شعار قسم ميدان

حظي المسلمون بنصيب فيها.. هل شهدنا أوسكار 2022 بمعايير جديدة؟

خلافا لما ساد على امتداد الأعوام، لم يُعر الجميع اهتماما كبيرا للأفلام التي حصلت على جوائز الأوسكار في حفله الـ 94 الذي أُقيم مارس/آذار 2022، بل سُلِّط الضوء على واقعة صغيرة حدثت على البساط الأحمر. فبينما توجَّهت الأنظار إلى مُقدِّم الحفل الممثل الكوميدي كريس روك وهو يُلقي دعابة عن جادا سميث، زوجة الممثل الأميركي ويل سميث، ضجَّت القاعة بالضحك، بمَن فيهم سميث نفسه، بيد أن ابتسامته تلاشت بعد أن رمقته زوجته المعنية بنظرة حادة ذات مغزى، وهكذا اعتلى سميث المسرح وأنزل صفعة مدوية على المُقدِّم. وفي خضم محاولات المذيع لتدارك الموقف، صرخ به ويل سميث أن لا يتجرَّأ ويذكر زوجته من جديد.

بعد أيام معدودة، فتحت الأكاديمية تحقيقا في الواقعة، تواترت الأحداث وتقدَّم ويل سميث باستقالته منها، لتقبلها المؤسسة على الفور. لكن ما لا يدركه الجميع في خضم كل ذلك الجدل الشديد حول "ترند" الصفعة هو أن جوائز الأوسكار نفسها كانت مختلفة هذا العام بشكل كبير.

ثرثرة على مأدبة عشاء فاخر

في عشرينيات العقد المنصرم، وبينما كانت السينما تسير بخطى حثيثة لتتجاوز عصر الصمت في أفلامها إلى الكلام، تشكَّلت أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أقامت المنظمة مأدبة عشاء في فندق هوليوود روزفلت، لم يزد الحضور فيها على 270 فردا، ولم تتعدَّ تذكرة الدخول آنذاك خمسة دولارات (1).

في تلك الليلة، تقرَّر تقديم جائزة سنوية مهيبة تجذب الانتباه إلي الأكاديمية، وتكون الأشهر في مجال السينما، على أن تكون مستحقة، وينالها أفضل فيلم ومخرج وممثل، بوصفها أحد أشكال دعم التميز في نواحي الإنتاج السينمائي وتكريم كل إنجاز في تلك الصناعة. بيد أن الأعوام التالية تكفَّلت بعدول الجائزة عن حيادها ووسمها بالانحياز والفساد وتجاهل الأقليات، واستدعت الذاكرة عدة وقائع تدعم تلك النظرة، مثل فوز هاتي ماكدانيال، أول ممثلة سوداء، بجائزة الأوسكار عام 1939، وتخصيص طاولة منفصلة لها في جزء خلفي مستتر من الحفل آنذاك.

هاتي ماكدانيال، أول ممثلة سوداء، بجائزة الأوسكار عام 1939.

لدحض تلك الاتهامات وضعت إدارة الجائزة قبل عامين من الآن معايير فنية جديدة حول المتطلبات الواجب توفرها لتأهل العمل لجائزة أفضل فيلم (2)(3)، من بينها التنوع والتمثيل العادل للنساء والأقليات أمام الشاشة وخلفها، فهل دخلت تلك الشروط حيز التنفيذ؟

ترشيحات وفائزون

هذا العام، كان التنافس محتدما بين الأفلام التالية: "قوة الكلب" (The Power of the Dog) لجين كامبيون، و"قصة الحي الغربي" (West Side Story) لسبيلبرغ، و"بيتزا العرقسوس" (Licorice Pizza) لتوماس أندرسون، و"الملك ريتشارد" (King Richard)، و"زقاق الكوابيس" (Nightmare Alley)، و"بلفاست" (Belfast)، و"كودا" (Coda)، و"لا تنظروا إلى السماء" (Don’t Look Up)، والفيلم الياباني المستمد من قصة هاروكي موراكامي الذي نال جائزة أفضل فيلم أجنبي "قودي سيارتي" (Drive My Car)، و"كثيب" (Dune) في الفئات الكبيرة (4).

اكتسح فيلم "كثيب" (Dune) ليلة الأحلام، ليحقق الفوز في ست فئات بما في ذلك التصوير السينمائي وتصميم الإنتاج والموسيقى الخلابة التي استحق الموسيقار الألماني هانز زيمر الأوسكار عليها، لكن اسم مخرج العمل ديفيد فيلنوف ظل مفقودا في قائمة أفضل المخرجين، وهو ما شكَّل مفاجأة للجميع.

لعل فيلنوف لم يُرشَّح لأن القائمة كانت مكتظة بحق بأسماء تحمل ثقلا لمخرجين مثل ستيفن سبيلبرغ، وبول توماس أندرسون، وكينيث براناه، وريوسوكي هاماجوتشي، وربما جين كامبيون، وقد فازت الأخيرة بجائزة أفضل مخرج على عملها سابق الذكر "قوة الكلب" (The Power of the Dog)، لتدخل التاريخ بوصفها أول امرأة تترشح لجائزة أفضل مخرج مرتين (5).

بيد أن المفاجأة الحقيقية هي فوز "كودا" (Coda)، وهو العمل ذو الميزانية المحددة الذي اشترت شركة أبل حقوق البث الخاصة به، ليكون اختياره مثار دهشة جماهيرية، إلى جانب فيلمين آخرين على وجه الخصوص، لذا ارتأينا أن يكون تركيزنا على ثلاثتهم، بإلقاء نظرة من كثب لنرى إن كانت الجائزة في إطار تحوُّلها لتصبح أكثر شمولية حقا في إجازة الفرص لمختلف الفئات والعِرقيات.

كودا

تختصر "كودا" (Coda) لفظ "Child of deaf adults"، ما يعني أن تكون ابنا لأحد البالغين المصابين بالصم أو لكليهما (6). يُقلِّص العنوان الفكرة العامة للفيلم الذي فازت كاتبته ومخرجته سيان هيدر بأفضل سيناريو مقتبس، وحصد تروي كوتسور الذي قام بدور الأب على جائزة أفضل ممثل مساعد، مما جعله أول رجل أصم يفوز بجائزة أوسكار عن التمثيل (7). في حين أن أول ممثلة صماء ترشَّحت ونالت الجائزة كانت هي مارلي ماتلين عام 1986 عن فيلم "أبناء الصمت" (Children of a Lesser God) عن فتاة تُكرِّس حياتها للترجمة بلغة الإشارة لأسرتها، لتواجه صراعا بين الاستمرارية في ذلك والانكباب على مستقبلها (8).

لم تنتمِ هيدر إلى مجتمع الصم الذي أفردت له بطولة فيلمها الروائي الثاني (9) (10)، بيد أنها حاولت الإلمام بثقافة طائفة لم يتم تمثيلها بعد بالكشف عن هويات شخصياتها، والإتيان بطاقم عمل معظمهم من صميمها كالممثلين الرئيسيين من الأب والأم والابن، تلك النقطة بالتحديد هي ما ميَّزت الفيلم ومدته ببُعد مختلف. ومثل الأفلام التي تُعنى بالتحديات التي تواجه الشخصيات في مرحلة البلوغ، يسير "كودا" على المنوال المألوف.

تجعل هيدر بطلتها روبي فتاة مراهقة في المدرسة الثانوية، وهي أقرب إلى كونها المترجمة الفورية لأسرتها في معاملاتهم اليومية بصفتها العضو الوحيد الذي يسمع. يمزقها أن تنتمي إلى هويتين مختلفتين، كزورق الصيد الذي يتخبَّط قليلا في أولى لقطات الفيلم، قبل أن نسمع صوتا غنائيا مرتفعا نسبيا يصدر من روبي، ثم ينجلي لنا بقية أفراد عائلتها وسط روتينهم اليومي في صيد الأسماك وبيعها عند بزوغ الفجر.

في محاولات المخرجة إكساب خفة لفيلمها، تطغى روح الدعابة الثقيلة أحيانا بكثافة على اللحظات الدرامية فتُسفِّه منها، مما يبني سدا منيعا نعجز من خلاله عن النظر إلى أعماق الشخصيات وسبر أغوارها. لعل ما تُمرِّره لنا هيدر هو محدودية الحاجة إلى لغة شفهية وصوت في ظل حب لا محدود، وثقل المسار والتحديات التي يتعين على روبي مجابهتها.

لا شك إذن أن للعمل مساوئه ومحاسنه، حيث رأى فيه الصم ما يُعبِّر عنهم ولو جزئيا، بينما أُخذت عليه عدة مآخذ (11)، إذ عدَّه جزء منهم قد أسقط المشكلات الحقيقية التي يواجهونها، كعدم القدرة على الاتصال بوالديهم في حال حدوث أزمة، أو الترجمة في اللحظات المشحونة عاطفيا بالنسبة لهم، وأن هيدر قد نقلت نظرة تُفيد بأن الشخص الأصم عبء، في حين أن كثيرا منهم يتمتع باستقلالية وكفاءة عالية، ناهيك بإغفالها سبل التواصل المختلفة مثل تطبيقات الهاتف المحمول، أو قراءة الشفاه، أو مجرد الكتابة بقلم على ورق.

الملك ريتشارد.. فوز مستحق أم مكتسب؟

بالتماس مع هيدر، يُطعِّم المخرج رينالدو ماركوس جرين والكاتب زاك بايلين فيلمهما "الملك ريتشارد" (King Richard) بفكاهة أقرب إلى كونها آلية دفاعية يستتر بها البطل لحجب مخاوفه، لكنها لا تنكشف في دعابات بقدر ما تظهر في أداء ويل سميث الذي يُلقي بكلمات تشجيعية أغلبية الوقت تقريبا، حتى يُخيَّل إليك أنه يُمنِّي بها نفسه قبل الآخرين.

لعلنا عَهِدنا ويل سميث في دور الأب المتفاني والعنيد كما في فيلم السيرة الذاتية "السعي للسعادة" (The Pursuit of Happyness) المأخوذ عن قصة رجل الأعمال كريستوفر غاردنر الذي ترشَّح فيه للأوسكار، وإن لم ينلها سوى الآن على فيلمه الجديد "الملك ريتشارد"، فهل كان فوزا مستحقا؟ وعلى أي أساس؟

يتحتم على الشخصية هنا أن تصنع فيصلا بين أُبوتها وعملها كمدرب يُشرف على تدريبات بناته، إذ وضع ريتشارد خطة مؤلفة من 78 صفحة عن الحياة المهنية لابنتيه قبل أن يُنجبهما، لتنشأ ابنتاه في ظل إمكانيات معيشية متواضعة وأب مثابر وداعم يؤمن بشدة بهما رغم جميع المعوقات وكل ما يدعو لليأس، ويصحبهما إلى الأندية الريفية وأكاديميات النخبة مؤكِّدا لهما بعبارات لا لبس فيها أن لهما كل الحق في الوجود هناك، على الرغم من الشكوك المتعالية والعداء الصريح، ليتحقَّق له ما كان يرجوه في النهاية وتصبح ابنتاه فينوس وسيرينا من أفضل لاعبات التنس عالميا.

لم يُغيِّب الفيلم قصة صعود فينوس وسيرينا، وتحوُّل موازين القوى عند كل مباراة يتراجع فيها ريتشارد ويراقب من بعيد، مُكرِّسا نفسه لدور واحد هو الأب الداعم (12). كما لا يُسهب العمل في رواية الكثير عن ريتشارد ويليامز، إذ لم ينهل سوى شذرات من مذكراته الصادرة عام 2014 "بالأبيض والأسود: الطريقة التي أراها" (Black and White: The Way I See It)، لكنه استعان بتفاصيل جوهرية حددت ملامح شخصيته مثل قدومه من خلفية يحوم فيها الفقر والعنصرية، وهجر والده العاطفي له الذي ولَّد حاجة مخيفة لديه إلى أن يُلقِّن فتياته التواضع وأن يفعل لهن ما أنكره عليه والده. (13،14)

وبناء عليه، قد تكون الجائزة التي حصل عليه ويل سميث عن "الملك ريتشارد" غير مَستحقة بسبب الفيلم ذاته، غير أن اللجنة نظرت إلى مجمل أعمال الممثل وتاريخه وعدم فوزه بالجائزة مُسبقا، وبناء عليه قررت منحه الجائزة في نهاية المطاف.

وداع طويل

ما كان مفاجئا أيضا للكثيرين هو فوز الممثل ومغني الراب البريطاني ذي الأصل الباكستاني ريز أحمد بأول أوسكار له عن أفضل فيلم حركي قصير بعنوان "وداع طويل" (The Long Goodbye)، الذي شارك في كتابته وتمثيله بالتعاون مع المخرج آنيل كاريا (16). كان أحمد أول مسلم يُرشَّح لجائزة أفضل ممثل في الأوسكار العام الماضي عن دور عازف الطبول ضعيف السمع في فيلم قصير معنون بـ "صوت المعدن" (Sound of Metal)، وإن لم يحظَ بها في حينها (17).

انبثق الفيلم من هواجس شخصية حول تصاعد التمييز والتعصب حول العالم، وكانت مرجعيته دراسة بعنوان "غياب وتشهير" أنجزتها "مبادرة أنينبيرغ للدمج"، وخلصت إلى أن ما يقل عن 10% من الأفلام ذات الإيرادات العالية بين عامَيْ 2017-2019 في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا تضمَّنت شخصيات مسلمة أُسند إليها جزء من الحوار، فجاء ظهورها هامشيا أو مُذلا أو يُشكِّل تهديدا محدقا أو محتملا، بل إنه في نحو ثلث تلك الشخصيات، اقترن ظهورها بالعنف أو كان هدفا لها (18).

يأبى أحمد استمرار تقديم هذه الصورة للمسلمين، ويُردِّد على مختلف المنصات الإعلامية: "التقدُّم الذي حقَّقه عدد قليل منا لا يعطي صورة عن إحراز تقدُّم عام، إذ بقي تصوير المسلمين على الشاشة إما معدوما وإما محكوما بالتصورات السامة عن شخصيات نمطية ثنائية الأبعاد.. وفي مثل هذه الأوقات المنقسمة، نعتقد أن دور القصة هو تذكيرنا بعدم وجود "نحن" و"هم"، هناك فقط "نحن". (19).

يمس أحمد في فيلمه الذي يقترب من 12 دقيقة ظاهرة الإسلاموفوبيا في المملكة المتحدة (20)، ويدس فيه موسيقى من ألبومه الذي حمل الفيلم اسمه، ليُجسِّد شخصية هي قلب الأسرة المزدحمة. نلتقي به وهو يرقص مع أخيه الأصغر، وينتقد شقيقا آخر له قبل أن يخوض جدالا مع والده، ثم يصعد إلى الطابق العلوي في دارهم، حيث تتزين مجموعة من الفتيات استعدادا لحضور حفل الزفاف الذي يستعد الجميع له.

هي أسرة منحدرة من جنوب آسيا، تعيش في إحدى ضواحي بريطانيا، ويعلو بين جدران منزلها صوت تقارير إخبارية عن ميليشيات مسلحة من البيض، فنرى تلك الجماعة تطرق أبواب منزلهم بعنف قبل أن يخترقوه ويُروِّعوا الأسرة، ثم يجذبونهم إلى الشارع ويتهجمون عليهم، ليجد أحمد نفسه في النهاية وحيدا مُكبَّلا في الخلاء، فيشرع في غناء خافت غاضب، يُسائِل فيه يطرح الأسئلة التي تعرَّضت للهجران، ليكون صوته أشبه بثورة على كل المخاوف والانتهاكات التي لم يُنصفها العالم.

___________________________________________

المصادر:

  1. First Academy Awards ceremony
  2. 94TH OSCARS RULES
  3. Oscars: Best Picture Contenders Must Meet Inclusion Requirements by 2024
  4. Oscars 2022: All the winners and nominees – BBC News
  5. 2022 Oscar Winners List: ‘CODA’, ‘Dune’ and Will Smith – The New York Times
  6.  CODA
  7. The Music Inside: Siân Heder on Her Oscar-Winning CODA
  8. Marlee Matlin says she hopes fellow deaf ‘CODA’ actor winning an Oscar ‘opens the floodgates
  9. https://abcnews.go.com/GMA/Culture/marlee-matlin-hopes-fellow-deaf-coda-actor-winning/story?id=83718341
  10. Sian Heder, director of ‘CODA,’ on the responsibility she felt to the Deaf community
  11. ‘CODA’: How a film about a deaf family made it to the Oscars and won
  12. Representation or Stereotype? Deaf Viewers Are Torn Over ‘CODA’
  13. ‘King Richard’ Review: Father Holds Court
  14. King Richard
  15. Will Smith delivers a ferocious, all-consuming star turn in ‘King Richard’
  16. Riz Ahmed wins Oscar for The Long Goodbye
  17. Oscars 2022: Riz Ahmed wins first Academy Award for short film The Long Goodbye
  18. ريز أحمد: حان الوقت لكسر "تنميط المسلمين السام" على الشاشة
  19. Riz Ahmed It’s clear to me that this feels grounded in reality
  20. Riz Ahmed just won an Oscar for ‘Long Goodbye’: here’s everything you need to know about it.
المصدر : الجزيرة