شعار قسم ميدان

"فيلم ريش".. لماذا لم تعد السينما تعبأ بالمهمشين؟

كانت أمسية رائقة، تلك التي احتل فيها الموظف الحكومي "إيفان دميتريتش" أحد مقاعد الصفوف الأمامية للمسرح، مُرهفا حواسه ومركزا انتباهه على الأوبرا التي تُعرض أمامه، والمعنونة بـ"أجراس نورماندي"(1). كان الأمر كذلك حتى تجعد وجهه، وأغلق عينيه لبرهة، ثم عطس.

لم يشعر دميتريتش بالارتباك على الإطلاق، فقد مسح وجهه بمنديله، ونظر حوله مثل أي رجل مهذب ليرى ما إذا كان قد أزعج أحدا بسبب عطسه، لينتبه إلى أن الجنرال "بريزجالوف"، وهو مسؤول حكومي رفيع، يجلس أمامه مباشرة ويمسح بعناية الرذاذ الذي غطى أجزاء من رأسه الأصلع وعنقه، مغمغما بشيء ما.

في هذا المشهد، يترك الكاتب الروسي "أنطون تشيخوف" الفرصة لحادث عرضي ضئيل؛ كي يتحكم قطعيا بمجريات الأمور. وبقدر تفاهة الفعل وعفويته يكون الجحيم الهائل الذي يثيره، طوال القصة يطارد إيفان الجنرال سائلا إياه الصفح، ولا يلقى سوى الجفاء والطرد، ليخرّ في النهاية ميتا. ويحيل المخرج "عمر الزهيري" تلك الحكاية إلى فيلم قصير تحت عنوان "ما بعد افتتاح المرحاض العام في الكيلومتر 375".

فرخة في القفص

أخلص "الزهيري" لتشيخوف في النسق الذي يقلب الأحداث بشكل مفاجئ، رغم حرصه على تقديمه في قوالب واقعية. وفي العرض الأول لفيلمه الروائي الطويل "ريش (Feathers)" في مهرجان الجونة في مصر، انسحب عدد من الفنانين خلاله بحجة أن الفيلم يسيء إلى البلاد بتقديمها في صورة مغايرة لما هي عليها. وخرج بعضهم إلى المحطات الفضائية ليعلن عن ذلك بغضب.

حوصر "الزهيري" نقديا في وطنه، وإن تسلم الجائزة الكبرى في مهرجان كان بفرنسا، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان بينجاو السينمائي الدولي في الصين(2)(3)، لكنه رغم ذلك كان حريصا على نفي الاتهامات التي وُجّهت إليه، مُصرّا على أن الفيلم لا يتحدث عن بلد بعينه.

لكن هذه الانتقادات تجبرنا على طرح سؤال لا بد منه: متى احتكر النخبويون السينما بحيث لم تعد مرآة للمجتمع، وإنما لصفوة مختارة منه، يسوؤها أن ترى انعكاسات أخرى سواها، ويهددها أن تلوح في الأفق موجة واقعية جديدة؟ والواقع أن فيلم ريش يضاد كل ما يرى هؤلاء الممثلون أنه السينما حاليا، على الرغم من أن بعضهم -في يوم ما، قبل ثلاثة إلى أربعة عقود مثلا- كان ربما ليشارك بشغف في فيلم كهذا، لكن كما أسلفنا، فإن الاستغراق في استغراق شخص في مستوى اجتماعي أو اقتصادي محدد ربما يشوش رؤيته ويجعله عاجزا عن رؤية سائر الحقائق حول العالم.

واقعية سحرية

يقدم فيلم الزهيري واقعيته السحرية وسط أتربة وتدرجات بُنّيّة ورمادية، في مشاهد تقع ما بين الحقيقة والوهم، مثل سينما آكي كوريسماكي، وروي أندرسون، وعباس كيارستمي. في شقة يكسو أرضها بلاط قديم متشقق تغلقه طبقة من الجبس المتسخ، مع خطوط الأنابيب المكشوفة والطلاء المقشر والأثاث المتهالك والأرائك الرثة، يطالعنا مشهد زوجة وأم (دميانة نصار) تطهو الطعام وتجلي الصحون، تنظف الملابس، وتعتني بأطفالها الثلاثة، تنصاع للهجة زوجها (سامي بسيوني) الآمرة، وقلما تتحدث أو تبتسم، وفي عينيها حزن كسير.

على وقع خطوات تشيخوف، يأذن الزهيري لحادث عبثي أن يضع كل الأشياء على المحك. يدخل الزوج في صندوق خشبي باعتباره جزءا من خدعة يقوم بها الساحر المراوغ الذي وظفه في حفل عيد ميلاد ابنه، ويتحول إلى دجاجة بيضاء، لتصير الزوجة في وضع المسؤول عن طائر يرقبها ببلاهه وثلاثة أفواه جائعة.

وفي محاولات المرأة للعثور على عمل وإعالة أسرتها، تظهر المفارقات والرسائل التي يحملها الفيلم(4)، فيما تجاهد العدسة لنقل وجهة نظر البطلة في أجواء كوميدية غرائبية. ورغم ذلك، قصد الزهيري أن يكون للفيلم هوية مصرية خالصة ومستقلة(5)، من المشكلات والدعابات إلى التعبيرات الصغيرة، مثل مشهد تقول الأم لابنها الصغير إنه ينبغي عليه العمل، لتنصرف بعدها لشراء قطع "الجاتوه"، يلتهم الطفل قطع الحلوى، تمسد الأمر شعره بلمسة وتغدقه نظرة حانية قبل أن يغرق في النوم.

عالم من الاحتمالات

حرص الزهيري -على حد قوله أن يكون فيلمه بلا ملامح أو أسماء ليكسر الحدود بين الشخصيات والمتفرج.

لا يخفي الزهيري تأثره بالمخرج الفرنسي بريسون، قد نلمس ذلك حقا في اختياره للممثلين وفي السرقة الصغيرة التي ترتكبها بطلته، وميل كادراته إلى احتواء الصمت. فـ"النشل" في أفلام بريسون هو علامة على انقضاء الشعور الإنساني في العالم الحديث، واستحالة التقيد بالأخلاق في عالم شرِه. المفارقة عند بريسون أن المجتمع الذي يخرق المذنب قوانينه، أكثر إجرامية من المذنب نفسه.

لا توجد دوافع أو أسباب خاصة تحرك أبطال بريسون، على خلاف الأفلام التقليدية التي يتضح لنا فيها أسباب الجريمة ودوافع الشخصيات. هنا تكون المشاعر المفصح عنها هي العدو الأول للمخرج، لذا طالما جَهِد لانتقاء الممثلين غير المحترفين، أو بالأحرى "لا ممثلين" للقيام بأدوار في أفلامه. ولكن في حين أن سينما بريسون لا تحمل أي عاطفة، فإن سينما الزهيري يبدو أنها زاخرة بها.

ما يراه الكاتب "هوفيك حبشيان" في صحيفة الإندبندنت أن "ريش" يمعن في متتاليات من المواقف العبثية ملغيا الرمزية والدلالات، بل ويعمل بشكل ممنهج على تعطيل كل التوقعات التي قد تولد عند المشاهد. ويرى الناقد البريطاني أن الأب الذي اختفى يمثل الأبوية في المجتمع المصري، رغم أن هذا الإسقاط ينبذه المخرج نفسه.

عندما نتحدث عن تعطيل التوقعات نعني به أنه يضعنا أمام احتمال ما ثم يتخلى عنه، فاختفاء رب العائلة الذي كان يهيمن على قرارات البيت لن يحسّن من وضع أحد، ولن يفسح المجال لزوجته أن تصبح سيدة المنزل، بل ستزداد بؤسا وعزلة. صحيح أن المنزل لم يكن أفضل الأماكن قبل غياب الزوج، لكن الخارج، حيث البيروقراطية التافهة، أسوأ منه. ثم إن الفيلم لا يقدم أيا من شخصياته كضحايا يجدر مناصرتهم، لا يدين أحدا، ولا يحاول استدرار العواطف(6).

حرص الزهيري -على حد قوله(7)- أن يكون فيلمه بلا ملامح أو أسماء ليكسر الحدود بين الشخصيات والمتفرج، ليكون حلقة تواصل بين بلدان ومجتمعات مختلفة، وبين شخصيات شديدة الخصوصية والبساطة يجعلنا زخم الحياة لا نلتفت إليها.

يرى الزهيري أن الحياة الآن بسرعتها العنيفة ومعاييرها المختلفة وكيفية التواصل، قد جعلت الواقع مملا وغير مبهر. لذا فإن السينما الحقيقية -كما يرى- هي التمادي لأبعد حد في الإحساس والخيال واللحظة. لنأتي إذن بشخصية لن توضع أبدا في لحظة بعينها، مع تركيبة جنونية بخط سير واقعي، ولنشاهد ما سيحدث(8)(9). وقد وقع اختياره على الدجاجة دونا عن الحيوانات الأخرى، لأنه كلما كان الكائن أضعف كان حضوره أقوى، فوجودها يمثل ضغطا في حد ذاته يفرض وجوب إطعامها وتزويدها بفيتامينات وتدليلها والقلق على صحتها.

خصوصيات المكان

دامت صناعة الفيلم 6 سنوات، كان صانعه يعمل خلالها مخرجا للإعلانات، قطن لفترة في باريس، تعرف فيها إلى المنتجة "جولييت لوبوتر" التي ستمول الفيلم جزئيا بالتعاون مع "بيير مناهيم" من خلال شركة "ستيل موفنج" بفرنسا، بالتعاون مع شركة "فيلم كلينك" والمنتج محمد حفظي في مصر، ليكتب بعدها الزهيري السيناريو والحوار برفقة أحمد عامر، لكن ما شغل ذهنه -بحسب حواره في إحدى المداخلات- هو المكان الذي بنى المهندس عصام علي فيه ديكورات مختارة بعناية ومنه ولدت مشاهد عديدة. تلك الأصالة في الموقع ميزت أيضا فيلمه القصير السابق، فكان من المتوقع أن يعتني بها في هذا الفيلم.

يُعلي الزهيري من شأن المكان، موزعا فيه العناصر بحذر وليس عن طريق الصدفة، محققا نظرية الناقد الفرنسي "أندريه بازان" أن "الميزانسين" هو لب الفيلم الواقعي. يعني الميزانسين تحديدا عمق المجال البصري الواضح في إطار اللقطة، وهو يرمي إلى توطيد صلة المشاهد بتجربة الفيلم، فارتباط العمل السينمائي بعلاقات مكانية يعد أحد العناصر الجوهرية للفيلم الواقعي.

طال ذلك الجمادات والموجودات التي ولدت انطباعات أثرت من جماليات التكوين الذي يتعامل الزهيري معه بقداسة، فما يدخل في إطاره صدفة لا يُخرجه عنوة، ليأتي بحيوانات مضطهدة كالدجاج والأبقار والحمير وقرد سيرك عدواني يتجول في الخلفية. يكمل المشهد المونتير هشام صقر الذي حرص على تلوين الإيقاع والصوت بما يتناسب مع الأحداث، ليخلق حالة من التوتر.

يسيطر هذا الإيقاع على الفيلم حتى النهاية، بحيث تشعر طوال الأحداث أن شيئا مفاجئا على وشك الحدوث، وهو شعور نتشاركه مع المخرج نفسه، الذي كان منفتحا مستعدا لتقبل المفاجآت حتى من الممثلين الذين استغرق اختيارهم وقتا، فاختيار البطلة وحده هو حكاية بحد ذاتها رواها محمد سمير على موقع رصيف في مقاله "جارتي صارت بطلة فيلم.. ظلمها العالم وأنصفتها السينما".

تمشي حكاية بطلة فيلم "ريش" جنبا إلى جنب مع حياة أم ماريو الحقيقية، وهو الاسم الذي أطلقته نساء القرية عليها. وجدت المرأة نفسها وحيدة تعيل أبناء، وتنتظر زوجا تمر الأعوام على رحيله إلى ليبيا ولا يعود، كان لهذا الغياب عميق الأثر على نفس فتاتها ذات الأربعة عشرة عاما، هايدي، لكن بانضمام الفتاة إلى فرقة مسرح ناشئة للفتيات في القرية، تعافت قليلا، فتهللت أسارير الأم.

في تلك الآونة، جال الزهيري طويلا قرى محافظة المنيا، ليرى مئات السيدات، قبل أن يستقر على "أم ماريو" فور رؤيته لها في مقر الفرقة المسرحية التي تشارك فيها ابنتها. وما إن وقعت عيناه عليها حتى أيقن أنه وجد ضالته، وسيبدأ تصوير الفيلم الذي كان جاهزا تماما وينتظر بطلته(10).

لا ينظر الزهيري إلى تجربته الجديدة في السينما المصرية كقضايا، وإنما كمشاعر. كوميديا خاصة لم يسبقه أحد إليها سوى المخرج رأفت الميهي، ألحق لها الزهيري وفريقه واقعية سحرية، صنع بها ثغرة في جدار سينمائي قبيح لم يعد يحفل بعذابات موظف تشيخوف البسيط وبالمسحوقين والمهمشين والمنبوذين، في أجواء عبثية وشخصيات أشبه بالريش في واقع لا يحتمل ذلك القدر من الخفة.

_____________________________________________________

المصادر:

  1. The Death of a Clerk, Anton Chekhov
  2. Cannes: Egyptian film Feather wins top prize at Critics’ Week
  3. ‘Feathers’ Review: A Bone-Dry, Bitingly Absurdist Story of a Woman, a Chicken and the Subversion of Egyptian Patriarchy
  4. ما الذي يميز فيلم ريش الذي فاز بجائزة اسبوع النقاد في مهرجان كان عن الافلام المصرية الاخرى؟
  5. عمر الزهيري + CINEMATOLOGY: فيلم "ريش" والموجة السينمائية المصرية الجديدة
  6. عمر الزهيري الفائز بجائزة في كان: دسست السم في العسل
  7. ما الذي يميز فيلم ريش الذي فاز بجائزة اسبوع النقاد في مهرجان كان عن الافلام المصرية الاخرى؟
  8. المصدر السابق
  9. https://www.bbc.com/arabic/trending-58971391
  10. جارتي صارت بطلة فيلم… ظلمها العالم وأنصفتها السينما
المصدر : الجزيرة