"هذا المساء".. كيف عكست الدراما وجه القاهرة القاسي؟

ميدان - هذ المساء
في السنوات الأخيرة، تحاول معظم المسلسلات أن تبدأ حلقاتها الأولى بأحداث جاذبة، جريمة قتل أو اختطاف أو لغز غريب بحاجة إلى حل، بهدف التشويق وعقد رباط وثيق مع المشاهد لا ينقطع إلا بفك تشابكات القضية، حيث يرتبط هذا التوجه بشكل أساسي بارتفاع حدة التنافس ونسبة المشاهدة بين الأعمال الدرامية، وعلاقة ذلك بالإعلانات والمردود المالي. من خارج السرب أتى مسلسل "هذا المساء"، من إخراج تامر محسن، بحلقات أولى هادئة، لا ألغاز هنا ولا جرائم قتل بحاجة إلى حل، بل نجد أنفسنا فجأة بداخل لحظات عادية من حيوات الشخصيات، لا شيء غريب أو مختلف، لا لقطات تعريفية بالمكان أو الناس.

كانت تلك التفصيلة هي النقطة الأولى التي يتضح معها الاختلاف الظاهري بين "هذا المساء" والأعمال الدرامية الأخرى، لا على صعيد ما عُرض معه هذا العام فقط، ولكن حتى مما عرض في السنوات الخمس الأخيرة. ما حدث كان غريبا، إلا أنه سرعان ما بدأت الخيوط في التشابك، والأحداث في التعقد، والتفاصيل في السطوع، ليرتفع المستوى الفني بتتابع الحلقات مع ازدياد حدة الأحداث، ويزيد الشعور بحقيقة الشخصيات، دون مبالغات أو فجوات، وبإتقان كامل ونادر في كل العناصر. ومع وجود عشرات التفاصيل والزوايا التي يمكن النظر من خلالها لمسلسل "هذا المساء" على مستوى الديكور والموسيقى واختيار الأغاني والأداءات التمثيلية وبناء الشخصيات وكل ما يتعلق بعناصر العمل على امتداد الحلقات ال 30، وفي زحمة كل تلك التفاصيل فإن النقطة التي يمكن البدء منها هي المحركات الدرامية والتيمات الأساسية التي خلقت أحداثه، أو بشكل آخر يمكن أن نعبر عنها بسؤال: ما الذي دار في 30 يوم؟

 

الخطيئة الأصلية
شخصية
شخصية "سمير" الذي أحب فكرة مراقبة الناس ومعرفة دواخلهم، قبل أن يؤدي ذلك لكارثة مقتل زوجة صديقه، ومع ذلك لم يستطع التوقف عن الفضول وسلطة المراقبة دون أن يدري أن ذلك يدمّر حياته قبل أي شخص آخر
  
تنظر الديانات الإبراهيمية للخلق باعتبار أن الخطيئة الأولى والأصلية التي هَوَت بالإنسان من جنة عدن إلى الأرض والتي كانت السبب في كل الشرور هي "الفضول"، فضول النبي "آدم" نحو الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها، فاستسلم هو للإغواء الذي اعتمد في جوهره على نقطة أساسية: "لماذا هذه الشجرة تحديدا هي المحرمة؟"، ومن هذا السؤال استمرت الخطيئة كجزء أصيل في النفس البشرية، وفي مسلسل "هذا المساء" فإن التيمة الدرامية الكبرى والمحرك الدرامي الأساسي الذي يدفع كل الخيوط والشخصيات هو "الفضول".

في كتابه "أناتومي أوف ستوري" (Anatomy of Story)، وهو واحد من أهم الكتب في علم السيناريو، يقول المؤلف جون تروبي إن "واحدة من أكبر الأخطاء التي يرتكبها كاتب السيناريو هو أن يركز على البطل الرئيس وتكون كل الشخصيات الأخرى في صراعات وعوالم منفصلة، حيث أن النتيجة لن تكون بوجود بطل ضعيف فقط، إنما أيضا شخصيات غير مهمة"، قبل أن يضيف بأن "في القصص الجيدة الشخصيات لا تكون عشوائية، كل منها يأتي لإضافة شيء ما، وأبعاد أخرى إلى التيمة". ذلك تحديدا ما يحدث في "هذا المساء"، التيمة الكبرى هي الفضول، ومن الصعب تحديد بطل رئيس أو بطلة رئيسة للمسلسل لأن الجميع يتقاسمون الأهمية، وكلهم يدورون في فلك الخطيئة الأولى.

شخصية "سمير" (أداء أحمد داوود) هي الانعكاس الأكبر لذلك، الشخص الذي أحب فكرة مراقبة الناس ومعرفة دواخلهم، قبل أن يؤدي ذلك لكارثة مقتل زوجة صديقه (بعد أن عرف بخيانتها وأخبره)، ولكنه مع ذلك لم يستطع التوقف عن الفضول وعن سلطة المراقبة دون أن يدري أن ذلك يدمّر حياته قبل أي شخص، أو كما يقول له أحد الشخصيات في مشهد مهم: "اللي يعيّن نفسه وصي على الناس مينفعش يبقى منيهم". شخصية "سوني" (أداء محمد فرّاج) تمتلك فضولا مختلفا، ربما لأن لهذه الشخصية أهدافا، فضول يبحث عن الخطايا والنقائص من أجل ابتزاز النساء بها، بحثا عن الأُنس وهربا من الوحدة، لا يتوقف عن التصنت ومراقبة الهواتف، حتى في كل المرات التي حاول فيها -صادقا- أن يتوقف.

  undefined  
فضول شخصية "أكرم" (أداء إياد نصّار) يأتي بشكل مختلف، فهو فضول نحو عالم كامل يقع على الجانب الآخر منه، الشخص الغني المتزوج من سيدة جميلة ويعيش في عالم كامل من الأزرق (كعنصر بصري تم بناء المسلسل كاملا عليه، عالم الأغنياء بالأزرق والفقراء بالأحمر والأصفر) ولديه فضول مدمر حول هذا المكان الآخر، لذلك يتزوج "عبلة" صاحبة المسمط، التي لديها فضول أكثر إنسانية عن نوعية أخرى من الرجال غير التي عرفتهم طوال حياتها. وهكذا تتداخل الخطوط والشخصيات الرئيسة كلها تحت لوحة كبيرة من "الفضول" نحو شيء ما ونحو حياة أخرى ونحو رغبة في المعرفة، "شيطان الفضول حتى لو فتح باب جهنم"  كما يقول المخرج تامر محسن نفسه(1).

الشخص وصورته العكسية
أستاذ السيناريو روبرتمكي يصف "البناء الدرامي" بأنه: "تقديم ضغوط متنامية تجبر الشخصيات على الدخول في مآزق أكبر وأكثر صعوبة، يضطرون فيها لأفعال واختيارات خطرة، لتكشف تدريجيا عن طباعها الحقيقية، حتى الموجودة في اللاشعور"(2)، وكلما تكشفت الشخصيات أكثر في "هذا المساء" ازداد تشابكها بصورة أكبر مع شخصيات المسلسل الأخرى، تظهر وتكشف -بالتشابه أو التناقض- ما عليه الآخرين، كما يقول جون تروبي أيضا: "في الدراما الجيدة تساعدك الشخصيات المحيطة على تحديد البطل بمسلك آخر غير تصرفاته هو نفسه"(3)، وفي دراما عظيمة مثل "هذا المساء" يحدث ذلك مع أغلب الشخصيات:

"سمير في مقابل سوني": في أحد المشاهد المهمة يذهب "سوني" إلى "تريكة" ويخبره بشكل مباشر أن الفتاة التي يحبها غير مخلصة ("مدوّراها" حسب حوار المسلسل)، وفي المشهد الذي يصدق فيه "تريكة" ذلك يسأله هل هو السبب فيرد "سوني" بالإيجاب: "كنت عايزني يعني أقف أتفرج عليك؟". هذا الموقف يمكن وضعه في مواجهة موقف "سمير" حين أخبر صديقه القديم أن زوجته تخونه عن طريق مكالمة مجهولة فأدى ذلك لمقتلها. "سوني" هو المقابل لـ"سمير"، الأكثر فجاجة في أخطائه، الأكثر جرأة ومباشرة و"ظهورا"، الأقل تغنيا بالفضيلة أو محاكمة الآخرين، هو انعكاس لتعامل مختلف مع خطيئة فضول مشابهة، لذلك فالصدام الأخير بينهما (في الحلقة 28) وقوله إن الفارق بينهما أنه "لا يضحك على نفسه" كان في مكانه بشدة.

 

في مقارنة بسيطة بين نايلة وعبلة هي سيدتين أحدهما ابنة المجتمع الراقي والعالم الأزرق المحدد بالمللي، والأخرى صاحبة المطعم، السيدة الشعبية
في مقارنة بسيطة بين نايلة وعبلة هي سيدتين أحدهما ابنة المجتمع الراقي والعالم الأزرق المحدد بالمللي، والأخرى صاحبة المطعم، السيدة الشعبية "الحرّة" كما تصف نفسها
  

"سوني في مقابل أكرم": طوال الوقت، منذ بداية الأحداث، يبحث "سوني" عن شخص يحبه بشكل حقيقي لكي يهرب من وحدته وجدرانه الأربعة، ويكون على استعداد للتغير تماما في حال وجد هذا الشخص (كما حدث في الحلقات القليلة التي خطب فيها تقى). وطوال الوقت، منذ بداية الأحداث، يبحث "أكرم" عما هو أكثر مما يملكه بالفعل، فإلى جانب الشركة والزوجة والأموال وما يبدو أنه معطيات كاملة للسعادة فإنه يتحرك نحو "عبلة" في الجانب الآخر لإكمال جزء قد يكون ناقصا. "سوني" كذلك -رغم شره وقبحه الظاهرين- هو الأكثر جرأة والأقل أنانية، ولا يمكن مراوغة المقارنة بين مواجهته لضاحي في الحلقات الأول دفاعا عن "عبلة"، في مقابل وقوف "المستر أكرم" -في الحلقات الأخيرة- مختبئا وراء الباب من "ضاحي" سامحا لأن تخرج "زوجته عبلة" للتصادم مع الغريب، أو المشهد اللاحق الذي يجسد المقاربة بصورة أوضح، حيث "أكرم" يختبئ وراء الشباك بينما "سوني" هو من يدافع عن "زوجته نايلة" أمام المتحرشين.

"نايلة في مقابل عبلة": المقاربة الأوضح والأظهر، عن سيدتين أحدهما ابنة المجتمع الراقي والعالم الأزرق المحدد بالمللي، والأخرى صاحبة المطعم، السيدة الشعبية "الحرّة" -كما تصف نفسها-. انجذاب "أكرم" لـ"عبلة" رغم حبه لـ"نايلة" يحكي الكثير عن شخصيته أيضا، الشعور بالنقص أمام بهاء عالم الأخيرة ووالدها وشركته وتداخل العمل مع الحياة الذي يجعله يشعر دوما بكونه الأقل، في مقابل جملة "عبلة" التي تقولها له باستمرار عن أنه "سيد الناس" الذي يبهرها في كل تفاصيله، و"أكرم" بالطبع هو الآخر نقيض مباشر واضح للـ"معلم ضاحي" بالنسبة لشخصية "عبلة".

 

هنا القاهرة
undefined
 
لا يمكن أبدا قراءة هذا المسلسل بمعزل عن مدينته! منذ بداية الأحداث يستخدم تامر محسن لقطات وثائقية للقاهرة، في الشارع، وعلى الجسور، وللأشخاص العاديين، ومن داخل سيارات الأجرة أو عربات المترو، في كل مرة يتضح أحد الخطوط في إشارة إلى أن هذا المسلسل يحدث الآن وهنا، تلك هي القاهرة، بشرائحها وعوالمها البعيدة، بقسوتها وصعوبتها ودهسها للبشر، تلك هي القاهرة في مساحات التضامن البشرية التي لا زالت متاحة وموجودة بين الناس، تلك هي القاهرة، بالمحبين في عيد الحب، والراقصين في المراكب النيلية، والمراقبين للمآسي من وراء كاميرات الهاتف المحمول، لتعكس شخصيات المسلسل وأحداثه في كل لحظة جزء من هذا النسيج.

المسلسل عن الآن أيضا، منذ البداية يحدد خريطته الزمنية، نحن في عصر ما بعد الثورة، العصر الذي خرجت فيه بعض البرامج الإعلامية لإذاعة أحاديث خاصة للمعارضين بعد التجسس على هواتفهم، نحن في تلك اللحظة المرعبة التي أصبحت فيها "25 يناير" مجرد ملصق معلق أمام بيت "تقى"، وتاريخ العفو الذي يخرج فيه "حامد" من السجن، وتذهب "نايلة" في رحلة إلى جزيرة صنافير -دون أن يُقال اسمها صراحة- في حلقات المسلسل الأخيرة، وقبل أيام فقط من وداعيتها ونقل ملكيتها للسعودية. "هذا المساء" هو عن مسلسل عن عالمنا الآن، وثيقة شاعرية واستثنائية جدا عما حدث وما يحدث، وأي قراءة متعمقة لا يمكن أبدا أن تعزله عن زمنه ومكانه.

المصدر : الجزيرة

إعلان