شعار قسم ميدان

فيلم البجعة السوداء.. الذات البشرية في أعتى تحولاتها

midan - swan

لقد شاهدنا جميعا تحفة المخرج أرونوفسكي، ورأينا التحولات القاسية التي مرت بها شخصية البطلة ناتالي بورتمان والتي فسرناها على أنها فقدان للعقل. لكن كاتب المقال التالي يعرض وجهة نظر مختلفة للأسباب والنتائج التي واكبت التحولات القاسية التي مرت بها البطلة من خلال تعريج سريع على موقف نيتشه من العقل وحدوده.
 

"على المرء أن يخلق شيئا من الفوضى بداخله لكي تولد نجمة راقصة"

-هكذا تكلم زرادشت، فريدريك نيتشة
 

لقد أسرني إبداع "أرونوفسكي" ليس فقط مبسبب إطلالته كفيلم طاغٍ جماليا؛ وإنما أيضا لصداه الذي يتصل بحقل دراستي. وعليه فقد غذّت أطروحتي للدراسات العليا قراءتي للفيلم، والتي تركزت في فلسفة "نيتشه"، وبالتحديد اعتقاد "نيتشه" بفشل اللغة في ترجمة الرمزية العالمية للموسيقى

 

ومع ذلك، فأنا لست مهتما ههنا بمقطوعة "تشايكوفسكي" بحيرة البجع (التي تدور حولها حكاية الفيلم) كاهتمامي بما أعتبره صدامًا بين رؤيتين للعالم مختلفتين. وهي الرؤية الديونيسية والرؤية الأبولونية. عبارة "الديونيسية" مشتقة من ديونيس، الإله الإغريقي القديم ممثل النشوة والجنون (يعرف بالإله "باكوس" عند الرومان)، بينما "الأبولونية" مشتقة من أبولو، وهو إله أشياء عدة عند الإغريق، بما فيها النور، والشمس والشفاء؛ لكن تماشيا مع جدال "نيتشه"، فهو بشكل رئيس ممثل العقل. بالنسبة إلى "نيتشه" يشكّل كلا العنصرين الإلهيين جوانب متمايزة من التعابير الفنية: "الديونيسي" هو العنصرالشغوف، والعاطفي، بينما "الأبولوني" هوالعنصر الفكري، كما قال "نيتشه" في كتابه، ميلاد التراجيديا.

 

نينا: "الأبولونية" الخالصة
المخرج دارين أرونوفسكي أثناء مؤتمر صحفي
المخرج دارين أرونوفسكي أثناء مؤتمر صحفي
 


يصوّر فيلم البجعة السوداءالبطلة، التي تدعى نينا -تؤدي دورها الممثلة ناتالي بورتمان- في رحلة مجنونة تسعى فيها لتحقيق الأداء المثالي في دور البطولة المزودج في مسرحية راقصة بعنوان بحيرة البجع؛ حيث تلعب دور "أوديت"، البجعة البيضاء، و"أوديل"، البجعة السوداء. تحت إشراف والدتها العصابية، أصبحت "نينا" راقصة حقيقية، وبما أنها صاحبة الحظّ الأوفر في فرقة الرقص، تفوز بعباءة الدور الرئيس لعرض الموسم القادم.

 

بالتمرين المكثف، والانضباط الصارم، تجسد "نينا" طبيعة البجعة البيضاء الأبولونية بدقة. إلا أنها، في نظرالمخرج المتسلط توماس -يؤدي دوره ببراعة الممثل فينسنت كاسل- تفشل في التقاط الجوهر الأولي للبجعة السوداء الديونيسية التي يريد.

 

هذا التصوير المتعمق لرحلة "نينا" المضنية في محاولة تجسيد البجعة السوداء والدور المثالي لا يصلنا عبر نص أو حوار معقّد معين، وإنمّا بالدرجة الأولى من خلال الإخراج المعتم الفريد لأورونوفسكي، المصحوب بالسينماتوغرافيا الرائعة لـ"ماثيو ليباتيك" والتأليف الموسيقي الساحر لـ"كلينت مانسيلو" الذي ألهمه عمل "تشايكوفسكي" بشكل كبير على مدار الفيلم.

 

باتباعه مقاربة تجديدية، يشيّد الفيلم ملحمة كبرى تستعرض ما يترتب على تجسيد الروح الديونيسية. يبلغ الفيلم الذروة عندما تؤدي "نينا" دورها الآسر كبجعة سوداء؛ قبل هذا الأداء يكون المشاهد قد اطلع طيلة ساعة ونصف من عمر الفيلم على تفاني البطلة في التمرين قبل تأدية دورها في المشهد الختامي. غير أن بحثها عن الكمال والمثالية يدفعانها إلى طريق تدمير الذات: حيث تدخل "نينا" في سلسلة من الاضطرابات؛ تهرش جلدها حدّ النزف، الأمر الذي يبدو معتادًا، تجتاحها الهلوسات، ولأنها تعاني من اضطراب غذائي، تلجأ إلى التقيؤ المتعمد.

 

مع أنّ
مع أنّ "ليلي" تتمكن من دور البجعة السوداء، إلا أنّ أداء "نينا" في البجعة البيضاء يكون مذهلا، ويظلّ حصولها على الكمال مشروطا بقدرتها على إتقان دور البجعة السوداء بنفس الدرجة
 

في الهلوسة الأخيرة ترى "نينا" نفسها تطعن وتقتل زميلتها الراقصة البديلة في الفرقة التي تراها كمنافس على دور البطولة؛ غير أن ما يتأكد لها، بعد انتهائها من تقديم دور البجعة السوداء، أنها كانت طيلة فترة تلك الهلوسة تطعن نفسها في الواقع. في المشهد الختاميّ، نرى الدم يسيل من جسد نينا، مع احتمال موتها. تظهر في اللقطة الختامية، مسجاة بدمائها على أرضية المسرح، وابتسامة أزلية رقيقة تعلو وجهها. لتقول ما بدا وأنه تأملها الأخير في كل ما مرت به "لقد شعرت بالكمال، لقد كان الأمر مثاليا" ثم يتلاشى الفيلم إلى سديم أبيض يغشى المسرح، وصوت الجمهور يعلو هاتفا باسمها.

 

يعتبر نيتشه، أن الروح الديونيسية أكثر من مجرد أسلوب في التفكير. هي بالأحرى، حالة انتشاء و"جنون الصيروة" التي يتمزق من خلالها إربًا "وشاح العقل" الأبولوني

زميلتها في الفرقة والتي ترى فيها تهديدا على دور البطولة هي بديلة شهوانية، عاشقة للذات، تدعى ليلي -تؤدي دورها ببراعة الممثلة ميلا كونيس-. ظاهريا تجسد ليلي البجعة السوداء؛ يعزز هذا التجسيد وشمٌ أسود بصورة جناحين كبيرين على ظهرها -فاتن لكنه يحمل نبرة تهديد.

 

مع أنّ "ليلي" تتمكن من دور البجعة السوداء، إلا أنّ أداء "نينا" في البجعة البيضاء يكون مذهلا، ويظلّ حصولها على الكمال مشروطا بقدرتها على إتقان دور البجعة السوداء بنفس الدرجة. هذا الكمال ليس في متناول "ليلي"، لأنها وإن كانت تتقن دور البجعة السوداء إلا أنها تفتقر للّمسة المثالية التي عند نينا. كما نرى، بالنسبة إلى نيتشه، لن يكون من الممكن لأي شخص إتقان دور البجعة السوداء قبل القضاء على مساحات البياض في داخله.

 

يعتبر نيتشه، أن الروح الديونيسية أكثر من مجرد أسلوب في التفكير. هي بالأحرى، حالة انتشاء و"جنون الصيروة" التي يتمزق من خلالها إربًا "وشاح العقل" الأبولوني. في كتابه، الفجر [ترجمة: أفريقيا الشرق] قال نيتشه "إنّ ما يحتاجه بنو البشر هو النشوة والعمى، والغناء الأزلي على الأمواج التي غرق تحتها العقل". هذا الادعاء الدرامي يلخص الغاية من أعماله الفلسفية؛ وبالأخص، اجتهاده في الترويج للأسلوب الديونيسي في التفكير على نظيره الأبولوني.

 

ونتيجة هذه النظرة الديونيسية ظاهر بكل كثافته وحماسته في البجعة السوداء -أعني في التحول الأولي لدى "نينا" إلى بجعة سوداء؛ عندما تصل نقطة الانهيار، ويتبادر إلى ذهنها أنها قد طعنت وقتلت بديلتها. تصعد إلى خشبة المسرح أمام المشاهدين فيرونها تفرد حرفيا جناحين سوداوين رائعين، ونراها تسلّم ذاتها للجنون الديونيسي الذي ينتج عنه أداء العمر: لقد جسدت [نينا في تلك اللحظة] صرخة نيتشه للشغف الديونيسي.

 

العقلية الديونيسية ليست شيئا سطحيا، أو شيئا يمكن أن ينحدر إلى مراتب النزوات. إنها بالأحرى، تتطلب وجود الشغف الأصيل؛ شيء يتوافر لدى نينا، بينما تعجز عنه ليلي
العقلية الديونيسية ليست شيئا سطحيا، أو شيئا يمكن أن ينحدر إلى مراتب النزوات. إنها بالأحرى، تتطلب وجود الشغف الأصيل؛ شيء يتوافر لدى نينا، بينما تعجز عنه ليلي
 

إن الكمال الذي تتوق له "نينا" يتماشى مع ما قال نيتشه إنه الغاية الأسمى للفن. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية كما يقول إلا من خلال إغراق الذات في الشغف الديونيسي الحر. بناء على ما سبق، فهذا الشغف يكون قادرًا على تحرير المرء من حدود العقل الأبولوني. غير أن هذه النقلة النموذجية في الكينونة، كما هو حال رسولها نيتشه، ليست في متناول الجميع. يعتقد نيتشه بأن الديونيسية هي فقط لأولئك الأقوياء بما يكفي، الذين بلغوا حدود العقل في الروح الأبولونية. وبالتالي، فالديونيسية متاحة فقط من خلال الأبولونية -يرتبط الاثنان ببعضهما البعض بشكل معقد.

 

يصور الفيلم بوضوح النضال من أجل تجاوز الحدود التي وضعها المرء وبلوغ الكمال. وهذه عملية مؤلمة، قد تطحن المرء حتى الموت

 رحلة معاناة "نينا"، والأسلوب الذي تدفع فيه الفن الأبولوني إلى حدوده القصوى، شرط أساسي لها لكي تنسلّ إلى بئر الإلهام الديونيسي. علاوة على ذلك، فإن العقلية الديونيسية ليست شيئا سطحيا، أو شيئا يمكن أن ينحدر إلى مراتب النزوات. إنها بالأحرى، تتطلب وجود الشغف الأصيل؛ شيء يتوافر لدى نينا، بينما تعجز عنه ليلي.

 

دون اختلاف عن فكرة أفلاطون في كهف أليجوري، التي (لأكون صريحة) يخطئ فيها المرء ظلال الغرض على أنها الغرض ذاته، يجادل نيتشه بأن أولئك الذين يؤمنون بأن الأبولونية هي حقيقة الكمال الإنساني [لا مرحلة للعبور إلى الديونيسية التي يرى نيتشه أنها تحقق الكمال الإنساني- مـ]، دائمًا ما يحكمون على الديونيسية التي تحرر الذات الإنسانية بالنفي الأزلي، مفضّلين أعمال العقل بوصفها التعبير المطلق عن الحرية الفنية.

 

وعليه، على غير ما يعتقد العديد من المشاهدين، فأنا لا أعتبر معاناة "نينا" في الفيلم معاناة من مرضٍ عقلي في ذاتها، ولا هي أمر خارق للعادة. بالأحرى؛ فإنني أقرأ ألم "نينا" ومعاناتها على أنه ألم متصل بتجاوزها حدود العقل الأبولوني، وعليه، فهو ألم بلوغ النور الديونيسي خارج الكهف الأبولوني.

 

كمال ما وراء العقل

توق
توق "نينا"، وتحقيقها المطلق، لشكل من أشكال الكمال، يصوّر القوة الجارفة للروح الديونيسية في تحرير أصحابها من سلطان "الاتزان" الأبولوني 
(مواقع التواصل)

يصور الفيلم بوضوح النضال من أجل تجاوز الحدود التي وضعها المرء وبلوغ الكمال. وهذه عملية مؤلمة، قد تطحن المرء حتى الموت. لكن كما قالها [الفنان القتالي الشهير] "بروسلي" ذات مرة "ليس هنالك حدود ولا مرتفعات؛ لكن عليك أن لا تبقى مكانك، عليك أن تتجاوز؛ وإن قتلك الأمر، فقد قتلك". يرفع "أرونوفسكي" مستوى الحماسة من المشهد الأول.

 

ويتيح هذا للمشاهد الانغماس في رحلة اندفاع "نينا" للتخلص من حدودها الشخصية، والشعور بعملية تجسيدها الجنون الديونيسي. في مزاج مشابه، نستطيع استشفاف خطاب تحريضي مشابه في مؤلفات "نيتشه" رأى فيه الغاية الديونيسية ذبابة تقض مضجع ما رآه مجتمعا أوروبيا راكدا في نهاية قرن يسعى فيه هذا المجتمع إلى بلوغ العظمة.

 

إنّ توق "نينا"، وتحقيقها المطلق، لشكل من أشكال الكمال، يصوّر القوة الجارفة للروح الديونيسية في تحرير أصحابها من سلطان "الاتزان" الأبولوني. في فيلم البجعة السوداء، يلتقط "أرونوفسكي" ببراعة التصادم بين رؤيتيّ "نيتشه" للعالم، وما ينتج عن هذا الالتقاط، هو تجربة صوتية؛ مرئية سوداودية، كثيفة ومتميزة. 

———————————————————————————————-

المقال مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة