصرنا الحالي يشهد تشييد الكثير من المدن العملاقة في جميع أنحاء العالم، تزحف هذه المدن بأشكالها المعمارية شديدة الضخامة والطول لتحتل أماكن مدن قديمة، أو تُبنى من البداية في فضاءات جديدة غير مسكونة. لكن هذه المدن لم تُصمّم لخدمة حاجات الإنسان بقدر ما شُيّدت لأغراض رأسمالية. لقد اجتاح العمران الرأسمالي العالم وقتل شكل المدينة التقليدية وهمّش الإنسان جانبا، متروكا يلازمه شعوره بالاغتراب في قلب مدن بلا هوية ولا تاريخ ولا قيم تميزها، صُمّمت لتخدم السيارات والشركات ومراكز التسوق. وكان للمدن العربية، خصوصا تلك التي ظهرت حديثا بحسب ديفيد هارفي، نصيب لا يستهان به. تتعامل هذه المدن مع نسيجها المعماري ليس بوصفه مسألة تاريخية وحقا للجميع، بل بوصفه مساحات استثمارية سياحية إلى حد مجحف وغير قيمي.(3)

"إن أراد أحد في أي وقت أن يدفع لمختصين لوضع مخطط للمدينة ليقتل الحياة فيها فلن ينجزوا شيئا أفضل مما أنجزه العصريون في هذا الصدد"

(البروفيسور والمعماري جان غيل)

كيف نبني مدينة للإنسان؟

شهدت مدينة كرايستشرش النيوزلاندية زلزالا مدمرا عام 2011، دمر الزلزال معظم مباني وسط المدينة، خصوصا المباني الشاهقة منها، وأُغلقت المنطقة بالكامل، ومُنع الناس من دخولها، لأنه يجب هدم المدينة بأكملها قبل إعادة البناء مجددا. يقول هوج نيكلسون مدير التصميم الحضري إن الاستجابة الفورية للحادثة تُوجب إعادة بناء المدينة كما كانت من قبل بالشكل نفسه في أسرع وقت، لكن مع إجراء بعض الأبحاث عن المدن بعد الكوارث سيتضح أن الناس يعانون في ظروف كهذه من فقدان جزء كبير من جودة حياتهم حتى لو أُعيد بناء المدينة كما كانت، ولكي يشعر الناس ببعض التحسن واستعادة الجودة المفقودة قام المسؤولون بمبادرة جديدة، وهي معرفة أي نوع من المدن يريدها الناس، وما شكل المدينة التي يفضّلونها.undefined

كانت الفكرة تعتمد على أن جمع أفكار الناس معا سوف يساعد في فهم ما يحتاجه سكان المدينة للمضي قُدما، إذ إن الدمار الناتج عن الزلزال كان فرصة لبناء مستقبل جديد، وأطلقت الحكومة على البرنامج عنوان "شارك فكرة"، وهي حركة تدعو الناس لمشاركة أفكارهم عما يجب أن تكون عليه كرايستشرش، وانتهى المطاف بهم إلى 106 من الأفكار حول ما يجب أن تكون عليه المدينة، طُبعت جميع الأفكار على وريقات صغيرة وتم استخراج جميع الكلمات المفتاحية التي ركز الناس عليها، وكانت كالتالي:

أراد الناس مدنا خالية من المباني الشاهقة كما كانت المدن الأوربية القديمة، وأرادوا مساحات عامة يمكنهم الخروج إليها وقضاء الوقت بها، أرادوا المزيد من الحدائق والطرق للدراجات الهوائية، أرادوا مناطق تجارية أصغر وأن لا تبتلع المجمعات التجارية والشركات المدينة، أرادوا باختصار مدينة للسكان وليست للسيارات والمناطق التجارية.(4)

سكان هذه المدينة دون أن يُملي عليهم أحد شيئا، كانت أفكارهم مطابقة لما يقوم به المعماري "جان غيل" الذي كتب عن المدن والسكان لأربعين عاما في كل أنحاء العالم، والذي كان يرى أن الطريقة التي يبني بها البشر المدن لا تشجع على التفاعل والمشاركة والتقارب. وكانت تجربته مع مدينة كوبنهاجن الدنماركية واحدة من أفضل التجارب التي يمكننا من خلالها رؤية الجانب البشري في المدن الجديدة. كانت التصميمات المعمارية الجديدة منذ بداية الأربعينيات تتركز حول كيفية إتاحة المساحات والطرق السيارات، لكن جان غيل كان لديه رؤية أخرى.(5)

عندما كانت كوبنهاجن في الستينيات من القرن الماضي تمر بسلسلة من التغيرات الحضارية الكبيرة، بدأ جان غيل وفريقه بالعمل على تحويل الكثير من الشوارع إلى ممرات مشاة، وإتاحة مساحات لممارسة الأنشطة اليومية، وخلق ميادين عامة يتمكن الناس من قضاء الوقت بها، وباستبعاد السيارات عن الشارع الرئيسي في كوبنهاجن أصبحت أنماط سلوك الناس واضحة، ووثق جان غيل بطريقة منهجية خلال سنوات كيف ازدهرت الحياة العامة في كوبنهاجن بمقدار الضعف إثر هذه التغييرات.(6)

كوبنهاجن - أحد الميادين التي منعت فيها السيارات وأصبحت مساحة عامة للناس (مواقع التواصل)
كوبنهاجن – أحد الميادين التي منعت فيها السيارات وأصبحت مساحة عامة للناس (مواقع التواصل)

مع انتهاء الحرب العالمية اجتاح العالم رؤية حديثة في العمارة، أصبح الهدف الأول والأخير للعمارة هو "الوظيفة" دون النظر إلى أي قيم أخرى، فإذا كانت البنايات الشاهقة عملية وتوفر أماكن سكن للمزيد من الناس فسوف يتم اعتمادها، دون النظر إلى أن أولئك الذين يسكنون الطوابق شديدة الارتفاع لن يخرجوا من بيوتهم إلى الحياة العامة بسهولة أبدا. وإذا كانت الكتل الأسمنتية والزجاج متوفرة وسهلة الاستبدال فستكون هي مواد البناء الرسمية للعمارة الحديثة دون أي اهتمام بقدرتها الضعيفة جدا على التشكُّل والتعبير. أصبح هذا النمط القبيح شكلا عالميا للعمارة في جميع أنحاء العالم، في مقابل أنماط العمارة المحلية التي كانت تميّز كل دولة عن الأخرى وتحمل تراثها وقيمها.(7)

يتسابق المهندسون المعماريون في عرض مهاراتهم وابتكاراتهم، فكلٌّ منهم لا يود أن ينقل عن سابقيه ولا عن الماضي، يريد أن يخرج بتصميم جديد باهر لم نره من قبل، ويستخدم في ذلك الكثير من الخوارزميات المعقدة، لكن معظم الناس لا يحبون تلك الأشكال المعمارية الشرسة والحادة التي تقدمها العمارة الحديثة، معظم الناس يميلون إلى الطرز التقليدية والكلاسيكية القديمة في العمارة، تماما كما يفضلون اللوحات الكلاسيكية والرومانسية على اللوحات التجريدية وأعمال الفن المعاصر. لكن من المثير أن المعماري المسؤول عن تصميم المدن والبنايات للناس غالبا ما تختلف رؤيته وتفضيلاته وذوقه عن معظم هؤلاء الناس! وهذا منطقي إلى حد ما، إذ يُفضّل الموسيقيون المتخصصون مقطوعات مختلفة عن التي يحبها الجمهور وكذلك الفنانون التشكيليون.(8)

على المدن الجميلة ألا تكون فوضوية جدا ولا منظمة جدا

إن ما يجعل الناس يفضلون مدينة عن أخرى ليس لغزا معقدا، هناك مجموعة من الأشياء التي يتفق عليها الكثير من علماء النفس والفلاسفة والمتخصصين، والتي يتفق الناس معهم عليها مع كل استفتاء عما يفضّله الناس في العمارة والمدن. من بين هذه الأشياء أن تكون المدينة غير مصممة بنظام صارم أو مبالغ فيه، ولا تكون فوضى عارمة أيضا. يحب الجميع النظام المتوازن والذي يعني التوازن والتناظر والتكرار، أي أن نجد أشكال المباني تتكرر باستمرار وتتناظر، وهذا السبب في أن معظم الناس يحبون باريس. وبالطبع لا أحد يحب الفوضى العارمة التي نشاهدها في شكل البنايات المتضارب بشدة في الكثير من المدن خصوصا التي بُنيت حديثا.(9)

يميل الإنسان بفطرته وبطريقة لا واعية إلى محاولة تنظيم الفوضى، وعندما لا يتمكّن من ذلك يشعر بالإحباط وفقدان الطاقة، وهذا ما يحدث مع الناس في المدن. لا يعني هذا أنه يجب منع بناء ناطحات السحاب تماما، لكن على الأقل منع بناء تلك التي تُبنى دون أي تنسيق ولا تخطيط. كذلك، فالنظام المفرط الذي نجده أحيانا في المجمعات السكنية الحديثة يُعطي انطباعا بالملل ويبعث على الكآبة والبرود والتصلب، لذلك فالحالة المثالية هي تلك التي تجمع بين التنوع والنظام. والغريب أن الكثير من المدن القديمة كانت تتميز بهذا التنوع، فلماذا رغم كل ما توصل إليه البشر من تقدم تكنولوجي ونظريات متقدمة في العمارة لا يمكننا بناء مدن تضاهي جمال المدن القديمة؟ ما الذي كان يملكه أولئك الذين قاموا ببناء براغ وفلورانسا والمساجد القديمة في إيران والهند ولا نملكه نحن الآن؟(10)

البنايات في أمستردام متساوية في الطول والمساحة، لكن لكل بناية شكل ولون يميّزها مما يجعل المدينة منظمة ومتنوعة في الوقت نفسه (مواقع التواصل)
البنايات في أمستردام متساوية في الطول والمساحة، لكن لكل بناية شكل ولون يميّزها مما يجعل المدينة منظمة ومتنوعة في الوقت نفسه (مواقع التواصل)

لا أحد يحب السير في الشوارع الميتة!

تُخفي الكثير من المدن الحديثة الحياة بشكل مثير للدهشة، يجد المرء نفسه يسير في شوارع ميتة يحتاج فيها إلى استخدام وسيلة مواصلات لكي يحصل على الخبز أو الدواء على عكس المدن القديمة التي تعج شوارعها بالحركة والنشاط والتواصل الاجتماعي. بنايات مصمتة متجاوزة ولا أثر لوجود حياة أو بشر آخرين، ونادرا ما نجد فيها أشجارا أو نباتات، بالرغم من أهميتها. في مثل هذه المدن التي صُمّمت للسيارات، من الصعب أن تجد مساحات عامة يخرج إليها الناس للقاء بعضهم، وإن وُجدت تكون في الغالب ميادين طاردة مثل ميدان "لاس ديفاس" الذي تحيطه مباني رائعة تبعث على المهابة، لكنها لا تشجع على المكوث طويلا، يكسو الزجاج المباني بالكامل ولا يرى الناظر إليها أي مداخل أو نوافذ، مما يجعلها تُدير ظهرها للميدان التي تُطلّ عليه، ومن ينظر إليها يضيق صدره ويشعر أنه لا ينتمي إلى هذا المكان.(11)

جمال الشوارع الخلفية

لا يحب الناس البيوت التي تُبنى بانفصال تام، فالمدن الجميلة بها بنايات متقاربة وميادين عامة حميمية يشعر الناس بأنها جزء ممتد من منازلهم، الحياة تعني وجود شوارع خلفية يمكن للمرء الضياع فيها والشعور بالألفة والغموض في الوقت نفسه. الكثير من المدن الحديثة تُصمّم لكي تحمي الخصوصية، إذ يعتقد المعماريون أن هذا ما يريده الناس، لكنهم في الحقيقة لا يعلمون أن الناس يحبون أن يشاهدوا بعضهم بعضا أيضا.(12)

المباني الشاهقة وفقدان الطراز المحلي

ناطحات السحاب والمباني المرتفعة هي واحدة من سمات المدن الحديثة الأبرز، والتي على ما يبدو فشلت في أن يحبها الناس، المشكلة الكبرى في تلك البنايات أن الإنسان يشعر أمامها بضآلته، كما أنه كلما ارتفعنا بالمباني أكثر سيكون الخروج منها محدودا، وهذا يعني أن الناس في هذه المباني يعيشون حياة مملة ويقضون القليل من الوقت في الشوارع رغم أهمية التجول وممارسة الأنشطة الاجتماعية. عندما أُعيد بناء مدينة كرايستشرش رفض سكانها وجود ناطحات السحاب والمباني التي تزيد عن خمسة أو ستة طوابق، وكان الأمر صعبا جدا بالنسبة للحكومة، لما كانت تقوم به هذه الأبراج من نشاطات تجارية واقتصادية للمدينة، لكن بسبب تمسّك السكان بعدم وجودها خرجت مسودة بأن لا يزيد أي مبنى عن سبعة طوابق.(13)

كما أن هذا النمط في العمران يقضي بالتدريج على السمات التي تميّز العمارة المحلية في كل بلد، فبالرغم من أن المدن الجميلة بها بعض الأشياء المشتركة لكنها تختلف كثيرا أيضا عن بعضها بما تحمله من تاريخها وتراثها وقيمها. فلكل مدينة مناخها الخاص وموادها المحلية الفريدة التي تستخدم في البناء، فالمدن الجميلة لا تأخذ مباني آتية من أي مكان آخر وتخلق لنفسها أسلوبا معماريا يعكس هويتها وثقافتها.(14)

يرى عبد المنعم هيكل أن المبنى بالمدينة هو كلمة يوجهها المعماري إلى المشاهدين، وصورة يطالع بها الغادين والرائحين، وتكون مجموعة المباني والميادين بمنزلة حديث مستمر موجه إلى المواطنين، وكما أن لغة التخاطب تربطها أحكام من ناحية السلامة واللياقة وقوة وجمال التعبير، فهو يرى أن المباني أيضا يجب أن يُراعى في تصميمها قواعد الانسجام والتكامل وحس التأثير. فكما أن الكلمة النابية تؤذي شعور المستمعين، فإن الصور المتنافرة تؤذي أعين المشاهدين، لذلك فإن العمارة هي أداة تعمل على تكوين حس المواطن وتنمية ذوقه.(15)

ربما يفكر البعض بأن هناك ما هو أهم من جعل العالم مكانا جميلا للنظر، لكن الحقيقة أن التراجع عن هذا لن يوقف المدن التي يتم بناؤها باستمرار، فبالرغم من وجود الكثير من المشكلات الضخمة في عالمنا، فإن بناء المدن لا يتوقف، وسنجد أنفسنا محاطين بمدينة تكبّل أرواحنا. إن البيئات التي نحيط بها أنفسنا لها قدرة كبيرة في تشكيل أفكارنا ومشاعرنا وتغذية أرواحنا، فالشخص الذي يعيش في مكان رمادي، ينقطع عنه ضوء الشمس ومظاهر الطبيعة ويندر فيه التواصل الاجتماعي مع الآخرين، من السهل أن يقع فريسة للاكتئاب واليأس والقلق، وتلك القائمة التي يطلق عليها أمراض العصر الحديث.(16)

المصدر : الجزيرة

إعلان