شعار قسم ميدان

بورتريه لشعب لا يُهزم.. أفلام عبرت عن هموم الفلسطينيين وكفاحهم

"الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحس لحظة أنه هزمنا، وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرا بعد أن نتحرر"

(إبراهيم نصر الله، أعراس آمنة)

أمام حطام الحرب ونزيف البشر والحجر، يرتطم الفلسطينيون بواقع مرير، يجابهونه بابتسامة تجاهد كي لا تنطفئ، رغم أن الأصوات قد مزقتها الدموع ورأت العيون أهوالا لا تُوصف، وبدلا من أن تقطر السماء ندى أَمطرت وابلا من الرصاص، دام هذا لأحد عشر يوما بلياليهن المؤرقة، ولم يكد الأذى يبدأ حتى ردت المقاومة الفلسطينية بدورها على عدوان الاحتلال الإسرائيلي. وعلى مسافة ليست بعيدة من ذلك، استمر أهالي الشيخ جراح وسلوان وأحياء أخرى في التصدي لمحاولات تهجيرهم من بيوتهم، رغم كل ما يحدق بهم من خطر.

ولئلا تبسط الضلالات ظلالها على الحقيقة، لا بد من تجميد الوقائع وتذويبها في قوالب سينمائية تحفظها، ومن خلال إمعان النظر في القضية الفلسطينية من خلال بعض أهم أفلامها، ستنكشف أمامنا بعض الزوايا الفريدة التي شغلت اهتمام المخرجين، بحيث تخرج القضية للجمهور في صورة حية، تعبر عن حكاية كل فلسطيني بخصوصيتها وجماليتها، وكيف يتجلى كل ذلك وهو محاط بجنود مدججين بالسلاح، ونقاط تفتيش وقمع وحصار لا يتوقفان.

يستعير المخرج الإيراني "سيف الله دادا" رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" لتكون مدخلا إلى فيلمه "المتبقي"، ضاربا بنية العمل الروائي، معيدا توجيه مسارات الأبطال وتحريف هوية بعضهم، ليجدوا أنفسهم مدفوعين تجاه أقدارهم. بطلتنا هي "صفية"، أما العام فهو 1948.

يبدأ الفيلم مع صور لأشخاص مجتمعين أو منفردين. تزول الصور تباعا كأنها مقدمات لموت محتمل يحيق بهؤلاء الشخوص بالترتيب نفسه، ضمن حبكة أساسها زوجان متحابان من حيفا. طبيب يدعى "سعيد" وزوجته "لطيفة" وطفلهما "فرحات". تكتب لطيفة لعمتها "صفية"، والدة زوجها، رسالة تروي فيها حوادث متعاقبة تنذر بخطر وشيك يهددهم إن لم يرحلوا عن حيفا. فالمدينة لم تعد آمنة، شأن غالبية المدن. أما "سعيد"، فيستعيد كلمات والده التي كان يرددها: إن هجرة اليهود إلى فلسطين تمهيد لاحتلالها كلها.

على الجانب الآخر، تظهر "صفية" بوصفها امرأة صلبة تتمسك بما لديها في معاركها التي لا تنتهي مع الخسارة. هي لم تفقد -فحسب- ابنتها التي توفيت وهي تضع وليدها، وإنما ابنها الآخر وعائلته الذين قتلوا في مجزرة دير ياسين. هكذا لم يبق لها سوى "سعيد"، لذا لم تتردد في الوجود على متن باخرة متجهة إلى حيفا، لحث ابنها الأخير على مغادرة المدينة.

يعرض سعد الله دادا أحداث اليوم التي عزمت فيه صفية بعد وصولها على الرحيل من حيفا مع سعيد وعائلته كحدث مفصلي. جيش الاحتلال يقتحم المدينة مشهرا أسلحته، يعم الذعر، تُجلى المنازل قسرا ويُقضى على من يبقى فيها. يُجبر الناس على التجمع في الساحات ويُقتل كل من يحاول الهروب. تبدل الكاميرا زواياها، ربما للإيحاء بأن الخطر يحيط بالجميع من كل الاتجاهات، وتسقط الجموع من نساء ورجال وأطفال حتى لا يبقى سوى الجثث الهامدة. ساعتها، تنتقل الكاميرا من جديد إلى "لطيفة" وهي تحمم ابنها الصغير وتحتضنه في دفء أمومة معهود يتباين بحدة مع الواقع القاتم.

فيما بعد يُردى "سعيد" ومن بعده "لطيفة" وهما يحاولان الوصول إلى طفلهما، ليكون آخر مشهد لهما ستائر شرفة بيتهما البيضاء وصوت بكاء "فرحات". سرعان ما تأتي أفواج من اللاجئين اليهود، ويستوطن زوجان منهم المنزل، يأخذان "فرحات"، ويبدلان اسمه إلى "موشيه"، ويسعيان إلى إخراج فيلم بسردية صهيونية تزور الحقائق، في رمزية مباشرة إلى ما فعله الاحتلال بفلسطين. لكن "صفية" تنجو، وتكافح لاستعادة حفيدها بالحيلة فيما يتحدث زوجها قائلا: "بتعرفي إيش معنى أنه هاي القوة العسكرية توصل لهدفها؟ معناها أنه فيه مجزرة جديدة، وبدل فرحات واحد هيكون فيه ألف ولد زي حكايته".

في حوار بين المخرج الفلسطيني "إيليا سليمان" والصحفي "نيكولاس رابولد" نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 2019، يتذكر "سليمان" استعداداته لتصويره مشهد نهب منازل الفلسطينيين في الحي الذي يسكنه، وسؤاله إحدى ساكنات الحي أن يقوم بتصوير المشهد من شرفتها، لنرى الأثر الباقي لثقوب الرصاص على جدران منزلها. تحكي السيدة أنه في يوم عودتها إلى منزلها عام 1948 من بيروت حيث أمضت شهر عسلها وجلبت معها هدايا تذكارية، وجدت الهاغاناه (منظمة عسكرية إسرائيلية) تسطو على منزلها وتسلبها تلك الهدايا، حاول زوجها حينها التصدي لأحدهم، فأرهبوه بإطلاق النار. تذكّرَت ذلك كله قبل أن تطفر دموع من عينيها لا تملك حيلة لمنعها. (1)

في ثلاثية "سجل اختفاء"، و"يد إلهية" و"الزمن الباقي"، يبتدع سليمان توجها سينمائيا ساخرا بسوداوية لقص حكايته، حيث الكاميرا ثابتة والسيناريو متفرع. يشح في أفلامه الحديث ويُدفع التاريخ ليشغل الحيز الأكبر ويكون فيها الصمت مدويا. فبرأيه، قد يكون الصمت باعثا للخوف أو الاستفزاز، وقد يجلب شعورا بعدم الارتياح، كما قد يبعث في النفس صفاء روحانيا وشاعرية، وأحيانا يصبح في ذاته سلاح مقاومة أيضا. (2)

بعد عودته من منفاه في أميركا إلى "الناصرة"، أرضه المحتلة، صوّر فيلم "سجل اختفاء"، مسندا بطولته لنفسه، مع أصدقائه وأسرته.(3) جاء أسلوبه أقرب إلى السينما الوثائقية، بلا حبكة أو تطور طبيعي للأحداث. مشاهد عشوائية محبطة، احتلال خنق المدينة وأرواح ساكنيها، فهم أحرار ومحتلون في آن واحد.

أما فيلمه "يد إلهية"، فإنه يُفتتح ببابا نويل الذي يحمل هداياه، ويركض وفي أثره مجموعة من الصبية يتبعونه، قبل أن يتوقف عند ربوة عالية، وبعد ذلك نلمح سكينا مغروسا في صدره. يذهب النقاد إلى أن المشهد يعبر عن "الغدر بأجمل ما في [فلسطين] بقتل إرث البراءة في المدينة دون تعليق أهمية كبرى عن كشف هوية القاتل". (4)

يتحدث ذلك الفيلم عن قصة حب جمعت شابا وفتاة من مدينتين يفصلهما حاجز، في الفيلم مشاهد متعددة كلحظة صمت فرضتها فتاة جميلة عبرت الحاجز أمام جنود مندهشين. يحدث ذلك كله بوتيرة بطيئة وكوميديا سوداء. لاقى الفيلم استحسانا، ورُشّح لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2002.

يختتم المخرج ثلاثيته بـ"الزمن الباقي" ليتبع نهج الفيلمين السابقين بعرضه قصة تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وتهجيرهم على مدى ما يزيد عن الستين عاما، مع فارق أنه هنا يتحدث عن ذلك ابتداء من عام 1948 في اليوم الذي استسلمت فيه مسقط رأسه الناصرة -رسميا- لجيش الاحتلال الإسرائيلي. يمزج سليمان بمهارة بين الشخصي والسياسي، إذ استعان بمذكرات والديه بوصفها مصدر إلهام أثناء كتابة السيناريو،(5) كما عمد إلى جعل السرد المرئي محاكيا أسلوب العرض المسرحي.

في فيلم "ملح هذا البحر"، من إخراج الشاعرة المخرجة الفلسطينية "آن ماري جاسر"، تعود البطلة "ثريا" من أميركا إلى بلدها المحتلة بعد سنوات من الشتات للبحث عن أصولها، ثم تفاجأ بأنها مثل كثيرين لا تملك حق العودة. لا تستطيع البقاء حيث تنتمي بصفتها مواطنة، فقط تُحصر في كلمة واحدة: "سائحة". يصنف الفيلم على أنه روائي وثائقي، ويفتتح بلقطات تسجيلية تجرف فيها منازل الفلسطينيين. (6)

"كلما هاجر يهودي ما من بلد ما إلى إسرائيل، انتقل فلسطيني وربما عشرة إلى مهجر جديد. تسقط مهاجركم لتبدأ منافينا"

(ربعي المدهون، السيدة من تل أبيب)

يتبع هذا عرض بعض ممارسات الاحتلال وحواجزه وامتهانه للكرامة الإنسانية في الضفة الغربية، وتصوير حالة شعب تُنتزع منه الأحلام وتُضيّق عليه السبل. إنها سياسة التمييز الإسرائيلية المتبعة بحسب الهويات الدينية، وتظهر في الفيلم المعاني الدلالية التي تقدمها، أحداث مثل إنكار البنك البريطاني الفلسطيني لميراث "ثريا" من جدها الذي أودع قبل نكبة 1948. يتمحور الفيلم حول أجيال ترغب في العيش، وتوقن أنه ما من سبيل إلى ذلك إلا بعدم الخضوع والتنازل عن حقوقها.

لأجل ملامحها العربية ونسبها، تخضع ثريا -رغم جواز سفرها الأميركي- إلى تفتيشات واستجوابات مطولة، وتُوجَّه إليها الأسئلة مرارا وتكرارا. بهذا تتصدع خيالاتها الحالمة التي حملتها طوال حياتها عن الوطن. أينما سارت ستواجهها العراقيل، في مصرف رام الله ستعاني لاسترداد أموال جدها، فبموجب اتفاقية مع إسرائيل فإن المال المودع في المصارف قبل النكبة لا يمكن استرداده. بعد ذلك تقرر ثريا السطو على المصرف بمعاونة "عماد"، الشاب الفلسطيني الذي تعرفت إليه حديثا، ويعمل نادلا في مطعم، ومعهما "مروان" صديق عماد.

عماد الذي يظل يردد أن الحياة في هذه البلاد ما هي إلا سجن كبير، لا يقيد الإسرائيليون واقعه فحسب، وإنما حلمه أيضا في السفر إلى كندا واستكمال دراسته. في النهاية، يفر الأصدقاء إلى يافا متخفين بزي يهودي، وما إن تطأ أقدامهم الجانب الذي يعيش فيه الإسرائيليون حتى تتبدل الإضاءة من الألوان الباهتة إلى الحية، الأزرق بتدرجاته، ورحابة الفضاء والحرية والبحر، على نقيض من الجانب الفلسطيني الذي لا يخلو من نقاط تفتيش وجدار وحواجز.

يمكن إيجاز الجانب الوثائقي في الفيلم في تقديم رام الله والقدس ويافا بأنماطها التاريخية. يافا (جزء من تل أبيب الآن) بصراعها بين محتل راغب في طمس الماضي، وفلسطيني يبحث عن هويته المفقودة وأرضه المسلوبة. ظهر هذا أثناء ذهاب ثريا لبيت عائلتها الذي بات ملكا لشابة إسرائيلية، والغضب الذي اجتاحها فجأة لشعورها أنها ضيفة في بيت أجدادها. تطالب ثريا الشابة الإسرائيلية بالاعتراف بأنه بيتها هي، قبل أن تطردها. في شجارهما استخدمت ثريا المفردة الإنجليزية "Home" التي تعني وطن، للإشارة إلى منزل جدها، بينما استعانت الشابة الإسرائيلية بلفظة "House" التي تعني منزلا أو بيتا. (7)

تُحبط محاولات ثريا في البقاء في الوطن مرة بعد مرة، يُرفض طلبها للحصول على سفر فلسطيني، وتسقط تأِشيرتها السياحية. وفي النهاية تعود إلى نقطة البداية، إلى المطار وأسئلة الضباط، لكنها هذه المرة تصر بتحد أنها فلسطينية، وخلافا لما تذكره الوثائق فقد عاشت حياتها كلها هنا.

في السياق نفسه، فإن البطلة في "فيلم إن شاء الله (Inch’Allah)" قادمة من الخارج، لكنها -خلافا للنماذج السابقة- أجنبية. قدمت المخرجة الكندية "أناييس باردو لافاليت" قصتها من وجهة نظر طبيبة كندية تدعى "كلوي"، تعمل في إحدى العيادات النسائية الموجودة بمخيم للاجئين بالضفة الغربية التابعة لجمعية الهلال الأحمر.

يدور السرد هنا في بناء دائري، ففي اللقطة الأولى من الفيلم نرى امرأة لا تظهر ملامحها، لكن يميزها شعرها الداكن، ترتاد مقهى إسرائيليا، ثم تسأل النادل فنجانا من القهوة، ويدوي انفجار، لتبدأ قصة "كلوي" التي تصادق امرأتين، الأولى يهودية مجندة في الجيش الإسرائيلي، والأخرى فلسطينية تدعى "رند" سُجن زوجها قهرا خمسة وعشرين عاما، ورُفض التصريح لها بزيارته.

بكاميرا محمولة باليد، تأخذنا المخرجة إلى حواف بؤرة الصراع، مثل حواجز التفتيش الأمني المتناثرة التي يجب المرور عليها في الذهاب والإياب. تشهد الأحداث نقطة تحول عندما تسحق عربات الشرطة الإسرائيلية طفلا غزّيا كان يلعب مع أقرانه في المخيم أمام ناظري "كلوي"، وفيما بعد عند تعنت الجنود في نقطة التفتيش في السماح لـ"رند" بالعبور في مخاضها رغم إلحاح أخيها و"كلوي" -طبيبتها- واضطرار الأخيرة لتوليدها في الطريق، ما يتسبب في ولادة متعسرة تفقد فيها المرأة رضيعها. بعد أيام، تموت رند في انفجار تاركة وراءها بضع كلمات جاء فيها: "أنا مش جدار، وأنا مش حجر، رايحة نلاقي ابني وراسي مرفوعة، دمي بيحكي عني. سلامي لكل حبايبي، بشوفكم في الجنة إن شاء الله".

بهذا، تُترك "كلوي" باكية، هي التي لا يفارق عينيها طوال الفيلم نظرة ذهول، ورغم تغير نظرتها فلا تزال عاجزة عن الانحياز الجاد لطرف من الأطراف، رغم شهودها العنف شبه اليومي الذي يمارسه الاحتلال ضد المدنيين العزل، ونظل نحن المشاهدين غير قادرين على اختراق دواخلها.

هل أقدمت "رند" في الفيلم السابق، في ذروة غضبها الحزين، على تنفيذ عملية استشهادية؟ ما نعلمه على وجه اليقين أن الشابين "سعيد" و"خالد" في فيلم "هاني أسعد" الصادر في 2005 عقدَا العزم على ذلك، إيمانا منهما بأن ذلك هو السبيل الوحيد للمقاومة المتكافئة والخلاص من الاحتلال وشد انتباه العالم للقضية الفلسطينية وتجاوزات الاحتلال الصهيوني.

في الفيلم، تعرض شذرات من حياة الشابين وعلاقة كل منهما الوطيدة بأمهما، نستشعر حجم الفراغ الذي سيحل على عائلاتهما بموتهما، ونرى عزمهما وانجرافهما حينا، وترددهما في حين آخر وانسحاب أحدهما دامعا خائفا عند النهاية. وجهت للمخرج اتهامات بمنح هذه العمليات طابعا إنسانيا لتنال قبولا اجتماعيا، مع ذلك فقد ترشح للأوسكار، واقتنص جوائز مثل "غولدن غلوب" وجائزة مهرجان برلين للسينما العالمية.

في الفيلم الذي أنتجته شركة "وارنر بروس"، ولعبت الممثلة والمخرجة "هيام عباس" أحد أدوار بطولته، يعرب أحد البطلين في الفيلم عن غضبه من أن الإسرائيليين يصورون أنفسهم على أنهم ضحايا. وفي المشهد الذي يسجل فيه أحدهما مقطعا مرئيا لوداع عائلته، يعيد الحديث عدة مرات لوجود خطب في الكاميرا، ينهار خلالها اندفاعه الوطني وصلابته التي تكشف عن وجه العاطفة الهش، وبدلا من الحديث عن الشهادة والوطن يبدأ المقطع بتوجيه حديث خاص مقتضب لأمه. وذلك هو ما يرمي إليه المخرج الذي يتفادى تصوير أي حدث عنيف أو انفجار. إنه يحكي القصة المخفية وراء التفجير، ودوافع البطلين اللذين رفضا قبول الظلم المجحف الواقع عليهما وعلى مجتمعهم، لنخلص إلى أن المقاومة وتنويعاتها هي في جوهرها السير بعكس اتجاه العبودية.

السمة الأساسية التي غلبت على الأفلام السابقة هي شعور الأبطال فيها بالعيش في سجن. في الفيلم الرائع "3000 ليلة" نأخذ نظرة داخلية على سجون الاحتلال الإسرائيلي. بُني الفيلم بالأساس حول تجارب حقيقية ومقابلات لمعتقلات فلسطينيات سابقا في سجن الرملة في الثمانينيات،(8) وجرى تصويره في سجن حقيقي مهجور في الأردن.(9) تتبع فيه المخرجة الفلسطينية "مي مصري" محنة معتقلة شابة تدعى "ليال". (10)

في جنح الليل، وتحت وابل من المطر، اقتيدت "ليال"، وهي معصوبة العينين مقيدة اليدين بالأصفاد الحديدية، إلى معتقل للسجينات الإسرائيليات والفلسطينيات. فُتشت بعنف قبل أن تدفع إلى زنزانة الإسرائيليات. "ليال" هي معلمة متزوجة حديثا، لم تفعل شيئا سوى أنها أقلّت فتى بسيارتها. مع ذلك، فهي تفضل أن تحاكم بنزاهة على الأخذ بنصيحة زوجها وهي أن تشهد بأن الصبي الذي أوصلته هددها وأجبرها على ذلك.

السجن ووحشيته إسقاط على الاحتلال الإسرائيلي وما يمكن أن يصنعه في المحتجزين، ما الذي يُفرض عليهم وكيف يُرغمون على التعامل مع بعضهم بعضا؟ هل يمكن للمرء أن يجلب الحياة إلى مكان مصمم ليكون بلا حياة؟ حين اعتقلت "ليال" لم تكن تعلم أنها حبلى. يسرد الفيلم الضغوط التي تمارس عليها لكي تُقدِم على الإجهاض، نرى تمسكها بالطفل، وإجبارها على الولادة بيدين وقدمين مكبلين بالسرير، نرى أيضا النور الذي جاءها بقدوم الطفل محولا ناظرها عن ألم المخاض، وفارضا إحساسا بالانسجام امتد أثره ليشمل من حولها في السجن.

تكمن قوة الشخصيات هنا في قدرتها على مقاومة ما يُفرض عليها عبر التفتيش عن مواطن الجمال كلما اشتد طغيان القبح، يظهر القبح في أشياء مثل الفصل والتمييز بين السجينات الفلسطينيات والإسرائيليات، ويظهر الجمال في الصداقة الوطيدة التي ربطت "ليال" ورفيقاتها الفلسطينيات، والإضراب الذي قرروه عند سماعهم باشتعال فتيل الحرب في لبنان ومجزرة صبرا وشاتيلا، رغم الضرب والتعنيف والحبس الانفرادي.

تتصاعد أحداث الفيلم مع مقتل إحدى السجينات، وتبدأ ثورة المساجين ومقاومتهم رغم بطش سجانيهم. وفي النهاية تزودنا "مي مصري" بحفنة من الحقائق: منذ عام 1948 اعتُقِل أكثر من 700 ألف فلسطيني في السجون الإسرائيلية، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1983 نجحت منظمة التحرير الفلسطينية بإطلاق سراح 4765 معتقل فلسطيني ولبناني مقابل 6 جنود إسرائيليين أُسِروا في جنوب لبنان.

بعد ذلك، تهمس أغنية نجهل حتى اللحظة شاعرها، تقول: "يا ظلام السجن خيم، إنّنا نهوى الظلاما.. ليس بعد الليل إلا، فجر ليل يتسامى.. يا رنين القيد زدني، نغمة تُشجي فؤادي.. إن في صوتك معنى، للأسى والاضطهاد".

___________________________________________________________________________

المصادر:

  1. Elia Suleiman — Center for Palestine Studies | Columbia University 
  2. Elia Suleiman is ahead of his Time
  3. A Journey Through the Films of Elia Suleiman
  4. ثلاثية "إيليا" ولعبة "بازل" 
  5. Palestinian anti-narratives in the films of Elia Suleiman 
  6. Salt of This Sea | Film Review 
  7. يافا "ملح هذا البحر": قراءة في فيلم آن ماري جاسر
  8. FILM REVIEW: ‘3,000 Nights’
  9. 3000 NIGHTS – DISTRIBUTION
  10. ‘3000 Nights’: Review
المصدر : الجزيرة