شعار قسم ميدان

لوحات الجنة والنار.. بين وردية النعيم وكابوسية الجحيم

في البدء، خلق الإله الكون كاملا، ثم خلق آدم وجعله يعيش في جنة عدن، لكن آدم شعر بالوحشة رغم كل هذا النعيم، فخلق الإله حواء، من ضلع آدم، فشعر بالسكينة. وهكذا، عاش الاثنان في مكان سعيد حيث لم يكن لديهم ما يفعلونه سوى العيش في دعة.

 

تلك هي الحكاية التي تتفق حولها معظم المعتقدات والديانات، زوجان يعيشان في الجنة ليس عليهما فعل أي شيء سوى عدم الأكل من شجرة معينة، إلا أن الشيطان وسوس لهما بأن هذه الشجرة هي شجرة الخلود، فأكلا منها وكانت تلك هي البداية؛ بداية ملحمة الوجود الإنساني على الأرض والسعي الحثيث للخلود بعد الموت.

 

ورغم أن العلم التجريبي لم يُقدِّم أي جواب حول ما إذا كان البشر يستمرون في العيش في شكل غير مادي بعد الموت أم لا؛ فإن المعتقدات كافة سواء كانت سماوية أو غير ذلك أكّدت البعث بعد الموت. وهكذا استمر الخلود شغل الجنس البشري الشاغل من يوم آدم وحتى آخر الزمان، ما الذي سيحدث لنا بعد الموت؟ هل سنُخلّد للأبد؟

"وماذا بعد؟
ماذا يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة؟

هل يُعيدونَ الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟

ما النهايةُ؟

لم يعد أَحَد من الموتى ليخبرنا الحقيقة..".
(محمود درويش، جدارية)(1)

هذا الشغل الشاغل للنفس البشرية عما سيحدث بعد الموت تناوله المعري ودانتي كلاهما في رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، فقد قدّم الأديبان تخيُّلا لنعيم الجنان وعذاب النيران بخيال جامح، ورغم أن هذه الرحلة كانت محور نقاش وسجال مفكرين وأدباء عدة؛ فإن نفرا قليلا هم مَن استطاعوا تصويرها والكتابة عنها.(2)

 

فالمعري الذي كان أعمى ودانتي الذي كان منفيا لإيطاليا عاشا محنا شديدة وقاسية، وربما كانت تلك المحن هي الدافع لتخيُّل ما ينتظر النفس البشرية من ألم وسعادة في عالم آخر. فالمعري "صائم الدهر الذي حرّم على نفسه لذات الدنيا، ملأ جنته بالخمر والنساء، وتفنن في حشد صنوف من اللذائذ الحسية والشهوات المصورة" على حد تعبير بنت الشاطئ التي قامت بأفضل تحقيق لنص "رسالة الغفران".(3)

 

أمّا دانتي فكان يتصور موقع الجحيم بعيدا عن الإله الذي يسطع نوره فوق الجنان، وكذلك اعتقد بوجود حالة وسط بين الجنة والنار وهي المطهر، وهي جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، فهو يصبو في قرارة نفسه إلى رحلة ارتقاء روحي نحو النعيم والسكينة الدائمة بعد كل ما لاقاه من غُربة وآلام.(4)

 

رغم الجدل القائم بأن دانتي استوحى عمله من المعري، بسبب التشابه في الفكرة والكثير من التفاصيل، فإن العملين، بتصويرهم المجازي المبدع للنعيم والجحيم، صارا أشهر الأمثلة الأدبية لقرون، بل وتبنّى الكثير من الرسامين تلك الرؤية للجنة والنار في لوحاتهم.

 

وتستكشف معظم اللوحات الفنية الواردة في سياق النار حجما هائلا من العذاب والمعاناة التي تميل لأن تكون معاناة نفسية كما يظهر مثلا في لوحة "حديقة المباهج الأرضية" (The Garden of Earthly Delights)، التي رُسمت في خمس سنوات، من 1500 إلى 1505، وتُعَدُّ واحدة من أكثر اللوحات التي تناولت الجنة والنار غموضا.

فقد استعرض الفنان الهولندي هيرونيموس بوس (1450-1516) في لوحته الزيتية، 220×389 سنتيمترا، بداية خلق الكون، ثم منشأ الخطيئة الأولى التي أدّت إلى وجود الحياة الأرضية التي يخرج منها الإنسان للنار بسبب ضعفه أمام رغباته وشهواته.

 

وفي سبيل تصوير فكرته تلك، استخدم الكثير من الصور والرموز لحيوانات مشوّهة أقرب للعفاريت أو الشياطين، كما استخدم أشكالا مجازية غريبة لمخلوقات غير موجودة حتى في الأساطير، الأمر الذي جعل تفسير اللوحة التي تُشبه البيت الضخم لغزا في حد ذاته.

 

فاللوحة لها وجهان؛ وجهها الداخلي يتكوّن من ثلاثة أقسام، ووجهها الخارجي من قسمين، وكل قسم من الأقسام الخمسة مجتمعة يحكي قصة من قصص الخلق والخطيئة والنزول للأرض وصولا ليوم الحساب، بذلك يصبح كل قسم لوحة في حد ذاته، وتجتمع اللوحات الخمس في عمل واحد ضخم. واللوحة من الخارج عبارة عن ضفتَيْ باب مغلق، وعلى هذا الباب رسم بوس عملية خلق العالم، ويظهر فيها المساحات الخضراء التي بدأت في تلبيس الأرض التي لا تزال نقية وشفافة بلا خطيئة تُذكر، وهو تصوُّر تقليدي للعالم المخلوق على أنه كرة بلورية يمسكها الرب أو المسيح في العالم الغربي. ورغم وجود الغطاء النباتي، فإن الأرض لا تحتوي بعد على حياة بشرية أو حيوانية.

 

لوحة "حديقة المباهج الأرضية"
(لوحة "حديقة المباهج الأرضية")

 

بفتح الباب، يجد المشاهد نفسه أمام ثلاث لوحات أُخريات؛ من اليسار لليمين، لوحة خلق آدم وحواء وعيشهم الممتع في جنة النعيم، وفي المنتصف نجد الحياة الأرضية وهي بذلك تقع تحت لوحة الأرض أثناء خلق العالم قبل وجود البشر. وعلى اليمين يقع الجحيم، فإذا أغلقت اللوحتان على اليمين واليسار فسنجد خلق العالم مرة أخرى.

 

والعمل بشكل عام يتميز بقدر معجز من الخيال والرموز والفانتازيا، ويبدو ذلك واضحا في المشاهد الوحشية الكابوسية في الجحيم؛ هذا بالطبع غير أساليب التعذيب الغريبة الموجودة فيه. ومع ذلك، لم يمنع تصوير بوس في الكثير من أعماله لشرور البشر من تصوير جمال العالم ونعيم الجنان.

"العالم كومة قش يأخذ منها كل فرد ما يستطيع".(5)

(مثل فلمنكي)

تُظهر حديقة المسرات الأرضية مهارة بوس منقطعة النظير، فالسمة الرئيسية لهذا العمل هي جودته التي تشبه الحلم. العديد من الشخصيات البشرية العارية، والطيور العملاقة، والخيول تتمايل يمينا ويسارا وتتسم بالمرح في مشهد غير معقول ومبهج من عالم آخر، وكل العناصر مجتمعة لإنتاج صورة متكاملة ومتناغمة.

 

كذلك تُعَدُّ لوحة دانتي وفرجيل، المرسومة عام 1850، للرسّام الفرنسي ويليام أدولف بوغيرو (30 نوفمبر/تشرين الثاني 1825- 19 أغسطس/آب 1905)، واحدة من أشهر اللوحات التي تناولت الجنة والنار معتمدة على الكوميديا الإلهية لدانتي بشكل واضح.(6)

 

لوحة دانتي وفرجيل

 

حيث يشاهد دانتي، برفقة فيرجيل، معركة بين روحين ملعونتين: كابوتشيو، وهو مهرطق وكيميائي يتعرض للهجوم والعض على الرقبة، إلى ما لا نهاية على طريقة سيزيف، من قِبَل جياني شيشي الذي اغتصب هوية رجل ميت من أجل المطالبة بميراثه عن طريق الاحتيال.

"السيد بوجيرو يُصوِّر بشكل رائع من خلال العضلات والأعصاب والأوتار والأسنان، الصراع بين المتنافسين. هناك مرارة وقوة في هذه اللوحة".(7)

(الناقد والشاعر تيوفيل غوتييه)

في اللوحة، يُركِّز بوغيرو كعادته على إظهار جماليات الجسد البشري لدرجة تشويهها، ومثال على ذلك تضخيم البنية العضلية للأرواح الملعونة وإبراز الشعور بالرعب، كما استخدم الألوان الحارة لإظهار حرارة النيران بشكل درامي.

 

لوحة أخرى هي "المسيح في دهاليز الجحيم" (Christ in the Limbo)، المرسومة عام 1579، للرسام الفلمنكي يان بروغل الأكبر (1568-1625)، بالتعاون مع رسام المناظر الطبيعية هانز روتنهامر (1564- 1625) في روما، التي تصور رحلة المسيح في دهاليز الجحيم أو الليمبو لإنقاذ الأرواح الوثنية التي أتت للحياة قبل ميلاده ولم يتسنَّ لها الإيمان به.

لوحة "المسيح في دهاليز الجحيم"
لوحة "المسيح في دهاليز الجحيم"

"وفي الليمبو توجد أرواح الأطفال الذين لم يعمدوا، وأرواح العظماء والأبطال وأصحاب الفضائل من العالم الوثني، وخاصة شعراء وفلاسفة الإغريق والرومان الذين عاشوا قبل مجيء المسيح، وهم لم يرتكبوا إثما عندما ماتوا دون أن يؤمنوا به، ولكنه هو الذي يمكنه أن يخلصهم".

(دانتي، الكوميديا الإلهية)(8)

ونرى في اللوحة الليمبو كهفا واسعا بشكل كبير تتدافع فيها الأرواح نحو المسيح الواقف على شِمال الرائي، وتحاول الأرواح العالقة في الليمبو الوصول للمسيح ليأخذهم للجنة. اللوحة مشهد بانورامي تطغى عليه الدراما والأجواء الملحمية، وقدّم فيها بروغل وروتنهامر رهطا من الناس والجن والعفاريت والوحوش في أجواء كابوسية اتباعا للتقليد السائد في رسم الجحيم.

 

عنوان ميدان

رغم أن الرسامين الذين تناولوا الجحيم في لوحاتهم أبدعوا إلى حدٍّ كبير في تخيُّل صنوف العذاب والوحوش المفترسة والآلام التي تنتظر البشر، فإن الأمر لم يكن سيان في لوحات النعيم، فالرسامون الذين تناولوا الجنة في لوحاتهم لم يستطيعوا تخيُّل الجنة غير أنها صورة مُحسّنة من الأرض.

 

ففي لوحة "سهول النعيم"، التي رسمها الإنجليزي جون مارتن (1789-1854) في الفترة ما بين 1851-1853، التي كانت في الأصل تحمل عنوان "كل الأشياء تصنع جديدة"، صوّر مارتن النعيم في شكل مناظر طبيعية أرضية رحبة تفيض بالسلام والنور.

سهول النعيم جون مارتن
سهول النعيم جون مارتن

"رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة…، المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من عند الله من السماء، مهيأة كعروس مزينة لزوجها".

(سفر الرؤيا)

وجدير بالذكر أن مارتن كان يستوحي معظم لوحاته المتعلقة بالطبيعة من المناظر الطبيعية الإيطالية، وفي اللوحة نرى تصويرا بانوراميا لهضاب جليدية ووديان خضراء مصوّرة بألوان مائية بدون أي كائنات فواقعية أو أجواء ساحرة، ولهذا السبب تلقت اللوحة الكثير من النقد، حيث اتهم النُّقاد مارتن أنه لم يُقدِّم في اللوحة غير المناظر الطبيعية المعتادة في ذلك الوقت.(9)

"لقد كانت اللوحة منظرا رومانسيا ومثاليا من وحي خيالي".(10)

(تونر ردا على نُقاده)

هناك أيضا لوحتان للفنان الهولندي هيرونيموس بوس، بحكم ولعه الشديد بالعالم الآخر، وهما "صعود المباركين" و"الجنة الأرضية"، واللوحتان كلتاهما لم تُقدِّما أي منظر متخيل للجنة الحقيقة، فعجز جون مارتن عن تصوير النعيم لم يكن حالة استثنائية بل كان القاعدة.

"صعود المباركين" و"الجنة الأرضية"
"صعود المباركين" و"الجنة الأرضية"

ونرى في لوحة "صعود المباركين" نفقا ثلاثي الأبعاد كبيرا في أعلى اللوحة، ستعبر منه الأرواح المقبولة إلى الجنة التي صوّرها بوس هنا في شكل نور أبيض. أسفل النفق مباشرة، توجد مجموعة من الملائكة تساعد النفوس البشرية المباركة على الخلاص. كما يوجد في الأجزاء السفلية من اللوحة ملاكان لكل روح، مما يشير إلى أن بعض البشر يحتاجون إلى مساعدة أكثر من غيرهم. وتتميز اللوحة أيضا بالتناقض العالي بين الظلال الخافتة أسفل النفق، والنور الساطع الموجود وراءه.

 

أما في لوحة "الجنة الأرضية"، فإن بوش يُصوِّر النعيم بأنه هو نفسه الأرض بعدما ذهب عنها كل سوء وغُسِل ما تبقى من خطايا المنقذين من ينبوع الحياة على قمة التل الظاهر في أعلى اللوحة. وباستثناء الملاك الموجود أسفل يسار المشاهد، لا يوجد أي عنصر أو شكل فواقعي يسترعي الانتباه، وذلك على النقيض تماما من لوحته "حديقة المباهج الأرضية" التي كانت ممتلئة بالمخلوقات الغريبة والمتوحشة.

 

لوحة أخرى تُصوِّر الجنة هي "جنة عدن" (The Garden of Eden)، للرسام الباروكي الفرنسي نيكولا بوسان (1594-1665)، التي أطلق عليها أيضا اسم "الربيع"، وقد رسمها عام 1660 تقريبا، وقد اعتبر بوسان أن حدائق فرنسا وغاباتها في الربيع هي جنة عدن، أو أن جنة عدن شبيهة بها.

لوحة "جنة عدن"
لوحة "جنة عدن"

واللوحة عبارة عن مشهد بانورامي لحديقة ضخمة مليئة بالأشجار والنباتات ويجلس فيها آدم وحواء في المنتصف ومن فوقهم على اليمين يوجد الرب، وفق التخيُّل الغربي، يطوف في الجنة على ظهر سحابة.

 

لوحة بوسان كغيرها لم تُقدِّم عن الجنة أو النعيم شيئا جديدا أو غريبا هي الأخرى، والمشاهد لا يرى في اللوحة سوى مشهد باروكي ضخم، كعادة لوحات تلك الفترة، مثقل بتفاصيله ومرسوم بحنكة وموهبة فريدة لكنه مجرد منظر طبيعي وسط عشرات مئات لوحات المناظر الطبيعية.

"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".

(حديث قدسي)

ويمكن القول إن العقل البشري، في سياق الفنون التشكيلية، لم يستطع أن يُبدع في تصوير الجنان، حتى في ظل وجود عمالقة الرسامين أمثال بوس وبروغل الأكبر وغيرهم، فقد ظل هناك حاجز ضخم بين الخيال البشري والجنة، فتارة يتخيلها البعض حديقة، وتارة أخرى يتخيلونها نورا.

 

ذلك في الوقت الذي أبدعت فيه المخيلة الفنية لرسّامين عدة على مر العصور في تصوير أهوال الجحيم وسجنه ووحوشه وعذابه، ويكأن العقل البشري له قدرة عالية على تخيُّل كل ما هو بشع ومرعب ومأساوي، وعاجز إلى حدٍّ كبير عن تخيل أي جمال ما ورائي متجاوز للمناظر الطبيعية التي ألفتها عينيه.

_________________________________________________

المصادر

  1.  درويش، محمود. جدارية، دار رياض الريس، 2000.
  2.  دانتي ورسالة الغفران: وحدة فكرية وطرقات متباينة
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5.  Reuterswärd, Patrik. "A New Clue to Bosch’s Garden of Delights". The Art Bulletin.
  6.  "Musée d’Orsay: William Bouguereau Dante and Virgil"
  7. المصدر السابق.
  8.  أليغييري، دانتي. الكوميديا الإلهية، ترجمة: حسن عثمان، دار المعارف.
  9.  ‘The Plains of Heaven’, John Martin, 1851–3 | Tate
  10. المصدر السابق.