عمارة المنحنيات.. هكذا زرعت "زها حديد" الأنثى بتصميماتها
زها حديد، أول معماريّة تحصل على جائزة بريتزكر في الهندسة المعمارية عام 2004، وبريتزكر في قيمتها تعادل نوبل في الهندسة، كما حصلت على وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني عام 2012، وحازت أيضا على الميدالية الذهبية الملكية ضمن جائزة ريبا للفنون الهندسية عام 2016.[1]
زها، امرأة عربية عراقية الأصل ولدت في بغداد في 31 أكتوبر/تشرين الأول عام 1950، أتمت دراستها الثانوية في بغداد ثم انتقلت لدراسة الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت؛ فحصلت على ليسانس في الرياضيات عام 1971، عملت بعدها معيدة في قسم العمارة ثم أستاذا زائرا في عدة جامعات أوروبية منها هارفارد وهامبورج.[2]
"إن مشاريع زها حديد تُشبه سفن الفضاء، التي تسبح دون تأثير الجاذبية في فضاء مترامي الأطراف، لا فيها جزء عالٍ ولا منخفض، ولا وجه ولا ظهر، فهي مبانٍ تظهر وكأنها في حركة انسيابية في الفضاء المحيط، ومن مرحلة الفكرة الأولية لمشاريع زها إلى مرحلة التنفيذ؛ تقترب سفينة الفضاء إلى سطح الأرض، وفي استقرارها تُعتبر أكبر عملية مناورة في مجال العمارة"[3] – (أندريس روبي، ناقد ومنظَّر معماري)
مِن الصعب جدا تقليد أيٍّ مِن أعمال حديد المعمارية، فكل مبنى هو حالة خاصة فريدة. فحديد لا تستقي أفكارها مِن أي معماري سابق لها، بل تخلق العمل وتبتكره ابتكارا حتّى وإن كانت تتبع في فلسفتها ككل مذهبا معماريا مُعيّنا ألا وهو "العمارة التفكيكية". لكن قبل أن نفهم ما العمارة التفكيكية يجب أن نفهم أولا ما التفكيك؟
التفكيكية هي فلسفة وثيقة الصلة بالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 – 2004)، وهي إستراتيجية اعتمدها دريدا لا تعترف بسلطة ووحدة المعنى العام للنص بل بتعدديته، لذلك فقد صِيغَ التفكيك في البداية كتكنيك لتفسير الأعمال المرئية والمكتوبة المعقدة.[4]
نظرة دقيقة للتفكيك توضح أن كل بنية، سواء كانت أدبية أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية، يقوم عليها أي نظام تُسن ويُحافظ عليها بأفعال استبعادية. بمعنى، أن أثناء خلق شيء ما، ستستبعد لا محالة ما لا يتفق معه. بالتالي، تصبح هذه البنى الاستثنائية قمعية، كما أن القمع يصبح إحدى النتائج المترتبة عليها. بطريقة تذكرنا بفرويد، يصر جاك دريدا على أن ما يتم طمسه وقمعه يعود مرة أخرى لزعزعة البناء، مهما بدا البناء في مأمن[5].
كانت التفكيكيّة الفلسفيّة تيارا ضِدّ المألوف والكلاسيكي، وامتدت حالة التمرُد التي أسسّت لها التفكيكيّة فخرجت مِن الفلسفة لتطال الأدب والفنّ بِما في ذلك فنّ العمارة. قوّضت العمارة التفكيكيّة المُتعارف عليه في البناء الكلاسيكي، ولو جاز لنا تعريف الأشياء بالتضاد فإنّ هذه هي عمارة التكسير لكلّ ما هو طبيعي وتقليدي، فتفكّك البناء إلى قطع وأشلاء. لقد تمردت التفكيكية على قواعد إقليدس وضربت بها عرض الحائط.
تبدو العمارة التفكيكيّة هُنا أنها عمارة تَدمِيريّة! إلا أنّها على العكس من ذلك عمارة نقديّة، "عمارة المُفاجآت غير المتوقعة"[6] على حد تعبير المعماري والمُنظِّر الأميركي تشارلز جنكس، فهي تسعى لهدم إيجابي بغرض إعادة البناء، فيخرج البناء الجديد بالضرورة معارضا ومختلفا عن الكلاسيكي التقليدي.
في كلمتها الافتتاحيّة لمركز حيدر علييف الثقافي في باكو – أذربيجان، تقول حديد: "يُمكنك اعتبار البناية منظرا طبيعيا، أو على الأصح منظرا هندسيا يُلامِس الأرضَ ويتمددّ مِنها مِن دون أنْ يقف أي شيء في وجهه. بالداخل مثلا هناك أماكن مُترابطة مِن دون أي شيء يعترضها، وهذه كانت الفكرة النظريّة منذ البداية وجرى تنفيذها بنجاح".[7]
نفّذت حديد 950 مشروعا في 44 دولة،[8] وأتت أعمالها أشبه بالثورة على التقليدي، فلم تكن مجرد مهندسة معمارية. إن مبانيها تعطي انطباعا بحالة شديدة من اللايقين، لا شيء في مكانه؛ انعكاس واضح وصريح لفلسفة اللامركزية، ومع ذلك استطاعت زها أن تعطي اللامركزية هذه هويتها الخاصة.
اُختيرت حديد كرابع أقوى امرأة في العالم في 2010 حسب تصنيف مجلة التايمز، وفازت بالمركز 69 في العام التالي في قائمة أقوى مئة امرأة في المملكة المتحدة[9]، بعد أن حققت المعمارية العراقية شهرة عالمية وحصدت عشرات الجوائز والأوسمة والميداليات والألقاب الشرفية.
هناك أحداث مفصلية في حياة حديد قدمت دعما شديدا لها لتسير إلى العالمية بخطى ثابتة، أولها، أن أبويْ حديد شجعاها وقدّما رعاية لاهتمامها الواضح بالعمارة والتصميم منذ الطفولة. فوالدها، الوزير العراقي الأسبق محمد بن حسين محمد اللهيبي (1946 – 1999)، ترك لطفلة لم تبلغ الحلم مهمة اختيار أثاث وديكور غرفتها الخاص وغرفة استقبال الضيوف.[10]
"لقد كانت طفولتي رائعة"[11]
– (زها حديد)
الحدث الثاني، أتى مشروع تخرج حديد من الجامعة الأميركية، عام 1977، في بيروت صادما للمتعارف عليه في مجال الهندسة المعمارية، فاستقت فكرة التصميم من الفن التجريدي الحديث، وظهر مشروع تخرجها مليئا بالكسور والأشكال الهندسية غير المُنظمة وكأنه عمارة مُناهضة للعمارة.[12]
"ملكة المُنعطفات، التي حررت الهندسة المعمارية وأعطتها هوية جديدة مُعبّرة بالكامل"[13]
– (النيويورك تايمز عن زها حديد)
الحدث الثالث، كانت زها شابة طموحة جدا تسعى لإثبات نفسها وبجدارة على ساحة الفن المعماري عالميا، ففازت بمسابقة عالمية في تصميم نادٍ ترفيهي في هونج كونج. لقد كان الفوز بالمسابقة أحد أهم الأحداث المفصلية في حياة حديد، لقد كان اعترافا عالميا بأسلوبها غير العادي الذي تلقّت بسببه الكثير من النقد وليس مُجرد مهندسة شابة فازت بجائزة.[14]
تُوفيت حديد بشكل مُفاجئ في ميامي في الولايات المتحدة في 31 مارس/آذار عام 2016 عن عُمر ناهز الـ 65 عاما، إثر إصابتها بأزمة قلبيّة، تارِكة إرثا مِن العمارة الخياليّة الفريدة غير القابلة للتقليد بحس فنّانة مرهفة الحسّ وليس مجرد مهندسة معماريّة.[15]