لماذا امتد تأثير رسومات "إدوارد هوبر" حتى اليوم؟
ظلام دامس يغرق مدينة نيويورك، تم تعتيم جميع النوافذ بستائر سوداء وباستخدام أي أقمشة تقع عليها الأيدي، كان ذلك إجراء احترازي أثناء أوقات الحرب لكي يصعب على العدو تحديد أهدافه البشرية من خلال أضواء النوافذ، تم ذلك بعد أيام من هجوم بيرل هاربور، لا يوجد مكان للرؤية، لكن يمكن رؤية استثناء، نافذة أستوديو يعمل فيه إدوارد هوبر على لوحته. لم يهتم بتنفيذ التعليمات، لا يكترث إن تم قصفه.
"رفض إد أن يهتم بالاحتمالية شبه المؤكدة لأن يتم قصفه"
(مقتطف من مذكرات جو هوبر زوجة إدوارد هوبر)
كانت تلك هي الأجواء التي نفذ فيها هوبر لوحته الأشهر "صقور ليلية" بعد أسابيع وربما أيام من هجوم بيرل هاربور، لم يرد هوبر أن يتم ربط أعماله بأي سياق تاريخي أو مكاني، أراد لأعماله أن تتحدث للجميع أيا كانت خلفيتهم، ولكن هل نجح هوبر فى ذلك؟ لوحات هوبر تبدو مصبوغة بشكل فنون ما بعد الحرب ببرودتها واغتراب إنسانها، يملأ إدوارد هوبر عوالمه باحتمالات لا نهائية، معلقة في أجواء مشبعة بالبرودة الزرقاء وأضواء النيون الليلية، احتمالات لتفاعلات كانت ربما ستحدث لو لم يكن داخل الجميع هذا القدر من الوحدة.
من رحم الكساد في أميركا ثم الحرب العالمية الثانية ولدت أهم أعمال هوبر تزامنا مع أسلوب سينمائي مؤسس يسمى "الفيلم نوار"، الفيلم نوار هو مصطلح أطلقه الناقد الفرنسي نينو فرانك على شكل فيلمي ظهر في بداية الأربعينيات وترجمته الحرفية هي الفيلم الأسود، لا يمكن تمييز الفيلم الأسود بمكان معين مثل الويسترن أو شخصيات معينة مثل أفلام العصابات، ولكنه إحساس ينبع من الأسلوب البصري والإيقاع المستخدم، ميّز الأسلوب البصري للفيلم نوار ظلالا حادة وتباينا كبيرا بين الظل والنور وبعض الشخصيات المكررة مثل المحقق الغامض والفتاة الجذابة الخطرة، يمكن ملاحظة كل تلك العناصر في لوحات هوبر وأشهرها "صقور ليلية"، ولكن يصعب جدا الفصل بين من جاء أولا أو من أثّر على من، هل ساهم هوبر في ظهور الفيلم نوار أو تأثر هو بشكله وأسلوبه؟
"عندما لا أشعر برغبة في الرسم، أذهب لمشاهدة الأفلام لأسبوع أو أكثر"
(هوبر)
أحب هوبر الأفلام، السينما ردت الجميل برجوعها إليه كمصدر لا ينضب من الإلهام البصري والأسلوبي. الفيلم الأسود أصبح إلهام هوبر الأكبر وصاحب أكبر تأثير عليه والعكس أيضا، لقد خلق عالما من العزلة والوحدة والحزن الهادئ الذي يمكن تسميته بالـ "هوبري"، لكن يكمن إسهام هوبر الأكبر للفيلم الأسود في القدرة على التعامل مع الظلال الداكنة في الألوان والتباين بين الضوء والظلام. عبّر هوبر بشكل مباشر عن تجربة صالة السينما في لوحات مثل فيلم نيويورك والبلكون، ثم أصبح تأثير السينما عليه أكثر نضجا فتناول خصائصها الأسلوبية بل والموضوعية.
اقتبس الفيلم نوار أسلوبية التعبيريين الألمانيين من الرسم بالضوء والتعبير عن الشر والمشاعر الداخلية بالظلال الداكنة والتباس الهوية، كلاهما تعامل مع الاغتراب وعدم الأمان، الاكتئاب والعزلة، يعتبر النقاد فيلم الغريب في الدور الثالث 1940 أول فيلم نوار، عزز هذا الفيلم تأثير التعبيرية الألمانية بمشهد حلم كابوسي يمتلك كل سمات التعبيرية مع السمات الجديدة التي أسس لها الفيلم نوار.
بالتبعية تأثر هوبر بالتعبيرية في بداياته، استخدم التباين الشديد بين الضوء والظل لخلق مشاهد تتسم بالغموض وتبدو فوتوغرافية الطابع. مثال على ذلك لوحته المنفذة بأسلوب الحفر "ظلال الليل" تبدو كأنها لقطة من فيلم لفريتز لانج أحد رواد التعبيرية.
يقال إن هوبر نفذ لوحته الأشهر "صقور ليلية" عقب قراءة رواية لإرنست همنجواي بعنوان "قصة قتلة" وتم اقتباسها عام ١٩٤٦ في فيلم نوار من إخراج روبرت سيودماك. أعاد سيودماك تصور لوحة "صقور ليلية" بالأبيض والأسود. تبدو اللوحة كمشهد مباشر من فيلم نوار هوليوودي، إنها تعطي المشاهد بشكل حرفي نظرة داخل ثقافة أميركا 1940 من الخارج، لكنها أيضا جزء من تجربة هوبر الشخصية، استوحى هوبر المطعم من مطعم حقيقي في قرية جرينتش بنيويورك التي نما فيها.
تعتبر اللوحة من أكثر لوحات القرن العشرين إلهاما لصناع الأفلام.
"هوبر دائما على وشك أن يروي قصة"
(جون أبدايك)
في عام ١٩٨١ تم إنتاج فيلم موسيقي بعنوان "قروش من الجنة"، تأثير هوبر واضح في الفيلم باقتباس شكلاني دقيق (tableaux vivants) أو الصور الحية، وهي إعادة تنفيذ صورة معينة باستخدام ممثلين أو نماذج وموضعتهم في المواضع الأصلية للصورة المقصودة، أعاد الفيلم تصور "صقور ليلية" و"فيلم نيويورك"، واللوحتان تم رسمهما بعد ١٩٣٤، وهو الزمن الذي تقع فيه أحداث الفيلم.
في عام ١٩٨٢ أخرج "ريدلي سكوت" فيلمه الأيقوني "بليد رانر" (blade runner)، دمج الفيلم عدة أنواع في آن، فهو فيلم نوار وفيلم خيال علمي وديستوبيا يمكن بسهولة التقاط موتيفات العزلة الهوبرية في مشهد مماثل لـ "صقور ليلية".
في عام 1997 أعاد "فيم فيندرز" الألماني الشهير تصوير "صقور ليلة" في فيلمه "في نهاية العنف".
"تود هاينز" الأميركي صاحب الأسلوب البصري المميز وميله إلى المزج بين الفيلم نوار والميلودراما الخمسينية لجأ إلى هوبر في فيلمه الأخير "كارول" بصور ذات جماليات أسلوبية فائقة وقدرة تعبيرية عن دواخل الشخصيات مثل الإحساس بالانفصال والوحدة.3
"إذا كنت تستطيع التعبير عنه بالكلمات، فلن يكون هناك سبب للرسم"
(إدوارد هوبر)
يمكن للمشاهد الجيد للأفلام الإشارة إلى عشرات الإطارات التي يظهر فيها تأثير هوبر في الأفلام النوار والأفلام بشكل عام، فأسلوبه الثاقب لا تخطئه العين، وتركيباته اللونية وموضعة شخصياته مصادر لإلهام المخرجين والفنانين البصريين حول العالم، ومن الجهة الأخرى يمكن رؤية اهتمام هوبر بالسينما والحياة اليومية داخل كل لوحة أو مطبوعة أنتجها، استطاع هوبر أن يستلهم من الثقافة الأميركية وأن يضيف إليها بشكل مساوٍ ويستمر تأثيره حتى يومنا هذا.