شعار قسم ميدان

كيف يرى سلافوي جيجك السينما كساحة للصراع الأيديولوجي؟

ميدان - كيف يرى سلافوي جيجك السينما كساحة للصراع الأيديولوجي؟

"أنا لا أزال ماركسيا على الطريقة القديمة، لذلك فأنا أعتقد أن السينما اليوم هي ساحة للصراع الأيديولوجي".

(سلافوي جيجيك)(1)

    

في تعريفها للأيديولوجيا، تضع الماركسية الفرد أمام مرآة كاشفة لاستغلاله من قِبل سلطة رأسمالية تُوهِمه بتصورات حياتية زائفة لا تخدمه، بل تصبّ مصالحها في استنزافه بصورة دائمة. يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك: "خُلِقَ الواقع لكي نتأمله"(2)، فلا يتوانى عن التنقيب بعين فاحصة عن مظاهر السلطة الأيديولوجية في حياتنا اليومية، الأفكار التي تُصَدَّر لنا عبر الخطابات السياسية، وسائل الإعلام، المنصات المقروءة والمرئية، وعند عتبات الفن يجد جيجيك متعة خاصة في تشريح السينما التي بحسب رؤيته تُمرِّر لنا الكثير من المغالطات وتُقنعنا بأفكار مسمومة أحيانا، وأخرى تكشف لنا أقنعة زائفة تُضمِر داخلها مغالطات مسكوتا عنها. في فيلم "The Pervert’s Guide To Ideology" للمخرجة صوفي فاينس، يستعرض جيجيك نظرة شبه بانورامية لعدد من الأفلام الهوليودية والأوروبية التي تنطوي على أيديولوجيات خادعة وتُصوِّر لنا واقعا نراه بعيون مغلقة وعقول نائمة.

       undefined

    

مرحبا بك في صحراء الواقع

ليتقصّى ماهية الأيديولوجيا ونقدها؛ يتطرّق جيجك للحديث عن الفيلم الأميركي "إنهم يعيشون" (They Live)، يبدو الفيلم منسيا في زخم ساحة الأفلام الهوليودية، لكنه يتحدث في صلب الأيديولوجيا بشيء من الرمزية الفانتازية. نتابع على مدار الفيلم البطل "جون نادا" الهائم على وجهه في شوارع المدينة يقتفي أثر الحياة بلا وجهة محددة، تقوده قدماه إلى كنيسة مهجورة ليجد بها صندوقا مغلقا مليئا بالنظارات الشمسية، وهنا تكمن الخدعة، لأن تلك النظارات لا تقي من الشمس، بل تجعل العيون تُبصر حقيقة الأشياء من حولها، كلّما رفع جون نظره -مرتديا النضارة- تجاه اللافتات الإعلانية، المارة في الشوارع، الأموال، أي شيء، يرى بدلا منه حقيقته التي تتوارى تحت خبايا القشرة الخارجية، وهذا هو جوهر الأيديولوجيا التي تُظهِر لنا حقائق مشوّهة لما تكمن عليه الأمور. 

    

  

لعل الاختلاف الوحيد الذي يطرحه جيجيك يكمن في علاقتنا نحن بالحقيقة؛ إذا كانت النظارة السحرية تسمح لنا بتعرية الحقيقة فمن البديهي ألّا نرتديها لنُبصر، بل أن نبصر الحقيقة بعيوننا وأن تصبح النظارة الخيار الذي نلجأ إليه لنعمى عن الحقيقة. في واحد من مشاهد الفيلم شديد العبثية يخوض جون عراكا مع صديقه بعد أن رفض الأخير ارتداء النظارة، إصرار الصديق على رفض ارتدائها هو إسقاط للكذبة التي تبلور رغبتنا في العيش بداخل الكهف لأننا نخشى مواجهة الحقيقة بالخارج، أو كما يُفسِّرها جيجيك: "لأن الحرية مؤلمة".

    

"ليست الحقيقة قاسية ولكن الانفلات من الجهل مؤلم كالولادة".

(رواية "قصر الشوق")

    

يُعيدنا الفيلم للتفكير بتروٍّ في احتياجاتنا التي يُلبِّيها المجتمع، هل هي حقيقية وإنسانية حقا أم مصطنعة ومفروضة علينا؟ يُحيلنا التساؤل إلى الفيلسوف هربرت ماركوز الذي تساءل قبلنا وأجاب أن أغلب احتياجاتنا وهمية من صنع الدعاية ووسائل الترفيه المرئية، وهو ما يُفسِّر نجاح المجتمعات الصناعية المتقدِّمة في خلق الإنسان ذي البُعد الواحد، الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية، وارتضى العيش بتكيُّف مع المجتمع ذي البُعد الواحد فقط لأنه يُوهمه بحرية الاختيار التي فرضها عليه، فأصبحت حياته محالَّ بدون سلع وشعارات وأفكارا غير أصيلة هي بالأساس تزيّفه وتسيطر عليه.(3)

   

تراجيدية في البداية هزلية في النهاية

undefined

   

لنفترض أننا خُلقنا في كهف، وما تُبصره فطرتنا هو ظلال العالم خارج هذا الكهف، في اللحظة التي سنخرج فيها لأول مرة ستُصيبنا الصدمة لأن الظلال التي ظننا أنها العالم سنكتشف أنها مجرد انعكاس لحقيقة العالم، وأن كل ما عرفناه عن الحقيقة محض أوهام، حينها سنعود إلى الكهف مُحمَّلين بذيول الخديعة، والألم الثقيل للحقيقة(4). على حطام هذا الكهف بنى أفلاطون نظرية عن الحقيقة، وعن طبيعة واقعية الحياة، وأن الارتكان إلى الخدعة يريحنا أحيانا لأن الحقيقة أثقل من أن نتحمّلها. تتماس ظلال كهف أفلاطون مع ثقل الحقيقة في فيلم"فارس الظلام" (The Dark Knight) عندما استأثر الساسة بمعرفة الحقيقة وأفشوا الأكاذيب على أهالي جوثام.

   

"أتظن أن باتمان جعل جوثام مكانا أفضل؟".

(الجوكر)

  

يتساءل جيجك: "مَن هو الجوكر؟ وما الكذبة التي يريد كشفها؟"، ما أراده الجوكر في فيلم "فارس الظلام" (The Dark Knight) أن يظهر باتمان الحقيقي، أن يكشف وجهه للعلن، وبالمقابل استمرت السلطات في المدينة في رفع مستويات الكذب والخداع، يدّعي النائب العام المخضرم هارفي دنت بأنه باتمان، ويتورّط النظام القضائي في سلسلة من الجرائم بعد تحوُّل دنت إلى مجرم، حلقات من الأكاذيب التي يتوارى وراءها فساد السلطة، وباتمان الحقيقي الذي لا يخلع قناعه لجوثام. هنا يرمي جيجيك إلى الأيديولوجية السياسية التي تُبنى عليها تلك المساحة الماكرة في الفيلم، وهم الحقيقة وضرورة الكذب، الأمر الذي يؤسّس لقاعدة مهمة أن السلطة السياسية والاجتماعية تبني عمائدها استنادا إلى الأكاذيب وغياب الحقيقة كما أخبرنا أفلاطون قديما ومن بعده إيمانويل كانط وادموند برك، وأن الجوكر بجلّ مبتغاه من كشف الحقيقة لا يريد سوى الخراب، معرفة الحقيقة تعني انهيار كل شيء.

  

بالعودة إلى الجوكر، الشرير الذي نحب، لن نحتاج إلى تفرُّس ملامحه لنرى المكياج الذي يغطي ملامحه، هل يخدعنا الجوكر أيضا بوجه لا يُشبهه؟ في حقيقة الأمر لا يملك الجوكر ما يُخفيه ولا هوية لكشفها، نموذج مثالي لشخص لا يملك شيئا يخشاه فيقضٍ مضاجع السلطة لتنزع عنها أقنعتها الزائفة، في مقابل باتمان، العائش في الظلام، الذي يصف الكاتب "تود مجاوين" بطولته بضرورة الخداع فيقول: "على هؤلاء الأبطال أن يلتزموا بالخداع والتخفي كما يلتزمون بالحقيقة، فمن دون الكذب قد يكون ثمة نقاء لكن لن يكون ثمة بطولة"(5). فلماذا نحب باتمان ونكره الجوكر إذن؟

  

طاعون الأوهام

undefined

  

يتجسّد العنف في أكثر الأجساد هشاشة في شوارع نيويورك، تحديدا في جسد ترافيس بطل فيلم "سائق التاكسي" (Taxi Driver) للمخرج مارتن سكورسيزي. نتذكّر ترافيس سائرا في الشوارع ليلا وقد حلّ الأرق ضيفا أبديا عليه، صامتا بين الجموع يُحدِّث نفسه بشيء من الارتباك عن الليالي التي يقضيها وحيدا في أزقة مجتمع من العاهرات والقوّادين والساسة المزيفين. يمكننا تفسير صمت ترافيس بين الجموع بأنه غياب وضآلة، وأن الهشاشة القنبلة الموقوتة لعنف ترافيس الوحشي في نهاية الفيلم.

  

تربط المُنظِّرة السياسية "حنا أرندت" جذور العنف بالغضب الذي هو في ذاته رد فعل تلقائي للبؤس والألم، ولا تضع أرندت العنف في مواجهة مع السلطة، بل هو وليد الطبيعة الإنسانية، وأنه ممارسة مفيدة كصرخة في وجه قضايا مجتمعية بعينها(6). على التوازي يُفسِّر سلافوي جيجك العنف الذي يمارسه ترافيس في الفيلم بأنه نتاج الهلاوس التي يتخيّلها عن العالم من حوله، بالتحديد العاهرة التي يظن أنها فريسة قوّادها وأن عليه إنقاذها في تماهٍ واضح مع الهلاوس الكبرى التي أقنعت بها أميركا العالم في حربها على فيتنام وغيرها من الحروب، ادّعاءات تقديم المساعدة لا تعني أنهم يرغبون فيها حقا، سواء فيتنام أو العاهرة، لكنها الذريعة التي نفذت بها أميركا لخوض الحرب، ونفذ بها ترافيس لقتل القوّادين المستغلين للعاهرة، بحسب جيجك النتيجة واحدة وهي "تفجُّر العنف".

    

     

يمكننا ملاحظة تلاقي وجهتَيْ نظر أرندت وجيجك في ضرورة تنفيس العنف، من جهة أخرى يهدم وجود العنف وجود السلطة، فإذا كان شعار السلطة "الجميع ضد الفرد" فإن ترافيس نجح في إسقاط معادلة السلطة بتفرُّده في وجه الجميع، وهو أمر يُخالف المألوف ومآلات الأيديولوجيا في آنٍ واحد. يقول جيجيك: "الفعل العنيف ليس مجرد تجسُّد تجريدي للعنف، إنه تدخُّل وحشي في الوجود الواقعي للتغطية على عجز معين".

  

الأحلام الخطيرة

قبل خمسة قرون ماضية أخبرنا شكسبير أن قصص الحب لا تكتمل دوما، وأن للحب وخزا مثل الأشواك(7)، ومنذ قرابة عشرين عاما يُعيدنا فيلم "تايتانك" (Titanic) إلى وخزة جديدة عندما يأتي الموت ليُفرّق الحبيبين، لكن سلافوي جيجك يجدها نتيجة حتمية لأن الأغنياء يجب ألّا يستمروا في العيش جنبا إلى جنب الفقراء.

  

يصف جيجك بطلة الفيلم "روز" بالأنا المحطمة، تهيم في حياتها البرجوازية بلا شهوة ولا شغف، لكنها لم تجد ضالّتها إلّا في رفقة "جاك" الحبيب الفقير المغامر الذي يهبها الحيوية التي تفتقدها. هل يبدو الأمر سيئا أو غير مألوف؟ على الأغلب لا، لكن يُضاهي جيجك هنا العلاقة الرومانسية بين روز وجاك بالأسطورة الإمبريالية التي تُخبرنا أن فقدان أحد أبناء الطبقة الراقية للحيوية يتطلّب حاجته إلى الانغماس مع أبناء الطبقة الدنيا لاستغلالهم بأقصى مدى والاستحواذ على حيويتهم، تماما كما يستغل مصاص الدماء ضحاياه، أن يتغذى على دمائهم ليحيا، هنا يستعيد أبناء الطبقة العليا حيويتهم بينما ينتهي حال البسطاء بالموت ضعفا، تماما كما حدث في "تايتانك"، تعيش روز ويموت جاك.

      undefined

  

يُعيدنا التفكير بتلك النظرة إلى تحطُّم سفينة تايتانك بجبل الثلج الذي يبدو مقبولا ومنطقيا وفقا لنظرة جيجك، أرادت روز أن تتمرد على أسرتها لتهرب مع جاك، لكن لا مجال لانصهار الطبقات، عليهما أن يبقيا متباعدين، حادثة الغرق تعني أن المسافات يجب أن تبقى محفوظة وأن الأحلام الوردية يجب أن تتحطّم، ستحيا روز على ذكرى هذا الحب، ونشاهده نحن بشيء من الشفقة. يصف جيجك غرق تايتانك بـالمناورة اليائسة لإنقاذ وهم قصة الحب الأبدية في تبرير ضمني لضرورة غرس المحنة التي تعوق انغماس الطبقات العليا في الطبقات الدنيا.

    

يتأرجح في الفضاء الشاغل بين شاشة السينما والمشاهدين قدر كبير من المشاعر والأفكار والتساؤلات، امتدادات لقدرتنا على الوعي بذواتنا والحياة من حولنا، ربما لا يُدرَك الأمر بالكلية في لحظة المشاهدة، وربما نحتاج إلى عشرات المشاهدات والقراءات لنصل إلى الطبقات المبطّنة لما وراء الأفلام، قد ندرك أن هناك حقيقة خفية بالفعل، وقد نستمتع بالقصة السينمائية فحسب متغافلين عما تبثّه من أفكار في طيّاتها. إذا فكّرنا أن السينما تشبه الفلسفة في كونها تعبيرا عن قدرتنا على التأمل، فلنتأمل ونشاهد إذن. يقول وودي آلن إن الحياة شديدة العبثية، وإن الأفلام تُشتِّتنا عن حقائق الحياة القاسية(8)، لكن لا بأس أن نصنع الأفلام ونشاهدها وأن نخدع أنفسنا قليلا بتأمل هذه الخدع وهذا العبث.

المصدر : الجزيرة