شعار قسم ميدان

جرنيكا.. الأرض المحروقة في فن بيكاسو

ميدان جرينكا
إن اللوحة لا تقف أمام المدافع والرصاص؛ ولكني أجزم أنها تبعث الرعب في قلوب أعداء الحياة(رويترز)
"إن الفن لم يخلق لتزيين الغرف؛ إنه آلة يستخدمها الإنسان من أجل الحرب والدفاع ضد الأعداء، وكما بدا لنا من خلال المعارك التي مضت أنه على الإنسان أن يقاتل كل ما يهدد حرية التعبير"
 بابلو بيكاسو

في يناير 1937 كلفت الحكومة الإسبانية بابلو بيكاسو (1881- 1973) بإنجاز لوحة جدارية كبيرة لمبناها في المعرض الدولي الذي كان سيفتتح في باريس في يوليو من نفس العام. أصابت الحيرة الشديدة بيكاسو وكان يبحث عن فكرة مناسبة لتنفيذ هذه المهمة.

وفي يوم 26 أبريل عام 1937 دمرت قنابل سلاح الطيران الألماني؛ الذي كان يعمل لمساندة الفاشية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، سوقا صغيرا في قرية جرنيكا الواقعة في إقليم الباسك. ضُرب السوق بالقنابل في الوقت الذي كانت فيه طرقاته مكتظة عن آخرها ومليئة بالناس، لقد تحطمت القرية الصغيرة الآمنة، وتمزقت أجساد رجالها ونسائها وأطفالها.

مضت الطائرات تقصف وتقصف وتقصف طوال ثلاث ساعات، ولم يبق في القرية أي شيء حي، قتّلت البشر وهدمت البيوت والأشجار؛ حتى الحيوانات لاقت مصرعها. لقد تم اغتيال الحياة تماما في جرنيكا، هنا -فقط- وضحت الرؤية أمام بيكاسو، واتضح أمامه الطريق الذي كان يجب أن يسلكه.

 undefined

لقد كان قصف جرنيكا حدثا مروعا؛ لكنه واحد من تلك الأحداث المروعة التي اعتادها العصر الحديث منذ مطلعه وحتى مجازر حلب الأخيرة؛ لكن هذا الحدث المأساوي بالتحديد حظي باهتمام الفنانين والشعراء والكتاب بشكل خاص في ذلك الوقت، وقد تأثر بيكاسو بهذه الجريمة، وقرر رسم لوحة يصور فيها القرية المنكوبة، وأطلق عليها اسمها "جرنيكا".

وأصبحت جرنيكا (اللوحة) من أكثر أعمال الفن التشكيلي شهرة وأهمية، وهي لوحة جدارية يبلغ طولها 3.5 أمتار، وعرضها 7.8 أمتار، ولا تتعلق الجذور العميقة للوحة فقط بالعام الذي قذفت فيه القرية، فقد كان موضوع الحرب الأهلية الإسبانية يشغل بيكاسو حتى قبل أن يبدأ في الجرنيكا؛ ففي أثناء حياته عايش بيكاسو أقسى هجمة فاشية بقيادة فرانكو فتكت ببلاده، ودمرت عوامل الحياة فيها، وشردت المواطنين، ودمرت القرى والمدن، وفتكت بحياة الناس.

إن العالم اليوم يعيش ظروفا سياسية وفكرية وفنية نجد صداها المباشر في موضوع هذه اللوحة؛ فالعدوان الذي تتعرض له حلب وغيرها من المدن في المنطقة من القوى المعادية للإنسان؛ هو نفسه العدوان الذي تعرضت له جرنيكا، جوهر العدوان واحد؛ وهو محاولة اغتيال الإنسان، وكل أشكال الحياة الممكنة؛ لكن بالرغم من العدوان فقد عاشت جرنيكا خالدة، وقد أكد الفن هذا الخلود، وأصبحت جرنيكا وثيقة إدانة لكل عدوان.

قرية جرنيكا بعد القصف 1937.
قرية جرنيكا بعد القصف 1937.
كيف نقرأ جرنيكا؟

للوهلة الأولى سنجد أنفسنا أمام مشهد مجزرة مروعة، مكان تم قصفه للتو، دمار، وبقايا حريق، وأجساد، أشلاء ممزقة لحظة القذف، وضحايا تستغيث، وتصرخ، وتنتحب، وتتحشرج، وتحتضر… ضحايا متهالكة، وأجساد ملتوية وفزعة، وعلى وجوهها كل ألوان الهلع، وكل شيء على الأرض في الأسفل يختلط بأشلاء الضحايا.

في ذلك الوقت كان يعيش في جرنيكا 10 آلاف شخص؛ لكن اللوحة لا تعرض أي ازدحام، هناك تسعة أشكال في اللوحة؛ لكل منها دور مختلف، أربع نساء، وطفل واحد، وتمثال المحارب، والثور، والحصان، والطائر؛ تمثل طرق متعددة للإمكانات الوجودية، وأشكال عدة للحياة، لم تفرق القذائف بين أي منها، من المحتمل أن ما أراد بيكاسو قوله إن القذائف كانت تغتال جوهر الحياة والوجود ذاته.

ويقول أرنهيم في دراسته التحليلية للوحة إن حبكتها تتحكم فيها النساء؛ فالرجل الذي نصفه تمثال، ونصفه إنسان؛ ليس أكثر من قاعدة غير متحركة، وكذلك الثور غير متحرك، والحصان بارز؛ لكنه غير فعال؛ بينما النسوة يصرخن ويندفعن ويبكين ويسقطن.. إنهن يعبرن عن الحياة  في حركتها الدؤوبة التي تريد القذائف لها أن تتوقف مرة واحدة وللأبد، كذلك يمكن اعتبار النساء رمزية عن الجمال الذي أرادوا تشويهه؛ رغبة في إحلال الخراب والقبح.

لقد كانت جرنيكا في ذلك الوقت قرية من النساء والأطفال؛ بينما كان أغلب الرجال في جبهة القتال، ومع ذلك فقد كانت النساء والأطفال دائما لدى بيكاسو رمزا للاكتمال التام للجنس البشري، كما أن انتهاك حرمة النساء والأطفال كان في رأيه موجها أساسا إلى الأساس الجوهري للجنس البشري.

توحي اللوحة بالظلام؛ رغم أن القذف لم يحدث ليلا، وقد اختار بيكاسو كل الأشياء المتعلقة بالضوء والظلمة والألوان التي لم تتجاوز الأبيض والأسود والرمادي بسبب رمزيتها المباشرة، ومن الملاحظ أنه لا توجد سماء في اللوحة، ولا توجد طائرات؛ رغم اكتساء السماء بالطائرات في ذلك اليوم، لقد ابتعد بيكاسو تماما باللوحة عن أن تكون تقريرا سياسيا، وقام بتصوير آثار الوحشية والدمار التي يمكن أن تحدث في أي مكان وتجلب الألم والمعاناة الإنسانية.

لقد حاول الكثيرون تفسير رموز اللوحة؛ لكن اللوحة عمل فني؛ والفن له لغته الخاصة، وقد رفض بيكاسو نفسه أي محاولة لتفسير اللوحة بدلالة رموزها؛ فعندما قال أحد النقاد إن بيكاسو يريد بالحصان أن يمثل الوطنية الإسبانية، وبالثور أن يمثل الشعب الإسباني؛ رد بيكاسو بحزم: "إن هذا الثور هو ثور، وهذا الحصان هو حصان.. ومن حق كل مشاهد أن يفسرهما كما يشاء".

معارضة جرنيكا
  خزيمة العلواني، الجرنيكا الرابعة 1993 (مواقع التواصل الإجتماعي)
خزيمة العلواني، الجرنيكا الرابعة 1993 (مواقع التواصل الإجتماعي)
 
"إن لوحة جرنيكا حاضرة أبدا؛ ترهب أعداء الحياة والحرية، وإنه علينا جميعا أن نرسم لوحتنا الإرهابية". خزيمة علواني. معارضة الشيء بالمعنى الأدبي تحمل معنى التقليد، وهذا هو المقصود هنا، وهذه الحالة تفيض بالإعجاب بهذا الشيء وبجماله، لقد قام الفنان خزيمة علواني بمعارضة الكثير من الأعمال الفنية لفنانين كبار ما زالت أعمالهم حية حتى الآن؛ لكنه خص جرنيكا بيكاسو بمعارضة متميزة، توسعت فيما بعد، وتكررت ست مرات.

يقول علواني "إن جرنيكا هي نموذج لعمل فني حي وأبدي، وأي عمل يحمل هذه الصفة، يتمكن من أن يشدني ويجعلني أعارضه وأعاود الكرة مادام هناك شيء جديد يمكن أن أكتشفه فيه".

وكانت جرنيكا أيضا مصدر إلهام للفنان العراقي ضياء العزاوي؛ ففي اليوم التالي من وقوع مجزرة "صبرا وشتيلا" بدأ في إنجاز لوحته "صبرا وشتيلا" كصرخة غضب على المجزرة المروعة، يقول العزاوي "لم يكن بين يدي -آنذاك- سوى لفافة كبيرة من الورق، ومن دون تحضير أو تخطيط مسبق، قفزت فكرة اللوحة في رأسي، وقد حاولت فيها استعادة تجربتي الخاصة داخل هذا المخيم في بداية السبعينيات، بغرفه الصغيرة، وأزقته الضيقة". وقد ضمها متحف "تايت مودرن" في لندن لمجموعته الدائمة.

إن الفن يمتلك القدرة على انتزاع الحدث من لحظته التاريخية ويضفى عليه الخلود، لقد بقيت جرنيكا ليست فقط كتعبير عن مأساة مدينة إسبانية؛ بل إدانة لكل عدوان تتعرض له كل المدن المحاصرة بالمأساة والدمار.

ضياء العزاوي، صبرا وشتيلا 1982 (مواقع التواصل الإجتماعي)
ضياء العزاوي، صبرا وشتيلا 1982 (مواقع التواصل الإجتماعي)

يقول حسن سليمان إن بيكاسو بهذه الصورة خرج باللوحة من إطار الصورة التي يُستمتع بها في منازل الطبقة الفنية؛ بل إن الطبقة البرجوازية لا تستطيع أن تنظر إلى مثل هذه الصورة، إن مفاهيمهم تنهار أمام هذا العمل.

ويرى أن جرنيكا تعبر تعبيرا بليغا عن الصراع العنيف بين إرادة الحياة وإرادة التدمير والظلام؛ تعبر عن ويلات الإنسان وهلعه أمام إرادة التدمير الوحشية؛ فذلك الثور يطأ تحت أقدامه تلك المرأة الأم وطفلها الذي يمثل نضارة الحياة، إنه -حتى- لم ينس أن يجعل اليد المتقلصة على مقبض السيف المحطم؛ لا تتخلى عن تلك الزهرة الرقيقة، فهي تقاوم إرادة التدمير، وهناك في أعلى الصورة يظل المصباح مرفوعا؛ برغم القتل والدمار والهلع، إنه نور الحرية الذي لا ينطفئ.

ستبقى الجرنيكا شهادة في وجه العالم، تشهد بأن كل انتصار في الوجود لا يساوي شيئا؛ بجانب أنين حصان جريح، أو صرخة فزع طفل رضيع.

"إن اللوحة لا تقف أمام المدافع والرصاص؛ ولكني أجزم أنها تبعث الرعب في قلوب أعداء الحياة، إنها الخالدة على مر العصور". أليخاندرو غابريل

المصدر : الجزيرة