"أفاتار 2".. لماذا يربح جيمس كاميرون رهاناته السينمائية دائما؟
"بطريقة ما، لا تحيد أفلامي/سينماي أبدا عن قصص الحب".
جيمس كاميرون
الحب هو لحظة فارقة دائما في سينما جيمس كاميرون، سُم حلو المذاق، يتجرعه صاحبه وإن قاده نحو هلاكه المحتم، رهان يقيد به المخرج شخصياته، جاعلا من التضحية شرط البطولة، ليصير جاك بطلا حقيقيا بعد إنقاذه لمحبوبته روز وتجمده في عرض محيط فيلم "تيتانيك"، تماما كما حدث مع جيك سولي بعد أن تمرد على قومه في "أفاتار" وخاض حربا لأجل زوجته أولا ومن ثم أطفاله.
يبطن الحب أفلام كاميرون وما حولها من خير وشر، فهو مبرره لصناعة الأفلام في الأساس. وهو في داخله -على حد قوله- لا يزال كما كان في صباه، حينما استهوته العلوم وأدب الخيال العلمي، وأقبل على دراسة الفيزياء والتخصص فيها بعض الوقت والتبحر في علم الفلك بنهم (1)(2)(3)(4)، ليُحيي هذا الحب كل تلك الرسومات للفضاء والمسوخ والآلات التي اكتظت بها أحلامه ودفاتره على شاشات عرض سينمائية.
السينما عند كاميرون تحتمل كلا الوجهين الفني والتقني، تلك رؤية ورثها بشهادته عن أبويه، والده الذي كان مهندسا ذا عقلية منهجية، ووالدته التي احترفت الفن (5)، ليعتمد منظورا يُسخِّر فيه التقنية للتعبير عن عواطفه، مُقيما قصصه بمنهاج هندسي دقيق، وُصف فيه بالكمالية أو المثالية، داسًّا فيه شغفا آخر وهو الغوص، الذي منذ أن جازف بتجربته وتعلُّمه في السابعة عشرة وهو يراوده شعور أنه تسلم مفاتيح دنيا أخرى غير دنيانا.
قلب المحيط
دنيا هبط إليها كاميرون فسُحر بها وواظب على استطلاع أعماقها منفردا أو بصحبة الكاميرا، ليصل إلى خندق ماريانا، أعمق بقعة على وجه الأرض، بغواصة صغيرة جزءا من مهمة "تحدي أعماق البحار" التي وثَّقها في فيلم حمل العنوان نفسه. يعلق عن التجربة قائلا: "كان مكانا قمريا ومقفرا، تُطبق عليه العزلة من كل جانب. خِلْت لوهلة أني في الفضاء، وأني قصدت كونا بعيدا وعُدت" (6)(7).
يُقبل على هذه الدنيا نفسها أبطال أفلامه باحثين خلالها عن غاية ما أو معنى، مُنقادين خلف رغبة دفينة بداخلهم. ففي عمله "الهاوية" (The Abyss) نبصر إضاءة حمراء تصطدم بلون البحر الأزرق، ندلف على إثرها إلى غواصة نووية يتوزع فيها كلا اللونين على كل جانب، لتُنذر الإضاءة الزرقاء بخطر وشيك بالغرق، وإن بقي اللون الأحمر هناك كشعاع من الأمل الهزيل الذي تنهض به حبكة الفيلم، إذ تبتعث البحرية الأميركية فريقا من الغواصين المدنيين من محطة بترول قريبة لاستكشاف الناجين من الهاوية، ليستشف كاميرون أيضا في ذلك القاع مدى الحضيض الذي وصلت إليه علاقة زوجين منفصلين من أفراد الطاقم.
لم تكن تلك هي تجربة كاميرون الإخراجية الأولى، لكنها بلا شك كانت بدايات سلسلة الإيرادات الطائلة في مسيرته، محققة 90 مليون دولار، ووضعت الأسس التي ميزت عددا من أفلامه الشهيرة التي تكررت فيها ثيمات الولع والاكتشاف وتوظيف اللونين ذاتهما (الأزرق والأحمر)، فنرى في فيلم "تيتانيك"، الذي يعود لشاشات السينما هذه الآونة احتفالا بمُضي ربع قرن على عرضه، باحثين ينقبون حطام سفينة تيتانيك للعثور على كنز إسباني مفقود.
يتعلق الحب بالطبقية في تيتانيك، فتنقسم الباخرة إلى طبقات، يسكن الأثرياء في الطوابق العليا بينما تخصص السفلى للفقراء. حين تقع عينا جاك على روز للمرة الأولى يرقبها من موقعه بافتتان كنجمة بعيدة المنال، وحين يجاري الأثرياء في ملبسهم ولفتاتهم منتظرا إياها على العشاء، تهبط من الدرج وتقف للحظات على ارتفاع منه، فروق تظل موجودة إلى أن يوحِّد الحب بين تلك الدرجات ويصهرها. يراها كاميرون قصة رومانسية كلاسيكية، مكافئة لروميو وجولييت (8)، عاكسا حرارة هذا الاندفاع بينهما بتدرجات اللون الأحمر التي تغطي شعر روز دالة على تمردها، مقحما في محيطهما بعضا من الزرقة التي قد تنبئ عن سوء يشارف على الوقوع.
"أنا ملك العالم"
ينال كاميرون 11 جائزة أوسكار عن فيلمه، محققا أعلى الإيرادات تاريخيا، يصيح بكلمة كتبها سابقا في السيناريو وصرخ بها جاك على متن سفينة تيتانيك في الفيلم: "أنا ملك العالم". يصل إلى ذروة مجده مجددا في فيلم "أفاتار" مرة عام 2009، ومرة في فيلمه الأخير، وهو الجزء الثاني من "أفاتار" الذي نزل إلى السينمات في موسم رأس السنة الأخير.
بين "تيتانيك" و"أفاتار" وضع كاميرون تركيزه على الوثائقيات في كل حين، مخرجا أفلاما مثل "أشباح الهاوية" (Ghosts of the Abyss) لعام 2003 الذي وثَّق رحلات كاميرون إلى حطام تيتانيك، و"غرباء الأعماق" (Aliens of the Deep) الذي تعاون فيه مع علماء ناسا في إجراء مسح عن المخلوقات البحرية وسط المحيط (9)(10).
"أفاتار" هو رهان كاميرون الذي لم يخذله، الحلم الذي راود والدته في أحد مناماتها، وبدَّد فيه عمرا في انتظار التقنية المناسبة لتصويره، قبل أن يقرر هو أن يُوجدها، مقررا اعتماد نظام الكاميرا الافتراضية لتصوير فيلم ثلاثي الأبعاد، ومزاوجا بين مؤثرات الـ"CGI" القادمة من عالم الألعاب وتقنية الحركة الحية أو "اللايف أكشن" (Live Action)، خالقا تقنية جديدة أطلق عليها "The Volume"، قائمة على قناع وجه شديد الحساسية مدعوم بكاميرا دقيقة لالتقاط تعبيرات الوجه. هذا بخلاف تطويره لنظام "Fusion Digital 3-D Camera" الذي أتاح للممثلين إمكانية رؤية المؤثرات المحيطة بهم بديلا عن الخلفية الخضراء وعن الارتكان إلى خيالهم أثناء تأدية المشهد (11)(12).
ولحاجة السكريبت (النص) إلى لغة، أوكل كاميرون إلى بروفيسور اللغويات بول فرومر من جنوب كاليفورنيا اختراع واحدة، فابتكر الأخير النافي (Na’vi) من نحو ألف كلمة، قبل أن يوسع معجمه ليستوعب ما يفوق 2000 كلمة بقواعد جعلتها قابلة للتعلم وسهلة النطق (13) على الممثلين، وما بدأ لغة خيالية استحال إلى لغة حقيقية يمكن بسهولة تعلمها في موقع "تعلم النافي" (learnnavi.org).
بهذا يُثري كاميرون عوالمه، ملمحا إلى تجزئة الفيلم إلى ثلاثية أو حتى خماسية، اعتمادا على مدى نجاح الجزء الثاني "أفاتار: طريق الماء" (Avatar: The Way of Water) الذي يُعرض حاليا. وقد لامست إيرادات الفيلم مليارَيْ دولار حتى وقت كتابة هذا التقرير، ليكون سادس أعلى إصدار في تاريخ شباك التذاكر، وثالث أفلام كاميرون الذي يحصد نجاحا كهذا بعد "أفاتار" و"تيتانيك" (14)(15)(16)(16).
المياه بلون الغرق
في لقطة واسعة من فيلم "أفاتار"، نميز جيك سولي، البطل الحالم العالق في واقع رمادي يرفضه، وهو يُلقي بنفسه في شجار لأجل امرأة عنَّفها رجلها، ليُبرح ضربا ويُلام منها ومن كل مَن حوله، ويُطرح أرضا مطرودا من الحانة في زقاق مظلم ومهمل، تلك الحادثة المفتعلة في الدقائق المبكرة من الفيلم تخبرنا بالكثير عن شخصية جيك سولي. في كل فيلم سينمائي يسعى البطل نحو رغبة ما يخال أنه سيسعد بتحققها، تلك الرغبة ليست بالضرورة ما يحتاج إليه حقا، وهو ما لن يدركه البطل إلا متأخرا. في حالتنا هنا يطمح سولي إلى إجراء عملية في نخاعه الشوكي ليسير على قدميه العاجزتين، بيد أن ما سيدركه لاحقا هو مدى حاجته إلى إيجاد غاية يحيا ويقاتل لأجلها بضراوة، وهو ما سيعثر عليه في الأفاتار.
في البدايات ينظر سولي إلى جثة أخيه التوأم فتزداد الإضاءة شحوبا. يقبل بمهمة أن يحل محل توأمه لتطابقهما جينيا والذهاب بديلا عنه إلى كوكب آخر بهيئة أخرى وهي الأفاتار، وهناك تصطبغ كل الأشياء والشخصيات بزُرقة. تعترف به القبيلة في الأفاتار وتضمه إليها، ليعي بعدها وسط الدمار الذي حل بالأفاتار وتسبب به أنه لم يكن بحاجة إلا إلى ذلك الاعتراف، وإلى حب يجازف بحياته في سبيله، لم يكن اندفاعه هذه المرة كسابقتها، فقد عرف أخيرا إلى أي جبهة ينتمي.
الحب في الجزء الثاني "أفاتار: طريق الماء" (Avatar: The Way of Water) الذي طغت فيه الحركة هو حب أنضج، حب الزوج لزوجته والأب لأطفاله وبذل ما بوسعه لحمايتهم. وفي عالمه هذه المرة، يخلق كاميرون مساحة متخيلة عن الاستعمار وأطماع البشر وميولهم العنيفة التي تحركهم، فيُصوِّر شعبا وادعا يحيا بانسجام مع الطبيعة ألا وهم النافي أمام الجيش الأميركي الذي يريق الدماء وينهب ثرواتهم، في استعارة عن وقائع إبادة السكان الأصليين لأميركا (18)(19).
في سياق منفصل، تصور عديد من نشطاء البيئة أن فيلم كاميرون تطرق إلى التغير المناخي والاحتباس الحراري، وإلى قرار الحكومة البرازيلية عام 2010 بمنح ترخيص بيئي لإقامة سد يسمى "بيلو مونتي" في غابات الأمازون. قرار عُدَّ مجازفة بحياة المجاميع البشرية التي تستوطن تلك المنطقة، حتى وإن اشترطت الحكومة على الجهة المتعاقدة لبناء السد دفع 800 مليون دولار لحماية البيئة (20).
كيف جاء "أفاتار 2" بهذه الدقة المتناهية؟
وإلى جانب القصة المثيرة، وُظِّفت تقنية الواقع الافتراضي (VR) في الفيلم الجديد لتصميم البيئات والشخصيات المعقدة، لتتيح سماعات الواقع الافتراضي لكاميرون وطاقم العمل، بمَن فيهم الممثلون، التفاعل مع العالم الافتراضي والترحل فيه وتقمص الأدوار بقدر لا تستطيع تقنيات التصوير المسبق التقليدية توفيره (21).
كما شارك الذكاء الاصطناعي (AI) في عدد من جوانب صناعة الفيلم (22)، كإنشاء المؤثرات الخاصة وتطوير الشخصيات، لتحلل خوارزميات الذكاء الاصطناعي سيناريو الفيلم مقترحةً تحسينات وتغييرات وتوليد أفكار لمشاهد جديدة وتقلبات في الحبكة، وتساعد في تحليل أداء الممثلين من حركاتهم إلى تعبيرات وجوههم.
وفي التصوير طوَّر جيمس كاميرون وفينس بيس نظام كاميرا رقمية متحركة ثلاثية الأبعاد خصوصا لسد الفجوات بين المَشاهد، وتكوين اتصال لا يمكن تعقبه بشكل فني بين مشاهد الحركة الحية والمشاهد التي أُنشئت بواسطة الحاسوب (23).
في النهاية، خرج لنا "أفاتار 2" فيلما ينطق بحرفية مخرج استطاع التلاعب بالمؤثرات البصرية والتحايل على التقنية لتجسيد قصة حب تكتنفها الزرقة في عالم شاسع، تتساوى فيه احتمالات الحياة بالموت، وتتكسر فيه السفن وتهوي في الهاوية، لينجو ولو حلم واحد، مُثبتا لنا أن المياه ليست ملونة دائما بلون الغرق.
—————————————————————————————
المصادر:
- JAMES CAMERON: “ALL MY MOVIES ARE LOVE STORIES”
- James Cameron’s First Love Was Drawing. We Spoke to Him About How He Takes Ideas From the Sketchpad to the Screen
- ‘Avatar’ director James Cameron’s inspirations laid bare in art book
- James Cameron recounts 50 years of cinematic art in lavish ‘Tech Noir’ book (exclusive)
- Why ‘Avatar’ director James Cameron prefers deep-sea exploration to Hollywood glitz
- Avatar’s James Cameron on art, AI and outrage
- مخرج "تايتانك" يصل إلى أعمق بقعة على وجه الأرض
- Why So Many James Cameron Movies Include Love Stories Explained
- Cameron had dived to the real-life wreckage of the Titanic in the North Atlantic Ocean 33 times since filming the movie, he revealed in a 2017 National Geographic special, "Titanic: 20 Years Later."
- James Cameron’s Deep Sea Passions Are To Blame For Avatar 2’s Delay
- James Cameron’s ‘Avatar’ Is An Innovation Of Cinematic Visuals
- Exploring The Technology Behind The Mind-Blowing Visuals Of ‘Avatar: The Way Of Water’
- The truth about James Cameron: what is the film director’s billion-dollar secret?
- ‘Avatar: The Way of Water‘ Surpasses ’Spider-Man: No Way Home’ as Sixth-Biggest Film of All Time With $1.92 Billion
- ‘Avatar’ Sequel Will Break $2 Billion In Next Few Days, Cameron Says—Gaining On Other Highest Grossing Films Of All Time
- Avatar: The Way of Water is James Cameron’s Biggest Opening Weekend Box Office Ever
- James Cameron has now directed three of the top 10 highest-grossing films of all time
- ‘Avatar’ sequel accused of ‘romanticizing’ and ‘glorifying’ colonialism
- ‘Avatar’ Is Obsessed With Showing Violent Colonization
- "ترخيص بيئي" لسد بيلو مونتي في البرازيل
- From VR to AI, here are all the latest technologies used in Avatar 2
- Artificial Intelligence Behind Avatar: The Way of Water
- From VR to AI, here are all the latest technologies used in Avatar 2