شعار قسم ميدان

دينيرس وروب ستارك وآخرون.. شخصيات "صراع العروش" مأخوذة من وقائع تاريخية

ميدان - صراع العروش

 "كل خيال لا بد أن يمتلك قدرا من الحقيقة بداخله"

(جورج ر. ر. مارتن)

    

ظلت قصص وصراعات قارة ويستروس الخيالية تعتمل داخل رأس الكاتب الأميركي جورج ر. ر. مارتن لسنوات، قبل أن يضعها أخيرا على الورق، ويخط أول سطور سلسلة رواياته الملحمية "أغنية الجليد والنار". تشغل عناصر السحر والفانتازيا جزءا لا بأس به من القصة، فأقصى شمال ويستروس يقف جدار ضخم مصنوع من الجليد والتعاويذ، يحمي الجميع من كائنات تشبه الزومبي قادرة على إفناء البشرية، تسمى بالسائرين البيض، وأقصى الجنوب، يجلس ملك على عرش مكوّن من سيوف الأعداء وقد صهرها لهيب التنانين. لكن ما جذب أغلب القراء لـ "أغنية الجليد والنار" ومن بعدهم المشاهدون لـ "صراع العروش" في المقام الأول لم تكن كائنات الزومبي ولا التنانين الخيالية، بل حروب وصراعات البشر التي صاغها مارتن بشكل واقعي للغاية.

   

فعلى عكس ما اعتدنا عليه في سائر الأفلام والمسلسلات، النصر في حروب "صراع العروش" ليس محسوما للطرف الخيّر منذ البداية. وأغلب الوقت، لا يوجد طرف خيّر تماما من الأساس. كما لن يمنعك كونك بطل القصة المفترض من أن تلقى حتفك منذ الفصل الأول، ففي عالم مارتن، تماما كما في الحياة، لا شيء حقا يقدر على أن يحول بينك وبين الفناء. لكن، هل سبق وتساءلت كيف استطاع مارتن يا تُرى أن ينسج عالم قصته وشخصياتها وصراعاتها بهذا القدر من الواقعية؟

    

  

يمتلك مارتن قدرا كبيرا من موهبة الكتابة، لكن الموهبة وحدها ليست السبب. فمارتن، القارئ النهم، امتلك مع تلك الموهبة معرفة ضخمة بتاريخ الشعوب والحضارات القديمة، قرأ الشيء الكثير عن حروبها الدموية العديدة. استلهم مارتن الكثير مما قرأه وضفره بعالم ويستروس، ليضفي عليه قدرا كبيرا من الواقعية. وعلى رأس ما قرأه مارتن واستلهمه في "صراع العروش" يأتي تاريخ بريطانيا في العصور الوسطى وحربها الأهلية الأشهر؛ حرب الوردتين. استمرت تلك الحرب ثلاثين سنة، وراح ضحيتها ما يقرب من مئة ألف قتيل، وكادت تفنى فيها عائلات بأكملها. وقد كانت تلك الحرب صراعا عائليا من الأساس بين أسرتين تقاتلتا حتى الموت للوصول إلى العرش، آل يورك، وآل لانكستر.

 

لم يكن الأمر يوما ببساطة تحويل حرب تاريخية معروفة إلى رواية وإضافة بضعة زومبي وتنانين للمعادلة. فقد حاول مارتن أن يبتعد على طول الخط عن النقل الحرفي لتواريخ أو شخصيات بحذافيرها، وحاول دائما أن يمزج بشكل خلّاق بين أحداث جرت في أماكن متباعدة، ويجعلها تلعب دورا في مصير شخصية واحدة، ويضيف هو بنفسه لمساته الشخصية. يقول مارتن عن هذا: "أنا شغوف بالتاريخ. ففيه يوجد قصص مذهلة تمتلئ بالحروب والمعارك والإغواء والخيانة، وأشياء أخرى كثيرة من الصعب أن تختلقها بنفسك. وأنا لا أختلق حقا شيئا، بل آخذ تلك القصص وأغيّر ترتيبها وأضخّم بعض الأحداث وأُغيّر اللون من الأحمر إلى الأرجواني، وهكذا، أحصل على أحداث عظيمة للكتب". [1] فيما يلي، سنستعرض الحرب الأشهر التي وقفت في الخلفية من كل حروب "صراع العروش"، باحثين عن التشابه بين أحداثها وشخصياتها، وأحداث وشخصيات "أغنية الجليد والنار". [2]

     

الوردتين: آل يورك وآل لانكستر، أو آل ستارك وآل لانستر

undefined

  

على عكس المسلسل، ينحدر آل يورك وآل لانكستر، اللذان تحوّلا على يد مارتن إلى آل ستارك وآل لانستر، من أصل واحد. فكلتا العائلتين يعود أصلهما لأبناء الملك إدوارد الثالث، ما يعني أن الفئات المتصارعة كانت كلها أبناء عمومة. فجون دوك لانكستر، عميد آل لانكستر، وإدموند، دوك يورك، عميد آل يورك، كانا أخوين. ويرجع اسم حرب الوردتين لشعار الأسرتين، فقد اتخذ آل لانكستر من الوردة الحمراء شعارا لهم، واختار آل يورك الوردة البيضاء.

   

    undefined

  

جلس آل لانكستر على العرش بادئ الأمر، عندما انتزع هنري الرابع الحُكم من ابن عمه الملك ريتشارد الثاني، وحكم من بعده ابنه هنري الخامس. طوال حكم هذين الملكين، لم تنشب خلافات حادة بين آل يورك وآل لانكستر، فهنري الرابع وهنري الخامس كلاهما كانا ملكين قويين وصارمين، أمسكا البلاد بقبضة من حديد. كل المشكلات بدأت عندما مات هنري الخامس، وترك ابنه هنري السادس من بعده ليحكم.

     

تولى هنري السادس الحُكم وهو لم يكمل عامه الأول بعد، ما جعل المجلس الملكي يدير شؤون البلاد حتى يبلغ سن الرشد. لكن حتى بعدما أتم هنري السادسة عشرة، وصار الحاكم الرسمي للبلاد، ظل كل شيء على حاله، فقد كان الملك اسما فقط، بينما يتحكم في كل شيء مجموعة صغيرة من النبلاء. وقد كان هؤلاء النبلاء هم من أشاروا عليه بضرورة الزواج من نبيلة فرنسية، حتى يستتب السلام بين إنجلترا وفرنسا المتحاربتين في ذلك الوقت؛ واستقر خيارهم على مارجرت أنجو، ابنة أخت ملك فرنسا باهرة الجمال، والإلهام الحقيقي وراء سيرسي لانستر، التي ستكون أول من يزرع بذور الشقاق بين آل يورك وآل لانكستر، وستجني حصادها حربا ودماء. [3]

 

الشقاق بين مارجرت أنجو (سيرسي لانستر)، وريتشارد دوق يورك (نيد ستارك)

لم تجد مارجرت، التي لم يقل ذكاؤها شيئا عن جمالها، صعوبة كبيرة في التحكم في شؤون البلاد فور زواجها من هنري. فلم يكن الملك الساذج الضعيف الذي كثيرا ما عصفت به نوبات الجنون سوى واجهة تحرك هي من خلفها الخيوط. ومارجرت الشبقة وراء القوة والسيطرة قرّبت لنفسها بطانة مختارة ممن أقسموا على الولاء إليها، وشاركتهم السلطة والثروة، وأي أحد شكّت في انصياعه التام لها نفته بلا تردد خارج البلاد. على رأس هؤلاء يأتي ريتشارد دوق يورك، المقابل الحقيقي لنيد ستارك.

     undefined

  

خدم ريتشارد الملك سنوات طويلة بولاء وإخلاص تامين، وخاض حروبه وانتصر فيها، لكن بعدما دخلت مارجرت الصورة، تغير كل شيء. فقد كانت مارجرت على دراية بمدى قوة ريتشارد العسكرية وحب الجماهير له مقابل بغضهم لها، هذا بالإضافة إلى كونه الأحق بالتاج من زوجها وفقا لقوانين بريطانيا، مما جعله خطرا على سلطتها، ومن ثم سارعت في محاولة إبعاده، ونفته لأيرلندا بأمر من الملك.[4][5]

   

نفّذ ريتشارد الأمر وذهب إلى أيرلندا، لكن عندما حاولت مارجرت توطيد هيمنتها وعيّنت أحد حلفائها رئيسا للوزراء، عاد ريتشارد لإنجلترا ليترأس المقاومة ضد هذا القرار. لكنّ القدر بدا واقفا في صف مارجرت، فقد مر الملك بنوبة انهيار عصبي في تلك الفترة جعلته غير قادر، ولو صوريا، على الحكم، فسارعت مارجرت في انتهاز الفرصة وأعلنت نفسها ملكة حاكمة. ما لم تتوقعه هو أن البرلمان، الذي لا تحظى فيه بأدنى شعبية، سيقاومها ويعلن ريتشارد "حامي المملكة" (Protector of The Realm)، ما يذكرنا بتولي نيد ستارك في المسلسل لمنصب "ساعد الملك" (Hand of The King) المماثل في المسلسل. لكن سرعان ما عاد الملك إلى وعيه، وكان أول شيء فعله تلبية لطلب مارجرت هو أن جرد ريتشارد من المنصب. وقد كانت تلك هي الشرارة التي بدأت حرب الوردتين. فأعلن ريتشارد بعدها العصيان، وثار ضد الملك مطالبا بالتاج. [6]

    undefined

  

اشتعلت بعدها سلسلة من المعارك الدموية بين آل يورك بقيادة ريتشارد، وآل لانكستر بقيادة مارجرت وحلفائها، كانت الغلبة في معظمها لريتشارد. راح الآلاف ضحايا في تلك المعارك، وأراد ريتشارد حقن الدماء، والوصول إلى حل سلمي، فعرض على آل لانكستر الآتي: إيقاف الحرب وبقاء هنري ملكا، على أن يؤول التاج لريتشارد بعد موت الملك.

   

رغم سخاء هذا العرض، فإن مارجرت قابلته بغضب عارم. فتماما مثل سيرسي، كانت مارجرت تحب ابنها إدوارد بجنون، وأرادت له أن يرث المُلك عن والده. وبالحديث عن إدوارد ابن مارجرت، فربما وجد جورج ر. ر. مارتن أيضا فيه إلهاما لشخصية جوفري ابن سيرسي، فمثل جوفري، أبدى إدوارد ميولا سادية في سن صغيرة، و"لم يكن يتحدث عن شيء سوى قطع الرقاب وإشعال الحروب"، مثلما كتب أحد معاصريه، ومن ثم رفضت مارجرت العرض، وواصلت الحرب.

   

    undefined

    

وبعد جولة أخرى من المعارك أثبتت مارجرت فيها دهاءها وذكاءها التكتيكي البالغ، قُتل ريتشارد على يد جيش آل لانكستر، ومثل نيد ستارك، قُطعت رأسه ووضعت أعلى حربة، وفوقها تاج من ورق. لكن موت ريتشارد لم يُنهِ القتال، فمثلما فعل روب الابن الأكبر لنيد، أقسم إدوارد الرابع، الابن الأكبر لريتشارد، على الانتقام. [7]

    

بين إدوارد الرابع وروب ستارك

لم يستلهم جورج ر. ر. مارتن حياة روب ستارك وما حدث فيها من شخصية واحدة أو حادثة بعينها، فقد دمج فيها عدّة أحداث من أماكن مختلفة. لذا، يُمكننا تقسيم خط روب ستارك إلى نصفين، يماثل النصف الأول، حتى نقطة معينة، مسيرة وحياة إدوارد الرابع ابن ريتشارد دوق يورك.

   

عن التشابه بين الشخصيتين يقول مارتن: "يحاكي روب ستارك إدوارد الرابع في بداياته، فبعد أن قُتل ريتشارد دوق يورك، أصبح ابنه الشاب إدوارد دوقا ليورك وقاد الجيوش وحقق انتصارات على آل لانكستر، وهو بعد في سن صغيرة جدا". [8]

   

    undefined

  

ومثل روب أيضا، حنث إدوارد بوعده لحلفائه بالزواج من ابنة إحدى الأُسر الفرنسية النبيلة التي ستسانده في حربه على آل لانكستر، ووقع في حب فتاة إنجليزية غير ذات نسب وتزوجها. ثار حلفاء إدوارد عليه، وخانه بعضهم وانضموا لمعسكر آل لانكستر مثلما فعل والدر فراي مع روب ستارك، لكن بينما خسر روب حياته نتيجة لتلك الخيانة، أثبت إدوارد كونه الطرف الأقوى وانتصر في الحرب وأعلن نفسه ملكا، وقتل بعدها كل أعدائه، سواء من آل لانكستر، أو من حلفائه السابقين الذين خانوه. أما الحادثة الدموية التي قُتل فيها روب ستارك في حفل زفاف فقد استلهمها مارتن من مصدر آخر.

   

بين العرس الأحمر والعشاء الأسود

عوضا عن التاريخ الإنجليزي، اتجه مارتن صوب التاريخ الاسكتلندي هذه المرة واستلهم من عدّة حوادث شهيرة وقعت فيه حادثة العُرس الأحمر في الروايات والمسلسل، حيث يتم قتل روب وزوجته الحبلى وذبح والدته في زفاف عمه. من تلك الحوادث نجد حادثة العشاء الأسود التي وقعت عام 1440.

   

يروي مارتن عن الحادثة: "وقع العشاء الأسود في خضم نزاع بين ملك اسكتلندا وآل بلاك دوغلاس. كان لورد آل دوغلاس فتى يافعا، في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة تقريبا مثل روب ستارك، دعاه الملك لمأدبة فذهب وأحضر معه أخاه الأصغر. حظي الجميع بوقت سعيد وتناولوا وليمة رائعة". وبينما هم يأكلون، أغلقت الأبواب، ووُضعت رأس خنزير أسود، أحد رموز الموت في الثقافة الاسكتلندية، تقطر الدماء من عنقه، أمام اللورد. "ثم سُمع صوت طبلة تقرع بشكل منذر، اندفع رجال الملك وسحبوا اللورد وأخاه خارج القصر، وهناك، ضربوا عنقيهما".

  

      undefined

    

كما استلهم مارتن العُرس الأحمر من حادثة أخرى شهيرة في التاريخ الاسكتلندي تُسمى مذبحة جلينكو، يروي مارتن: "أتى آل كامبل لمدينة جلينكو، حيث كان يسكن آل ماكدونالد، وقضوا تلك الليلة في ضيافتهم. وقد كان جميع من في اسكتلندا يحترمون قوانين الضيافة، مثلما هو الحال في ويستروس. فأطعم آل ماكدونالد آل كامبل، ووفروا لهم ماء وملجأ من العاصفة. وفي منتصف الليل، نهض الضيوف من أسرّتهم، وبدأوا يقتلون كل من يقابلهم من آل ماكدونالد. هنا، الضيوف يذبحون مضيفهم، في الرواية عكست الأمر، وقمت بخلط هاتين الحادثتين معا لأصنع العرس الأحمر". [9] [10]

   

بين هنري تودر ودينيريس تارجيريان

يعود مارتن للتاريخ الإنجليزي مرة أخرى ويستلهم منه شخصية دينيريس تارجيريان. لكن عوضا عن الشقراء الجميلة التي نراها في المسلسل، نجد أن الإلهام الحقيقي من ورائها كان في الأساس رجلا.

   

هربت عائلة هنري تودر، سليل آل لانكستر من ناحية الأم، من بريطانيا لفرنسا بعد أن انتصر إدوارد دوق يورك على آل لانكستر في الحرب، وتبوّأ السلطة. فقد خافت عائلة هنري عليه من أن تطوله يد إدوارد ويقتله، فعاش الفتى الصغير منذ طفولته، كدينيريس، في منفى إجباري.

  

      undefined

  

بلا مال أو جيش في بلد غريب، وملك قوي كإدوارد يجلس على العرش، بدت فرصة هنري، آخر من تبقى من آل لانكستر، في الوصول لحكم إنجلترا ضئيلة للغاية. لكن كل ذلك تغير، عندما مات إدوارد عام 1483 مريضا على فراشه، ليستولي بعدها أخوه ريتشارد الثالث على العرش، بعد أن أخفى أولاد أخيه إدوارد الطفلين، والورثة الشرعيين للعرش، داخل قلعة برج لندن.

 

على عكس إدوارد، كان ريتشارد مكروها من الشعب، بلا مهارة عسكرية حقيقية، ما جعل فرص هنري تودر في النجاح أفضل بكثير مما سبق. بجيش كجيش دينيرس يُشكّل الجنود المأجورون أغلبه، تحرك هنري صوب إنجلترا، ونجح في قتل ريتشارد والوصول للعرش. ذهب هنري للقصر الملكي، وعَلَم عائلة تودر المزين بالتنين يرفرف من ورائه. [11]

     undefined

  

أثبت هنري كونه أكثر حكمة بكثير من كل من سبقوه، فكان أول شيء فعله فور إعلان نفسه ملكا هو الزواج من ابنة إدوارد، الملك الراحل ودوق يورك، ليوحّد بذلك وردة آل يورك البيضاء ووردة آل لانكستر الحمراء، ويضع النهاية لحرب الوردتين الدموية التي استمرت ثلاثين عاما.[12]

     

قد لا يكون الشبه حرفيا بين "صراع العروش" والتاريخ الإنجليزي، فقد استلهم مارتن الكثير من تفاصيل كتبه وثقافة ويستروس من العصور الوسطى الأوروبية، دون أن يلزم نفسه باتباع مساراتها نفسها، لكن تأثير ما قرأه عنها يبدو واضحا بجلاء في الروايات والمسلسل. يقول مارتن عن هذا: "خطر ببالي أنه إن أخذت حرب الوردتين وحورتها قليلا، وأضفت بعض العناصر الفانتازية، وغيرت الشخصيات، سيكون لديك كل جاذبية تلك الحرب، لكن دون القدرة على التنبؤ بما سيحدث، ومن ثم لن تعرف من سينتصر، ومن سيموت".[13]

المصدر : الجزيرة