شعار قسم ميدان

بيرانيسي.. معماري إيطالي أذهل "غوته" وتأثر بفنون الفراعنة

ميدان - جيوفاني بيرانيسي

"أريد إنتاج أفكار عظيمة، وأعتقد أنني إذا كُلفت بتصميم كون جديد، سأكون مجنونا بما يكفي وأقوم بذلك"

(جيوفاني باتيستا بيرانيسي)(1)

     
رُبما لو بحثنا عن عامل مُشترك بين جميع الفنانين الذين تجاوزت عبقريتهم عنان السماء لوجدنا "الخيال الجامح". رسامون وكُتّاب ومعماريون وموسيقيون، أو أيا كان.

في روايته "الأبلة" يورد الأديب الروسي الخالد فيودور ديستويفسكي، 1821 – 1881، إحدى أشهر كلماته: "الجمال سيُنقذ العالم".[1] عبارة بسيطة لكنها حررت علم الجمال من أسوار الأكاديميّة ليصير أفق أمل، حتّى وإن جرى إفقار الحضارة الحديثة من الأمل، في إنقاذ العالم.

     
سبق ديستويفسكي في وصف بلاغة الجمال، الأديب الألماني العالمي يوهان غوته، 1749-1832، حين وصف فنّ العمارة بأبسط العبارات وأعمقها حين قال: "العمارة هي موسيقى جامدة."(2) ليبني بذلك جسرا بين العمارة والموسيقى بوصف الأولى قادرة على إحداث تناغم نفسي وتأثير روحي كما الثانية. فتنضم الهندسة المعماريّة بذلك إلى سلة الجمال الذي قد يُنقذ العالم.

      
فهل كانت العمارة في زمانهم فعلا ساحرة لهذا الحد؟ هل يستطيع عمل معماري أن يُحدث في النفس البشرية ما تُحدثه الموسيقى أو أيّ نوع مِن أنواع الجمال ككُلّ؟ أن تطرب له الروح وتقر به العين وتلينَ به الأنفُس. ربما استطعنا تقرير ذلك لو أخذنا الرسّام المعماري الإيطالي جيوفاني باتيستا بيرانيسي، 4 أكتوبر 1720- 9 نوفمبر 1778، نموذجا.

          

المعماري والمصمم الإيطالي جيوفاني بيرانيسي
المعماري والمصمم الإيطالي جيوفاني بيرانيسي
      

ولد بيرانيسي في "موليانو ونتو"، مدينة شمال إيطاليا، تقع بين البندقية وتريفيزو. كان والده نحاتا حجريا، وعمه مهندسا معماريا، أحد أمهر المعماريين في زمنه، وهو مَن درسَه فن العمارة الإغريقيّة واللاتينيّة القديمة.(2)  انتقل بيرانيسي لاحقا لروما ودرس تحت إشراف المعماري والنحات الإيطالي جيوسيبي فاسي | Giuseppe Vasi، 1710 – 1782، وهو أحد عمالقة فنّ العمارة في عصره. ثم انضم للعمل مع طُلاب الأكاديمية الفرنسيّة في روما لرسم معماري منظوري لروما؛ وهو ما ساعد في تكوين خلفيّة شاملة عن البناء المنظوري والتصميم لبيرانيسي.(2)

      
الأعمال الأولى لبيرانيسي وضّحت، بما لا يدع مجالا للشّك، أن المُجتمع الإيطالي بصدد عملاق معماري جديد سيُخلّد اسمه للأبد كأحد أهم معماريي عصر النهضة في إيطاليا. فقد أبدى قدرة فائقة على رسوم المنظور بجودة مثاليّة، بل وابتكار مبان تُناطح في عظمتها وجمالها عمارة الإمبراطوريّة الرومانيّة القديمة. حتّى صارت أعماله مُعادلا لعبارة غوته: "العمارة موسيقى جامدة / صامتة".

       
في روما، اتخذت أعمال بيرانيسي منحى أقرب للخيال، فرغم تأثره بالعمارة الرومانية، إلا أن أعماله في ما بعد بدت خياليّة لا يُمكن تطبيقها على أرض الواقع. وكأنّه فعلا يُصمّم كونا جديدا كما قال. ومع ذلك، ظل تأثره بالعمارة الرومانية سمة مُسيطرة على فنه ورسوماته.

                    undefined

            

الرسّام المعماري، الذي صار حديث عصره، كان يرسم، ليس فقط مُتأثرا بالكنوز المعماريّة القديمة، بل بحس شديد الملحمية. فغلبت على أعماله حالة من الدراما التي أضافت لها لمسة عراقة. وتجمع مُعظم أعماله بين دقة وزخم التفاصيل وفي الوقت نفسه صحة وسعة المنظور.(2)

       
وفي عام 1747، بدأ بيرانيسي العمل على سلسلة لوحات لمعالم روما، واستمر فيها لأكثر مِن ثلاثين عاما، حتى وفاته، بلا كلل أو ملل. تتفق كلها في زخم التفاصيل والملحميّة والمنظور، وتختلف في المكان الذي يتم نقله على الورق أو ابتكاره من الخيال. 

        

أعمال بيرانيسي بلغت درجة من الكمال والجمال حد أنّها تجاوزت الواقع نوعا ما، ويكأن الواقع لا يكفي. فغوته، والذي كان مُعاصرا لبيرانيسي، عرف روما بعيون بيرانيسي من خلال رسوماته وأعماله التي وصلت ألمانيا. لكن غوته حين زار روما لأول مرة خاب ظنه حيث شعر أن رسومات بيرانيسي كانت نوعا ما تجميلا للواقع.(3) 

              

undefined

           

كان بيرانيسي يرى أن المعماري الماهر هو من يطّلع على جميع الحضارات ويستقي منها أعماله وأفكاره. ذلك لأن القدماء كانوا على قدر عال من الحرفيّة والموهبة وأقاموا بأدوات بسيطة واختراعات لا تكاد تُذكر أعمال معمارية سابقة لزمانها؛ ومثال ذلك الفراعنة.(2)

          
فنرى أنه استلهم في تزيين مبانيه من الحضارة الفرعونية القديمة، فالدمج بين ثقافات عدة هو ما يخلق عملا جديدا مميزا. وبالرغم من أن رسوماته المُستقاة من الحضارة الفرعونية كانت محض تخيل منه لما كان عليه الفراعنة، إلا أنه استطاع تقديمها بدقة تفاصيل عالية.

              undefined

         

وقد استخدم بيرانيسي النقوش الفرعونية أعلاه في تصميم داخلي لمدفأة. وكعادة عصر النهضة، والمعماري نفسه، نلاحظ زخم التفاصيل ودقتها الصارمة وجودة العمل وفخامته بالرغم من بُعد بيرانيسي في روما عن الحضارة الفرعونية في مصر.

     
في يوم وفاته، رفض بيرانيسي أن يرتاح أو أن يذهب للطبيب. ونُقِلَ في سيرته الذاتيّة أنّه ظلّ يرسم قُبيل موته بساعات، حالة مِن التفاني والشغف مُنقطعة النظير.(2)

     
والشاهد، أنّ بيرانيسي اجتمعت لديه عناصر كثيرة ساهمت في عالميته؛ أولها طبعا الموهبة التي صقلها والده وعمه بالتدريس والدعم المُباشر؛ ثانيها، سعة خياله وجموحه واطلاعه على ثقافات معماريّة لحضارات عدّة حتى خلّف وراءه ما يُقارب 1400 رسمة معماريّة. وأخيرا وليس آخرا، فإنه كما قال عن نفسه: كان مجنونا بما يكفي لدرجة أنه لو أُسند إليه تصميم كون جديد لصممه.

المصدر : الجزيرة