كيف نظر نيتشه إلى فيلم "المسدس"؟

midan - revolver
مقدمة المترجم
يعود الكاتب بنا إلى 12 عامًا إلى الوراء، إلى فيلمٍ اعتبر وقت صدوره أحد أسوأ أعمال المخرج البريطاني جاي ريتشي، (Revolver) "المسدس"، وغايته هي تفكيك الفيلم من منظورٍ نيتشوي.

 

نص التقرير
يتمحور فيلم "مسدس" حول جيك غرين (ستاثمان) الذي يُطلق سراحه بعد سبع سنين قضاها في زنزانة الحبس الانفرادي. وينجح غرين في جمع ثورةٍ صغيرة بفضل القمار، ومن ثم يوجّه أنظاره صوب الانتقام من ماكا (في أداءٍ تبهجك مبالغاته للممثّل ري ليوتا)، وهو مالك كازينو متعطّشٌ للسلطة كان السبب وراء محكومية غرين الظالمة. وبالفعل، يتمكّن غرين من إذلال ماكا كما حُقَّ له، ولكن سرعان ما يكتشف أن مرضاً قاتلاً قد ألمَّ به ولم يعد يملك على هذه الأرض سوى ثلاثة أيام.

 

في هذه الأثناء، يستعين ماكا بقتلةٍ مأجورين للنيل من غرين ويقوم أيضاً بإعدام بطانته، وهو ما يدفع بغرين للجوء إلى أخطبوطي قروض غامضين، هما آفي وزاك، اللذين يتعهّدان بحمايته مقابل الحصول على جميع أمواله بالإضافة إلى التزامه بجميع مطالبهما دون أي أسئلةٍ أو اعتراض. نشاهد كيف أمست حياة غرين، فيما يفترض بأنها ساعاته الأخيرة، إعصاراً من الفوضى، وقد فقد غرين السيطرة بأتمّ معنى الكلمة. وكما قال ريتشي في إحدى المقابلات:"ليس لشيءٍ أن يسرّع دوران عجلة الأحداث مثل سحابة الموت وهي تحوم فوق رأسك".

 

الطوابع الرئيسية
undefined
    
هناك أربعة اقتباسات رئيسية تظهر خلال الشارة الافتتاحية للفيلم، وتتجلّى هذه الاقتباسات الأربعة طوابعَ رئيسيةٍ لهذا الفيلم عبر تقديمها بصورةٍ صريحة، وإجراءها على ألسنة الشخصيات، وتكرارها سواءً أكان ذلك صراحةً أم ضمناً. الاقتباسات الأربعة هي: "الطريقة الوحيدة لكي تقوّي ملكة ذكاءك هي بأن تُنازل خصمًا يفوقك ذكاءً." (مِن: The Fundamentals of Chess) عام 1975، و"ليس لأحدٍ أن يتجنّب الحرب، كل ما تستطيع أن تفعله هو تأجيلها، مانحاً خصمك الأفضلية" (قاله نيكولو مايكيفالي – 1502)، و"يختبئ أعظم الأعداء في آخر مكانٍ ستبحث فيه" (قاله يوليوس قيصر – 75 قبل الميلاد)، و"أولى قواعد التجارة: احمِ استثمارك" (مِن: Etiquette of the Banker) عام 1775. ويمكن صفّ هذه الاقتباسات الأربع تحت عنوانين فرعيين: الغرور والحرب على الذات.

 

الغرور
كانت رغبة غرين في الانتقام من ماكا ثمرة غروره وأفكاره المتشعّبة التي تشكّل فكرته عن قيمته الذاتية وذكائه. فبصفتنا "تجاراً" نروّج لبضاعة ذواتنا، نحن نقاتل بكل ما أوتينا "لحماية استثمارنا"، أي أفكارنا عن أهميتنا الذاتية وعمّا نستحقه. وفعلاً، يقول غرين وهو في الدرب بأن على ماكا "أن يدفع، فالأمر سببٌ ونتيجة". ولكن بعد الانتقام، تلمّ النوائب بغرين، وتقوده إلى أن يدرك بأن قهره لعدوه البرّاني، متخيَّلاً كان أم حقيقياً، ليس هو السبيل إلى تهذيب النفس، وإنما إدراك اللعبة التي يلعبها المرء مع نفسه، والإحاطة بأن هذه اللعبة هي أحد مرسومات كبريائه. فالانتصارات البرّانية، والزائلة، والمشروطة هي ملهاةٌ لا أكثر. ولن يستطيع المرء أن يعمل نحو تهذيب نفسه إلا بعد إحاطته الكاملة بهذه الفكرة، أو ما يسمّيه البوذيون بالانعتاق (موكشا) من دورة الحياة (سامسارا)، وبهذا تكون المعركة الوحيدة التي تستحق معاناة خوضها هي المعركة التي يجابه فيها المرء أذكى خصمٍ يستطيع قهره: النفس.

 

يصلُ غرين إلى نقطة انكسار مع توالي الأحداث بعد أن سُلِبت منه ثروته المادية، وقدرته على التحكم بصحته الجسدية والعاطفية. ويغرق في جبّ نزالٍ مسعور مع أناه فيما كان المشهد الأقوى في الفيلم كلّه. فنرى غرين عالقاً داخل المصعد عند الطابق الثالث عشر في مقر ماكا، وعوضاً عن إطاعته لرغباته الذاتية بقتل ماكا، يعتذر لعدوه اللدود ويطلب منه الصفح. فيرى غرين، وهو في المصعد، غرورَه وقد استشاط غضباً من افتقاره إلى التأثير على أفعال غرين. لقد أدرك غرين بأن قهرَ عدوه البرّاني وكنز الثروات لن يحقّق له السلام، فينطوي غرين على نفسه في لحظة يأس ليجد العدو الذي كان يتجنّبه حتى هذه اللحظة.

 

وبعد معركته الجوّانية في المصعد، نتلمّس بأن غرين قد حقّق شيئاً من التناغم الجوّاني، ونرى كيف توضع هذه الصورة بجانب سلوك ماكا الذي رجّه الصفاء الذي أُنعِم به على عدوه، حيث نرى كيف كان ماكا عشوائيةً عاطفية يبكي غروره كطفلٍ صغير يحتاجُ إلى خوف الآخرين كي يشعر بالرضا عن وجوده.

 

الحرب على الذات
نرى غرين يمضي سنوات حبسه الانعزالي ليصبح نصّاباً بارعاً، وبالفعل كانت هذه المهارات التي اكتسبها خير حليفٍ له في تكديس ثروته وإهانة ماكا
نرى غرين يمضي سنوات حبسه الانعزالي ليصبح نصّاباً بارعاً، وبالفعل كانت هذه المهارات التي اكتسبها خير حليفٍ له في تكديس ثروته وإهانة ماكا
  
علّق ريتشي بأنه ابتغى أن يحمل هذا الفيلم رسالةً واحدة فقط وهي: "ليس هناك شيءٌ اسمه العدو البرّاني" وأضاف لاحقاً: "هذه ليست قصةً عن الأخلاق، وإنما هي ببساطة قصةٌ عن اللعبة، ولا حقّ ولا باطل هنا… فجميعنا لاعبون في لعباتنا الصغيرة الخاصة بنا". وهذا يُعيدنا إلى فريدريك نيتشه (1844-1990)، ويضعنا أمام نقاش الطوابع النيتشوية المهيمنة على الفيلم.

 

رأى نيتشه، وهو المفكّر الأخلاقي، بأن على المرء أن يخوض غمار حربٍ مع نفسه في سبيل تهذيبها على حساب أي فضيلةٍ اجتماعيةٍ أو ثقافيةٍ مُعطاة في ظلّ ما رأى نيتشه بأنه ثقافةٌ أوروبية "منحطة" قد وجد المرء نفسه عالقاً في مستنقعها. وكما حاجج نيتشه في أحد أعماله الأكثر نضجاً، المسمّى عن دراية، ما وراء الخير والشر، بأنه "يجب على المرءِ أن يُخضِع نفسه لاختباراته الذاتية… بالرغم من أن هذا قد يكون أخطر لعبةٍ للمرء أن يلعبها، وفي النهاية تُجرى هذه الاختبارات في حضرة أنفسنا، وأنفسنا فقط، وليس في حضرة أي حكمٍ آخر".

 

نرى غرين يمضي سنوات حبسه الانعزالي ليصبح نصّاباً بارعاً، وبالفعل كانت هذه المهارات التي اكتسبها خير حليفٍ له في تكديس ثروته وإهانة ماكا. ولكن بالرغم من البرهنة على فهمٍ متنفّذ لـ "قواعد المجتمع" -تكديس الثورة والانتقام- عانى غرين معاناةً لا توصف عندما أُكرِه على التخلي عن ثروته، وهو يعرف أنها زائلةٌ ومشروطة، وعندما واجه شبح الموت، الذي يعرف أنه أيضاً زائل. ونتلمّس كيف جسّد غرين، في غمرة كل هذه الحيرة والارتباك، قولاً آخر من أحد أعمال نيتشه الأكثر نضجاً، جينولوجيا الأخلاق، بأننا: "غريبون عن أنفسنا، نحن من حُزنا المعرفة، وبين طيات هذا سببٌ وجيه. لم تكن يوماً أنفسَنا هي مساعينا، فكيف نستطيع إذاً أن نجد أنفسنا؟".

 

كانت تراكيبية الفيلم في ترتيبها لسقوط غرين في وحل الفوضى الجوّانية بمجرّد أن أدرك السخرية الكامنة في أن قدرته غير البسيطة كنصّاب لعبت دوراً هاماً في إخفاء عدوه الأعظم، غروره، عنه هي واحدةً من أفضل جوانب الفيلم. ومن ثم عندما ننتقل إلى المشهد المصيري في المصعد، نتلمّس كيف يجسّد غرين أحد الأقوال المأثورة من دفاتر نيتشه (جُمِعت في مخطوطة سميّت "إرادة القوة")، حيث يقول "أن تصبح سيداً لفوضى الذات يعني أن تُخضِع فوضى الذات لأن تصبح منظومة، أن تصبح منطقية، بسيطة، خاليةً من الإبهام، الرياضيات، القانون، هذا هو الطموح الأعظم هنا".

  

إنّ قدرة غرين، أو إدراكه بتحلّيه بالقدرة على الصفح كانت الرمزية الأعظم لنصره على غرور نفسه وضبطه للفوضى التي كان يتمثّل بها
إنّ قدرة غرين، أو إدراكه بتحلّيه بالقدرة على الصفح كانت الرمزية الأعظم لنصره على غرور نفسه وضبطه للفوضى التي كان يتمثّل بها
  

وبهذا، بعد انعتاقه من غرور نفسه، نتلمّس كيف أُنعِم على غرين بحالةٍ من الهناء تتجاوز حدود دورة فرحة النصر وكرب الهزيمة. ولنا أن نصف غرين بأنه "رجلٌ خارق" في فصول الفيلم الأخيرة إذا ما قارناه بتعليقه في بداية الفيلم وهو يتلذّذ بالانتقام التي رنت له نفسه من ماكا:"كلما كان السقوط مدوّياً أكثر، كان طعم الانتصار أعذب"، على الأقل إلى القدر الذي سمح له بتجاوز المثل السائدة في ثقافته (الجشع، والانتقام) وهو بالتالي كان بالفعل "وراء الخير والشر"، كما يحاجج نيتشه في كتاب جينالوجيا الأخلاق: "دلالة القوة هي أن لا يكون المرء قادراً على أخذ أعداءه، أو نوائبه، أو آثامه على محمل الجد لفترةٍ طويلة. في أولئك تقبع وافر القدرة على التكوين، على التشكيل، على التعافي، على النسيان".

 

وباكتمال معالم انعتاق غرين، نرى واحداً من أقل الفصول الأخيرة هوليودية، فلمَ نر هنا بطلاً يلوّح بأسلحته وقد عقد العزم على تحقيق العدالة، ولكننا نرى بطلاً قد "تجاوز الخير والشر"، للدرجة التي جعلته ينظر إلى من كان يوماً ما عدوه اللدود وقد وضع المسدس على رأس طفل -بنت أخ غرين- وقلبه يفيض شفقةً على كليهما في مشهد يعكس جرأةً وإدراكاً بأنه هو كان أيضاً، على غرار ماكا، مجرّد كلبٍ ذليلٍ أمام غرور نفسه. تخلّى غرين عن ثروته ومكانته الاجتماعية، ولا نهمل أيضاً بأنه لا يعرف كم بقي في جسده من حياة، وبهذا أصبح "إنساناً أكثر" بالقدر الذي أتاح له بأن يصبر على الإصابة "دون أن يعاني" ليكون هذا التحمل الرواقي "مقياساً فعلياً لثروته" (جينالوجيا الأخلاق – المقالة الثانية). إنّ قدرة غرين، أو لنقل إدراكه بتحلّيه بالقدرة على الصفح كانت الرمزية الأعظم لنصره على غرور نفسه وضبطه للفوضى التي كان يتمثّل بها.

 

___________________________

 
التقرير مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة

إعلان