شعار قسم ميدان

جيل دولوز.. ما هو العمل الإبداعي؟

midan - جيل دولوز

تاريخ الفن تاريخ طويل، تمتلئ فيه الهوامش بالملاحظات أكثر من المتون. وهذا التاريخ، رغم زخمه، يستشكل علينا فيه سؤال بسيط مثل: "ما هو العمل الإبداعي؟". وهل يُطرح السؤال -بشكل عام- مُجردًا من أيّ سياقات تاريخيّة؟ أم يُطرح مقترنًا بالبطانة السياسيّة والأزمات الفكريّة التي عاصرت العمل؟ وهل ينبغي على الفنّ أو العمل الإبداعي أن يكون محاولة راديكاليّة لإعادة فهم العالم؟ أم يكفيه أنّه دائمًا لغة الأقليّة؟ عملٌ يخرج دائمًا عن السائد بقواعده ومدلولاته.

"إن الفلسفة بتدقيق كبير هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم."

– "جيل دولوز"، (ما هي الفلسفة؟)

لقد طرح الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" (1925 ـ 1992) سؤال "ما هو العمل الإبداعي، وما هي الفلسفة؟" في محاضرة له -بعنوان: ما هو العمل الإبداعي؟- ألقاها عام 1987. وقد جعل "دولوز" مِن مُحاضرته قاموسًا لأبجدية العمل الإبداعي وعلى أي أساس يستطيع شخصٌ ما أن يقول نعم أنا لدي فكرة؛ لكن أولا، وقبل أن نجيب على سؤال ما هو العمل الإبداعي، علينا أن نفهم أين يقف العمل الإبداعي من الفن؛ وأين يقف الفن من بقية العلوم المؤطرة للفكر الإنساني؟

 

العلاقة بين الفن والفلسفة
خارج المُحاضرة، أتى "دولوز" بُعيد المحاضرة بأربعِ سنوات على ذكر العلاقة بين العلم والفن والفلسفة في كتابه "ما هي الفلسفة؟" الذي نُشِرَ عام 1991. وفي معرض كتابه يوضح "دولوز" أنه يرى في الفلسفة والعلم والفن الإطارات الكبرى للفكر. والفلسفة -مِن ضمن تلك الإطارات الكبرى- تشتغل بمهنة إبداع المفاهيم. فيما يركن العلم إلى دراسة وتحليل الظواهر والمعادلات. أمَّا الفن فإنّه يكون بمثابة المؤثر الإدراكي الانفعالي.

 

يرى
يرى "دولوز" بأن مهمة الفلسفة هي الربط بين المحدود المتناهي والما بعدي اللامتناهي، مما يؤدي لإبداع المفاهيم التي يقف عليها العلم.
 

إنَّ الفلسفة ليست مهمتها التأمل. ولا ينبغي أن يكون التأمل أو التفكير تعريفًا للفلسفة. فالرياضيّون مثلاً لا يحتاجون الفلسفة للتفكير في الحساب. والسينمائيّون كذلك لا يحتاجون الفلسفة للتفكير وتأمل السينما. فالفلسفة بذلك تكون وسيلة وليست علمًا يمتلك محتواه الخاص. إنَّ مهمة الفلسفة حقًا هي الربط بين المحدود المتناهي والما بَعدي اللامتناهي. وهي إذا تربُط بين الأحداث تُبدع المفاهيم التي يقف عليها العلم ليرسم مجموعة من الإحداثيّات ويجعلها مراجع وفق إطار من الظروف والشروط التي تُصاحب الحدث/التجربة.[1]

 

أمَّا الفن فهو يحاول أن يجعل المتناهي واللامتناهي/الدنيوي والما ورائي مرئيًّا في هيئة فنون تشكيليّة تتبنى مؤثرات جماليّة هدفها التأثير في الرائي لإدراك أبعاد كانت غائبة عنه. بالتالي، الفن هنا ليس مستقلاًّ بدوره؛ بل يكمل الإطارات، العلم والفلسفة؛ حيث ينصهر الثلاثة في بوتقة واحدة للإجابة عن سؤال واحد: "ما الحقيقة؟" السؤال الذي سعت كل نشاطات الإنسان مِن فجر التاريخ للإجابة عليه.[2]

 

فالفن، على عكس العلم، هو انطلاق وتحرير للمعاني عبر تشكيل انفعالات وأحاسيس تُقاتل لتكشف حقيقة الأشياء. في سبيل ذلك، يجعل الفنان من اللامرئي والما ورائي فنَّاً تشكيلياً مرئياً؛ ما وصفه "دولوز" في كتابه "ما الفلسفة؟" بأنّه: "المرور عبر اللامتناهي لاستعادته."

 

هل يشترط الإبداع قيمة أخلاقية؟
الحقيقة أنَّ الكتاب إذ يشرح التقاطع والتداخل، بين دور العلم والفن والفلسفة؛ فإنَّ هذا التقاطع يُقدّم بيئة يستطيع منها الإنسان تحديد موقفه من العالم. ونحن الآن نقف، حسب "دولوز"، على دور الفن وماهيته والمساحات التي يستهدف تنويرها؛ لكن على أي أساس تُصبح فكرة ما إبداعيّة؟! هل الرسَّام إذ يرسم بورتريه -مثلا- يقوم بفعل إبداعي؟ هل الإبداع نوع مِن الجنون والاختلاق وكسر المألوف؟!

 undefined

إنَّ العمل الإبداعي في الواقع ليس مقترنًا بالجنون في حد ذاته؛ بل بما الغرض من وراء هذا الجنون. بمعنى -وهذا المثال أتى "دولوز" على ذكره في المحاضرة- أن اليهود الفارّين من ألمانيا في زمن هتلر كانوا أول من فضح ما يحدث في معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعيّة. كانوا يقدمون معلومات يُمكن وصفها بأنّها مُضادة لما تروّج له النازيّة.

 

وهنا، يلفت "دولوز" النظر لنقطة دقيقة جدًا. أن المعلومات المُضادة، في حد ذاتها، لم تكن أبدًا كافية لفعل أي شيء. لم تكن عملا إبداعيًّا. لم تزعج المعلومات المضادة هتلر أبدًا. إلا، وهذا هو المهم، عندما أصبحت فعلا من أفعال المقاومة. وفعل المقاومة هذا ليس معلومات أو معلومات مضادة؛ بل استخدام معلومات ما كأداة مقاومة لكشف جرائم التصفية العرقيّة تحت حكم هتلر.

 

يستطرد "دولوز" في شرح رؤيته للعمل الإبداعي موضحًا أن هناك تقاربا جوهريا بين العمل الفني الإبداعي وفعل المقاومة. وأن العمل الفني ليس منوطًا به مدّ جسور المعرفة؛ لأن هذه مسئولية العلم (Science). فالعلم هو المرتبط بالمعلومات والتواصل. أمّا الفن هو فعل مقاومة؛ لكن ما هي تلك العلاقة الغامضة بين العمل الفني وفعل المقاومة!

 

لقد قال
لقد قال "دولوز" ببساطة شديدة "إنَّ الفنّ هو الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت" (مواقع التواصل)

لقد وقف الفيلسوف والناشط الفرنسي "أندريه مالرو"، (1901 ـ 1976)، على مفهومٍ فلسفيٍّ يراه "دولوز" مثيرًا جدًا للإعجاب. لقد قال ببساطة شديدة "إنَّ الفنّ هو الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت". إنَّ تعريف "مالرو" على قدر بساطته إلا أنَّه وقف على جوهر العمل الفني بوصفه فعلا من أفعال المقاومة. والمقصود بالموت هنا ليس خروج الروح من الجسد؛ بل مقاومة موت المعنى؛ مقاومة الصالح للطالح والجيد للفاسد والحقيقة للكذب. وهكذا، يكون العمل الإبداعي كاشفًا فاضحًا.

 

بالعودة لرأي "دولوز"، أنَّ الفيلسوف هو شخصٌ يُبدع المفاهيم؛ فإنَّ الفيلسوف هنا يظهر بوصفه مُبدعًا يرسم لوحات فكريّة. مُبدعٌ لأنَّه يقاوم لإنهاء الأحكام المسبقة. كذلك الفن، فإنه يقاوم، صحيح أنه ليس الشيء الوحيد الذي يقاوم؛ لكن كل عمل فني إبداعي لابد أن ينطوي على فكرة المقاومة.

 

"دولوز" دعا إلى تفريخ كل تلك المفردات التي أكل عليها الدهر وشرب. المهم ألا نكون كالببغاء المقلد؛ أين كانت الزمرة الفلسفية أو الفنية التي ننتمي إليها. المهم أن نتساءل ونفحص ونقاوم ونُحطِّم الصنم إذا لزم الأمر.

العمل الإبداعي؛ مُقاومَة مِن المنفى

إنَّ فعل المقاومة بوصفه إبداعا؛ يحمل بين ثناياه -للأسف- وجهين. فغير أنّه فني، فهو في النهاية فعل بشري. لذلك فإن أي شكل من أشكال العمل الفنّي الإبداعي يصبح بالضرورة نضالا إنسانيا. وهذا النضال لا يستسيغه غالبا إلاَّ قلّة قليلة جدًا من الناس هم زمرة المُبدعين؛ إنهم مُبدعون في المنفى أين كانت أراضيهم.

 

إنَّ كل عمل إبداعي هو لا مفرّ منفى؛ حتى لو أنّ المبدع يعمل في بلده الأم، فالمُبدع بمُجرّد أن يشرع في عمله يُصبح في غير وطنه بكل ما يعنيه الوطن من سائد ومعروف. المُبدع في الواقع يضطلع بما تضطلع به الفلسفة. يطرح أسئلة حول الجمال والحقيقة والذوق السليم. والمبدع بذلك يُشرّع للعمل الإبداعي كنوع من التساؤل الفلسفي؛ يستدرج به مواضيع تبدو خارج نطاق التساؤل؛ لكنّها في حقيقتها يجب ألا تكون بمنأى عن الفحص.

 

بذلك يصبح العمل الإبداعي، سواء كان فنيًّا أو علميًّا أو فلسفيًّا أو حتى سياسيًّا، ليس حكرًا على أفلاطونيين أو نيتشويين أو ماركسيين أو غيرهم.. فـ"دولوز" يدعو إلى تفريخ كل تلك المفردات التي أكل عليها الدهر وشرب. المهم ألا نكون كالببغاء المقلد؛ أين كانت الزمرة الفلسفية أو الفنية التي ننتمي إليها. المهم أن نتساءل ونفحص ونقاوم ونُحطِّم الصنم إذا لزم الأمر.

————————————————————–

المراجع:
– "جيل دولوز"/"فليكس غتاري" "ما هي الفلسفة؟" ترجمة مركز الإنماء القومي بيروت طبعة 1997.

– Claire Colebrook, Philosophy and Post-structuralist Theory: From Kant to Deleuze, Edinburgh University Press, 2005.

– Gilles Deleuze on Cinema: What is the Creative Act 1987 (English Subs), https://www.youtube.com/watch?v=a_hifamdISs 

المصدر : الجزيرة