من "Moon Knight" إلى "Ms. Marvel".. كيف صورت ديزني عوالم العرب والمسلمين؟
يعطي المخرج المصري محمد دياب لمسلسله "فارس القمر" (Moon Knight)، من إنتاج شركة ديزني الأميركية، البداية الملائمة. يجلس آرثر آرو، شرير حكايته، وتُركِّز الكاميرا على يديه وحولهما سوار كالقيد، بينما يصب الماء في كأس زجاجي ويرتشفه بظمأ، ويهوي بعدها على الكوب بمطرقة تُهشِّمه إلى شظايا بلورية يسكبها في نعليه قبل أن يرتديهما، كل هذا على وقع أغنية بوب ديلن "كل حبة رمل" (Every Grain of Sand) التي تسترسل في الحديث عن رجل متطرف الإيمان، يبدو خاضعا متلذذا بعذاباته، معتقدا أنه يسير في الطريق لنيل رضا الإله مهما كلف الثمن.
رجل بلا حب
"أذكر أننا اعتدنا على السير معا
تبادلنا حبا خِلت أنه سيدوم للأبد
ثم أخبرتني قبلاتها أن شيئا ما قد تغير
يداها ما عادت تعانق يدي
أبكي من أعماقي في بداية كل يوم
مُسلِّما بأن رجلا بلا حب هو رجل وحيد".
(مقطع من أغنية "رجل بلا حب")
يُفلح دياب جزئيا في محاولته تقديم شخصياته من خلال أغنية، في المشهد التالي تصدح أنغام أغنية "رجل بلا حب" لـ"إنجلبرت همبردينك"، لتقارن بين رجل بلا حب تصفه بأنه نصف رجل، وآخر غارق فيه حد الثمالة، فنرى البطل "ستيفن غرانتر" (أوسكار إيزاك) بقدم مربوطة بالسرير عن طريق حبل قصير. تستمر الموسيقى في التدفق خلفيةً لروتين ستيفن، العامل في متجر للهدايا داخل أحد المتاحف، والمتعمق في التاريخ المصري القديم.
يتسرب الزمن بين يدي ستيفن على غير عهده به ليفوق ذلك استيعابه. تسأله زميلته في العمل عن المكان الذي سيقصدانه في موعدهما الغرامي في الغد، تغالبه الدهشة لأنه لا يتذكر أنه صرَّح لها برغبته في الخروج معها من الأساس. هنا يفكر ستيفن مليا في اللحظة التي سوف يتغلب فيها على رعبه مما يمكن أن يقترفه إن لم يقيد نفسه خلال النوم، وكأن قيود الكاحل تُمكِّنه من كبح شيء ما مكبوت بداخله، أو شخصية تحاول الخروج لكنه يقاومها دون وعي.
ستيفن ومارك
يرتج عالمه رأسا على عقب، تتسارع الأحداث وتتوتر، يُوصل دياب ذلك بحركة الكاميرا المحمولة في المطاردات المبكرة. ينظر ستيفن بذعر إلى المرآة فيجد نسخة منفصمة منه تُدعى مارك توجِّه حديثها إليه، وهي في حقيقتها قاتل مأجور والصورة الرمزية لـ"خونسو" إله القمر في الديانة المصرية القديمة.
لا تختلف الصدمة التي زعزعت ثبات ستيفن عما حدث مع شخصية "ناثانيال" من قصة "رجل الرمال" (The Sandman)، التي حرَّف خلالها الكاتب إرنست هوفمان خرافة شعبية لتتوافق مع ثيمة الرعب الخاصة به. في الحكاية الشعبية ينثر رجل الرمال غبارا سحريا على أعين الصغار حتى يغرقوا في النوم. يجعل هوفمان صدمة الطفولة لدى "ناثانيال" هي المتحكم في منظوره، وهي الحال ذاتها تقريبا مع شخصية ستيفن، التي ترسَّب فيها الفقد مع عقدة الذنب ونبذ أمه المتكرر له. مشاعر ظلت تتنامى لديه وينكرها حتى انفصمت شخصيته إلى نصفين يتستر أحدهما على الآخر الذي هو سفاح بارد القلب.
في هذا السياق، تُستخدم الأساطير المصرية مسرحا للأحداث. لا يدخر دياب، وهو أول مخرج مصري يُخرِج عملا لمارفل، جهدا في محاولة تمثيل القاهرة بضجيجها وزحامها وأهراماتها وإن صوَّر العمل في المجر، وفي انتقاء موسيقى البوب الشعبية كأغنية الملوك لأحمد سعد وعِنبة ودبل زُوكش. لكن الحقيقة أن العمل في مجمله لم يُفلح في عكس هوية مصرية؛ فالشخصيات جميعها، وعلى رأسها ستيفن، تبدو مغتربة عنها.
لا يبدو بناء العمل مُحكَما ربما لأن الحبكة لم تأخذ اتجاها واضحا، ولأن التركيز كان موزَّعا على عدة اتجاهات، لكنه يبقى عملا جيدا وله مزاياه كما له من شوائب. يقف على مقربة منه مسلسل "مس مارفل" (Ms. Marvel) بحضور عادل العربي وبلال فلاح، المخرجين اللذين أخرجا الحلقتين الأولى والسادسة منه، وهو عمل لا يقل عن مشروع دياب طموحا وإن بدا موجَّها أكثر نحو المراهقين.
مس مارفل
نقيضا لـ"فارس القمر"، فرضت الهوية الباكستانية حضورها الكاسح في مسلسل "مس مارفل". يبدأ السرد من كامالا (إيمان فيلاني)، حيث نرى انجرافها الكامل في عالم الأبطال الخارقين في مارفل وإعجابها المعلن بمس مارفل، قبل أن يقطع صوت والدتها اندماجها في الوسط الذي تُداخله الألوان المبهجة والقصص المصورة في إيقاع متسارع.
رجوعا إلى الوراء قليلا نحو تسع سنوات، تعلن مارفل إعادة النظر إلى شخصية كابتن مارفل كارول دانفرز في القصص المصورة، تُحيلها من امرأة شقراء بعينين بلون الياقوت الأزرق إلى مراهقة مسلمة باكستانية أميركية تدعى كامالا خان، ذات خصلات شعر فحمية وبشرة حنطية.
وفي محيط استأثر فيه البيض والذكور تقليديا، نُظر إلى ذلك القرار بوصفه سابقة محفوفة بالمخاطر، بالأخذ في عين الاعتبار أن المحاولات الأخرى لتنويع الشخصيات، مثل سبايدرمان ثنائي العِرق، سبق وقوبلت برد فعل رافض في بعض الأوساط. لكن سلسلة "مس مارفل" بلغت أرقاما قياسية وارتقت إلى قمة قائمة أفضل الكتب مبيعا في نيويورك تايمز للقصص المصورة، مستقطبة جمهورا من جميع الخلفيات الدينية (1)(2).
حدا ذلك بمارفل إلى أخذ قفزة إلى الأمام بتحويلها إلى مسلسل، خاصة بعدما نالها من إرهاق في 2019، إذ انطفأ الحماس عند معجبيها وسادت حالة من الفتور والاعتيادية (3). من هنا يمكن النظر إلى اختلاف "مس مارفل" على أنه مهمة لا بد منها، لذا فإن تفاصيلها قد دُرست بعناية لكبح الشخصيات من التحول إلى قوالب نمطية واستشراقية.
في المسلسل، تقطن كامالا في جيرسي سيتي مع عائلتها المتماسكة؛ والديها منيبة (زنوبيا شروف) وعبد الله (موهان كابور) وشقيقها عامر (ساجار شيخ) المنحدرين من أصول باكستانية. وبدلا من الوقوع في فخ التنميط التقليدي للمسلمين، أبرزت الحلقات التأثير الإيجابي للأب والأخ على حياة كامالا، بل إنها أظهرت أن أباها كان أقرب إلى المرشد لها في أحيان كثيرة، باستحضاره مثلا آية من القرآن الكريم وهو يخبر ابنته عن مدى فخره بها.
يؤسس المسلسل لعرض جوانب من تاريخ كامالا وبلادها الأصلية بجعلها تنتشل سوارا يعود لجدتها ملقى بإهمال بين الأشياء القديمة، وبارتدائه تكتسب الفتاة قوى خارقة وتتصاعد الأحداث تدريجيا. أحد تفسيرات قواها الخارقة هو أن نلاحظها بوصفها رمزا للتغييرات التي يمر بها المراهق خلال فترة البلوغ (4)(5)(6). وكما يليق بدراما النضج، يُعنى المسلسل بتعاملها مع أزماتها في المدرسة كالمتنمرين وأصدقائها مثل برونو (مات لينتز)، وشغفها بأحلامها ومحنها، والعقبات التي عليها تجاوزها من أجل اكتشاف ذاتها. كما يُبرز النزاعات المعتادة بين أب وأم حازمين وفتاة مثل كامالا تضيق بتلك السلطة فتسعى إلى تحديها.
أعجوبة
ولكن على خلاف الثيمة التقليدية لمسلسلات الأبطال الخارقين، يخلو "مس مارفل" من خصم محدد لكامالا. بالكاد ظهر الأشرار على مدار الحلقات الستة وكانوا بلا دوافع حقيقية أو مساحة للنمو، حتى اصطفاف قوات من الشرطة ضد كامالا يبدو غير مبرر، لماذا هم عازمون على أسر كامالا؟ ينطبق الأمر على الشخصيات المساعدة الأخرى مثل برونو وصديقتها ناكيا، الذين رغم أهميتهم لم يحظوا بالاهتمام الكافي.
وخلافا لمسلسل دياب تحتل السياسة موقعا محوريا في "مس مارفل". يتناول المسلسل تقسيم الهند عام 1947 وانفصال الهند وباكستان وما ترتب عليه من عواقب (7)، إذ وجدت ملايين العائلات التي نزحت خلال التقسيم الدموي نفسها تترنح تحت تأثير تغيير لم تكن قد تأهبت سابقا لقبوله. ولم يتبقَّ لهم خيار سوى الهجرة أو العيش دون مأمن على حياتهم على جانب من الحدود في ظل ظروف قهرية من العنف الشديد والصراع وانقسام العائلات.
بسفر كامالا إلى باكستان، والتوغل في ذلك التاريخ الذي يخصها أيضا لاشتباكه مع قصة جدتها الأكبر، تنحرف الحكاية عن مسارها المألوف قليلا، بشكل قد يقطع اندماج المشاهد. يبدو قرار السفر والتقاؤها بأقاربها في كراتشي شبيها بمسلسل "رامي"، وهو عمل كوميدي درامي أميركي يسرد فيه رامي يوسف جوانب من حياته باعتباره مسلما مصريا يعيش في أميركا، ومن المرتقب صدور الجزء الثالث منه نهاية سبتمبر/أيلول الحالي.
إلى رامي
يخوض كلٌّ من رامي وكامالا الصراع ذاته وإن اختلفت حِدَّته ومحاوره باعتبارهما يقفان متباعدين في جيل الألفية وما بعدها، كلاهما يعيشان ممزقين بين محيط عائلي تحكمه المُثل والقيم التي ترعرعوا فيها والتقاليد وثقافة البلد الأصلي وبين المحيط الخارجي. يضل رامي طريقه مهما حاول أن يغالب ذلك، يعود إلى مصر محملا بآمال إعادة الاتصال بجذوره مثل كامالا، ويستمر كلاهما في التردد على المسجد.
ولأن المسجد قبلة المسلمين نجده يحتل موقعا في قلب السرد، يُقبل إليه رامي في أولى لقطات الجزء الأول من مسلسله وفي الجزء الثاني، وتتردد عليه كامالا في عطلات نهاية الأسبوع وأثناء الاحتفال بالأعياد الإسلامية، في لمحة تمنح المسلمين تمثيلا منصفا بعد أن حُصروا طويلا في أدوار متطرفة وبغيضة.
لا يقترب مسلسل "رامي" من "مس مارفل" فحسب، بل يجمعه بمسلسل دياب أيضا أغنيات عبد الحليم التي ترافق البطلين في سياق الأحداث، تصاحب ستيفن للحظات أحد أغانيه، وتنفرد أغنية أخرى برامي حين يداخله شعور عميق بالذنب، وفي لحظة صمت، يُعقد وصال خفي بين ثلاث شخصيات متخبطة هي ستيفن ورامي وكامالا في ثلاثة عوالم منفصلة.
ويبقى ما أصَّل هوية "مس مارفل" هو تصريح والدها لها في النهاية عن سبب تسميتها بـ"كامالا" أنها تعني في اللغة الأردية "أعجوبة". هكذا لا تصل كامالا إلى عنوان المسلسل ولقبها بفضل حبها للكابتن مارفل كما اعتقدت هي، فمصدر قوتها كان كامنا في جذورها طيلة الوقت.
—————————————————————————–
المصادر:
- The “Worlding” of the Muslim Superheroine: An Analysis of Ms. Marvel’s Kamala Khan
- المصدر السابق.
- Ms. Marvel Is The Rare Marvel Show That Justified Not Being A Movie
- Ms. Marvel Season 1: Biggest Criticisms & Triumphs (Review)
- "Reasons Makes Muslim Superhero Ms. Marvel Kamala Khan Awesome Just Like Everyone"
- ‘Ms. Marvel’ Brings Much Needed Positivity To Muslims On Screen
- As a Coming-of-Age Tale, ‘Ms. Marvel’ Kicks Ass. As a Superhero Origin Story, Maybe Not