لوحات الطبيعة الصامتة.. رومانسية تحاول التكفير عن حماقات العقل
"هناك متعة في الغابات الوعرة التي لم يسلكها أحدٌ. هناك طرب في الشواطئ المهجورة، هناك مجتمع لا يتطفل عليه أحد، في أعماق البحار، والموسيقى في هديره."[1]
(لورد بايرون)
يُحكى أن عددًا من الفنانين والمفكرين، في الفترة ما بين أواخر القرن الثامن عشر ومنصف القرن التاسع عشر، كان قد اجتمعوا على اعتقاد قوي بأن المصدر الحقيقي للإلهام والتجربة الجماليّة يكمن في قوة المشاعر والعواطف.[2] رأت تلك المجموعة من الفنانين أن للخيال سلطة نافذة، وأن الخير في الطبيعة، والإنسان باق. بل أن المجتمع ومؤسساته هم ما شوهوا وأفسدوا نقاء الفرد بميلهم المنحرف نحو عقلنة كل شيء ونزع السحر عن الطبيعة وتحويلها لمادة جامدة.[3]
فيما بعد، عملت تلك المجموعة على تأسيس ما عرف بالرومانسية. وهي حركة فنية تحس على العودة إلى الطبيعة والحياة الفطرية، إذ إن أطماع الإنسان قد تطورت بتطور المجتمع، وأحس أنه في مجتمع يفرض عليه تبادل المصالح مع الآخرين.[4] كل ذلك، من شأنه أن يكوِّن في النفس البشرية الأنانية وحب الامتلاك والنزوع نحو الخلاص الفردي، ولقد كان الإنسان الفطري البدائي سعيداً في حياته، وفي معيشته، آمناً في كوخه، لا يحمل لغيره من الناس إلا الخير والحب وفقا لفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو.[5]
بالنسبة لتلك المجموعة، فهناك ثمّة نوع من الحنين فينا لشيء غامض في الطبيعة. حنينٌ يستعصي علينا فهمه، مثل الحنين لشروق الشمس وغروبها، لهدير البحر ونجوم الليل، كحنين طفل صغير فقد أمه في معترك الحياة. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، 1850 – 1875، صار هناك توجه مكثف نحو الانغماس في الطبيعة كأنها بيتٌ ضخم يضُم كل الموجودات، وعرفت تلك الحركة بـ "النورانية/ اللومنستية/ Luminism". فالطبيعة، دون الحاجة للتجميل أو تزييف البهجة، يمكن رسمها بواقعية شديد دون الحاجة للتكلف. فهي جميلة وروحانية وهادئة بذاتها.[6]
وتعتمد الحركة على الظواهر الطبيعية المرصودة عن كثب، خاصة الظواهر التي تتميز بدرجات معينة من الظل والضوء. وتركز اللومنستية على الامتداد الأفقي للمنظور، مع ركود مكاني عميق فيكون المشهد بانورامي جدا. كما يتم التركيز على رسم الأسطح بواقعية شديدة حتى لا يكاد يكون هناك أثر لضربات الفرشاة. بذلك تظهر المشاهد مطبوعة بصمتٍ عميق.[7]
"لقد بدا أنّنا لا نقرأ شعر كتبه شاعر ما عن شيء ما، بل شعر تلك الأشياء تتحدث عن نفسها."[8]
(الناقد الفني الأمريكي جون باور، عن اللومنستية)
تأسست اللومينستية أو النورانية على أساس فلسفي وهو إعطاء الطبيعة الأم الوهج أو "التلألؤ luminosity" والبُعد الروحي والميتافزيقي الذي تستحقه بعد أن نزع عصر التنوير السحر عن العالم بنزوعه نحو الفلسفة المادية.
"ما يرنو إليه رسام المناظر الطبيعية ليس رسم المشهد الطبيعي، بل الشعور الذي يخلقه المشهد الطبيعي في نفسه."[9]
(الرسّام الأمريكي ويليام كيث عن اللومينستية)
ونرى في لوحة "بيتسفورد على قناة إيري"، 1837، للرسّام الإنجليزي جورج هارفي (1800 – 1878) ، مشهد نهاري لقناة إيري يسبح فيها بعض البط في شمس متوسطة الحرارة. على جانبي القناة تصطف الحشائش والأشجار. فيما يقود رجل بعض الخيول وقارب به بعض الأشخاص في منتصف اللوحة.
تحمل اللوحة شعور بالدفء والسكينة خاصة مع توزيع نور الشمس بخفة على الأرض خلف المركب. وقد رسم هارفي الضوء بحرفية وخفة فلا يشعر الرائي أن هناك لونًا حارًا مقمحًا في اللوحة بل أن الضوء ينساب في ثنايا المشهد. كذلك حافظ هارفي، بحكم التوجه العام للومنستية، على رسم منظور واسع بانورامي للغلاف الجوي والسحب وهو ما أعطى المشهد طابع السعة وجعله مريحًا للعين. وقد صارت اللوحة بعد ذلك إحدى أشهر لوحات اللومنستية على الإطلاق.[10]
عملٌ آخر يحمل ملامح الحركة هو "مشهد طبيعي لقمة جبلية"، 1870، للرسّام الأمريكي ألبرت بيرشتات (7 يناير 1830 – 18 فبراير 1902). والذي عُرف بمناظره الطبيعية الساحرة والواسعة عن الغرب الأمريكي. في اللوحة، نرى رسم منظور واسع وبانورامي لمشهد طبيعي يحتل الغلاف الجوي الجزء الأعلى منه مع التركيز على قمة الجبل التي تسبح بين الغيوم. ركز بيرشتات على درجات اللونين الأبيض والبنفسجي في رسم الغلاف الجوي والسحب. ثم انتقل للألوان الطبيعية للوادي.
المشهد لا يترك في العين أدنى إحساس أنه مرسوم. فنحن لا نرى أثر لضربات الفرشاة أو الخطوط التي تُحدد عناصر اللوحة. فالعناصر كلها اجتمعت في تناغم واقعي دون اقحام للون أو عنصر غريب على البيئة. وكعادة اللومنستية، تعكس اللوحة البعد الروحي للطبيعة الذي يظهر سعة وضخامة المشهد.
كذلك نرى في لوحة "حفلة صيد"، 1850، للرسّام الأمريكي فيتز هنري لين (1804 – 1865)، وهو أحد أشهر رسامي الحركة اللومنستية، نفس الاستخدام الانسيابي للظل والضوء الذي ينعكس على البحيرة من القمر ليلا.
تحمل أعمال لين عادة عدد من السمات التي تميزه كواحد من رواد اللومنستية. فهو يقوم بتضمين المسطحات المائية في معظم لوحاته؛ ثم يرسمها بدقة هائلة في نقل التفاصيل؛ وكبقية رواد المدرسة هناك تضمين للغلاف الجوي والسحب والسماء؛ مع التركيز على التباين بين الظل والنور. جديرٌ بالذكر أن لين كان يعمل بالطباعة الحجرية وهو الأمر الذي أثرى احساسه بدقة التفاصيل وقدرته على تمثيلها تمثيلا صحيحا. وترى الناقدة الفنية باربرا نوفاك، في كتابها "اللوحة الأمريكية في القرن التاسع عشر"، أن لين كان يتعلم من تلقاء نفسه من خلال الملاحظة الأولى والتفاعل مع البيئة المحيطة به والتي سعى لتصويرها.[11]
كذلك نرى في لوحة "شروق الشمس على ساحل نيوجيرسي"، 1864، للرسام الأمريكي سانفورد روبنسون جيفورد (10 يوليو 1823 – 29 أغسطس 1880)، وهو أيضًا أحد رواد الحركة، نفس التمحور حول درجات الظل والنور والمنظور الواسع البانورامي للطبيعة مع استعراض لطبقات الغلاف الجوي. كعادة رواد المدرسة، اهتم جيفورد بالسفر على نطاق واسع للاطلاع على أكبر قدر من المناظر الطبيعية والمسطحات المائية. فتيسر له رسم عدد من المناظر التي وثقها في رحلاته. وقد كانت رحلته لشاطئ نيوجيرسي هي إحدى الرحلات التي ألهمته رسم لوحة أفقية بانورامية لشروق الشمس مع تدرج رائع لألوان الأصفر والأزرق والبني بطول أفق اللوحة.[12]
"إحدى السمات التي تُعرف بها اللومنستية هي الفهم العميق للواقع الذي يتم تنظيمه بدقة والتحكم فيه عبر مبادئ التصميم. وكواحدة من أنماط رسم المناظر الطبيعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، احتضنت اللومنستية الانشغال الحاد بالطبيعة الذي كان معاصرا لها على اعتبار أن الطبيعة هي خطة الرب للبشر. لقد نجحت اللومنستية، أكثر من أي مدرسة أخرى، في نشر الإحساس العميق بالطبيعة عبر دراسات موضوعية. وقد تحقق ذلك من خلال حب وفهم حقيقي لعناصر الطبيعة؛ والتي يمكن تمييزها في شغف ترتيب الأوراق على غصون؛ ترتيبها بشكل يكشف عن الشِعر المُتأصل في كل مشهد طبيعي."[13]
(الناقدة الفنية نوفاك بربرا، اللوحة الأمريكية في القرن التاسع عشر، صفحة رقم 110)
الشاهد، ربما ما كان لعصر التنوير والفلسفة المادية فائدة أكبر من كل حركات العودة للطبيعة والنزوع نحو الروحانية والمثالية التي احتلت ساحات الفن والفكر منذ مطلع القرن التاسع عشر. واللومنستية/ النورانية، هي واحدة من تلك الحركات التي رهنت نفسها لرصد أشعار الإله في الطبيعة من حولنا.