شعار قسم ميدان

فيلم "The Platform".. هل الإنسان حقا ذئب أخيه؟

"هناك ثلاثة أنواع من البشر في هذا العالم، مَن هم بالأعلى، ومَن هم بالأسفل، ومَن يسقطون"

(تريماجاسي، فيلم "The Platform")

    

حسنا، إنه منتصف مارس/آذار تقريبا، الرئيس الأميركي دونالد ترامب يُعلن عن حجم الخطر الذي تُواجهه الدولة بسبب تفشي كورونا المستجد، في تلك الليلة قام الناس بهجوم شديد الكثافة على المحال التجارية للحصول على احتياجاتهم من أجل بيات يبدو أنه سيكون طويلا، وفي فروع وولمارت التقط البعض مشاهد مؤسفة(1) لعراك شديد بين مواطنين أميركيين، صاحب الصوت الأعلى أو الضربة الأقوى في تلك المعركة يربح حزم مناديل إضافية للمراحيض أو بعض الصابون أو مطهرات الأيدي.

لكن بالتأكيد فإن صراعا في وولمارت لن يقترب حتّى من حِدّة النقاش الدائر حاليا في التليفزيون العالمي حول ضرورة أن يترك الناس إجراءات(2) العزل الاجتماعي جانبا ويذهبوا إلى العمل، يمكن ببساطة أن ترى أحد أعلام اليمين الأميركي وهو يقول إن عجائز الولايات المتحدة الأميركية لا يريدون أن ينهار الاقتصاد ويدخل أولادهم في حالة من الكساد المميت، أو بمعنى أوضح: إذا كان هذا المرض يقتل كبار السن بشكل رئيسي، فإن التضحية مناسبة!

حسنا، لا بد أن ظهور الفيلم الإسباني "المنصة" (The Platform) في تلك الأجواء كان مصادفة لافتة للانتباه، فهو يؤشر عليها بشكل صريح بين مجموعة أخرى من الأفكار المتشابكة جدا بحيث لا يمكن أن تستوضحها في بعض الأحيان، وفيه نرى سجنا من نوع خاص، يتكوّن من عدة مئات من الغرف المتراصة رأسيا، يسكن شخصان في كلٍّ منها، لهذا السجن قانونان أساسيان، الأول هو أن مكانك في أي تلك الحجرات يتغير عشوائيا كل شهر، فقد تكون في الغرفة رقم 6 بالأعلى، ثم تستيقظ بعد شهر لتجد نفسك في الغرفة رقم 200 بالأسفل، وهكذا.

القانون الثاني لهذا السجن هو أن الطعام ينزل من أعلى لأسفل، طاولة غنية بكل أنواع الأطعمة الشهية التي اختارها المساجين وتكفيهم إذا أكل كلٌّ منهم حصته فقط، لكن المشكلة هي أنه غير مسموح لك أن تحتفظ بأي طعام منها، فقط يجب أن تأكل من الطاولة، وخلال دقيقتين كل يوم، بعد ذلك تنزل الطاولة إلى الدور الذي يليك، كلما نزلت الطاولة إلى دور نقص الطعام بها لأن مَن هم بالأعلى أكلوا منها، فماذا يتبقى للأدوار السفلى؟

أن يأكلوا بعضهم بعضا (حرفيا)، ورغم أن الجميع يدرك أن الأدوار تتغير كل شهر، وأنه كان من الممكن أن يحافظوا على حياة الجميع طوال فترة السجن إذا التزموا بأكل حصتهم فقط، فإنهم يُفضِّلون دائما أن يلتزموا بالمزايا التي حصلوا عليها من الدور الذي يعيشون فيه، فإذا كان أحدهم في الدور 10 أو 25 مثلا فإنه يرى أنه يحق له أن يتبوّل، على سبيل المثال، على الطعام قبل أن ينزل إلى مَن هم دونه، يُحيلنا ذلك إلى اقتباس شهير لتوماس هوبز، والفيلسوف الإنجليزي واسع الشهرة، يقول فيه(3) إن "الإنسان ذئب أخيه الإنسان"، أو كما قال تريماجاسي: "إنها طبيعة الأشياء".

     undefined

هل تريد أن تحصل على دبلومة في مجال تحبه؟ يجب أن تدفع الثمن، يعني ذلك أن تفعل كل شيء يناسب هذا الهدف، هل تود الترقية لمركز مشرف مبيعات؟ هنا سوف تتعلم مع الوقت أن جميع منافسيك هم مشكلات تواجهك ولا بد من تلافيها واحدة تلو الأخرى. بحسب هوبز، فإن كل ما هو متاح للإنسان من حرية يقع فقط في الحدود الضيقة جدا بين مخاوفه ورغباته، وسوف يتعامل مع الجميع من حوله على هذا الأساس، لذلك قال هوبز ذات مرة: "لقد وضعت أمي توأما: أنا والخوف".

في الواقع، فإن فكرة صديقنا هوبز، وهي بالأساس إحدى نظريات العقد الاجتماعي الرئيسية، تمتلك بعض الوجاهة إذا تأمّلنا ما توصلنا إليه عن الطبيعة البشرية خلال نصف قرن مضى، في تلك النقطة يمكن أن نبدأ من دانيال كانيمان، في كتابه "التفكير بسرعة وببطء"، والذي يشرح فيه نظريته التي حصل بسببها على جائزة نوبل. يقول كانيمان إنه حينما نتعرّض إلى كمٍّ كبير من المعلومات عن أي شيء في حياتنا، فإننا نبحث بين تلك المعلومات عن أبسط قصّة ممكنة ونصدقها، بالتالي فإن ما نعتقده عن العالم أبسط -بشكل جذري- من العالم نفسه وما يحويه من أحداث ومعلومات، يقود ذلك إلى نتيجة مهمة تقول إننا متجهزون للتحيز، حيث يمكن أن نميل، بشكل غير عقلاني، لتصديق القصص الأكثر إثارة لنا.

تحرمنا تلك النوعية من التحيز الإدراكي من القدرة على النظر للمستقبل بشكل قريب للواقع. على سبيل المثال، لنفترض أنك الآن في أحد المحلات التجارية الخاصة بالأحذية، لوهلة توقفت أمام هذا الحذاء الجميل، إنه بالفعل لافت للانتباه وقد أحببته، لكن المشكلة هي أن سعره غاية في الارتفاع مقارنة براتبك الشهري، لكن رغم ذلك تُشير التجارب إلى أنك ستميل إلى شراء هذا الحذاء إذا كنت تشتري احتياجاتك عن طريق بطاقة الائتمان، أما إذا كنت تشتري عن طريق النقود فإنك ستميل إلى تركه.

   undefined

إنها نقودنا في كل الأحوال، وسوف يتسبّب سعر هذا الحذاء في عجز بالميزانية الخاصة بنا، لكننا نتعامل مع نقود بطاقة الائتمان، والتي سنحتاج إلى دفعها بعد عدة أشهر، على أنها أشياء -بشكل ما- ليست موجودة الآن، بل موجودة "هناك في المستقبل"، بالتالي فإننا نُرجِّح حساب المكافأة التي نحصل عليها الآن على الألم الذي يتسبّب فيه الدفع مستقبلا، لهذا السبب أيضا فإننا مثلا نميل إلى أن نُلقي بأنفسنا إلى عالم الديون لشراء منزل الأحلام، ورغم أننا -بحسبة منطقية بسيطة- يمكن أن نعرف أن هذا الدين سيتسبّب في مشكلات جمة، فإننا ننطلق في قراراتنا على أية حال.

يرى ريتشارد ثيلر(4)، متخصص علم الاقتصاد السلوكي الحاصل على نوبل في 2017، أن ذلك كان أحد أسباب انهيار عام 2008 الاقتصادي، ليس فقط لأن الناس يُخطئون في قراراتهم الاقتصادية بسبب تحيزاتهم الإدراكية، بل لأن تلك التحيزات يمكن توقّعها، وتستخدمها الشركات الكبرى والصغرى تحت اسم "التسويق"، فتدفع الناس إلى شراء ثلاثة قمصان ودفع ثمن اثنين وهم لا يحتاجون إلى القمصان أصلا، أو تدفعهم لشراء سكّين مسنون جيدا، ليس لأنهم يحتاجون إليه، بل لمجرد أن أحدهم يقول إن حياته قد تغيرت بفضل هذا السكّين، ثم يضطر بعد ذلك لشراء سكّين من النوع "+بلاس"، ثم سكّين من النوع "برو بلاس"، ثم سكّين من النوع "برو بلاس ألترا"، هذا الطريق لا نهاية له.

لكن ربما يكون الأكثر دفعا للتأمل، في أجواء كتلك، هو ما يتطور إليه الأمر حينما نتحدث عن العلاقة بين البشر وبعضهم بعضا، هنا يمكن أن نلتفت قليلا إلى ما يسميه "لي روس"، الأستاذ من جامعة ستانفورد في كتابه "الأكثر حكمة في الحجرة"، بـ "الواقعية الساذجة"(5)، حيث نميل نحن البشر إلى تصور أن قناعاتنا الخاصة ليست فقط مجرد قصصنا عن العالم أو آراء نكوّنها عن الأفلام والروايات والأحداث والأحزاب السياسية، بل هي حقائق موضوعية.

كتاب
كتاب "الأكثر حكمة في الحجرة" (مواقع التواصل)

ينضم ذلك إلى نطاق كامل من علم النفس الاجتماعي يدرس ما نسميه "وهم التفوّق"، وهو اعتقاد الناس الخاطئ عن تفوّقهم على الأفراد الآخرين، حيث يقوم الواحد منّا بتضخيم حجم صفاته الإيجابية وتصغير صفاته السلبية، يصل الأمر إلى درجة أن 90% من طلبة جامعة لنكولن نيبراسكا يدّعون(6) أن مستواهم أعلى من المتوسط، 90% من سائقي سيارات الأجرة الأميركان يدّعون(7) أن قدراتهم أعلى من المتوسط، 87% من دارسي ماجستير إدارة الأعمال في ستانفورد يظنون(8) أن مستواهم الدراسي أعلى من المتوسط.

هنا دعنا نتوقف قليلا، فنحن بحاجة إلى جمع خيوط الأحجية معا، الناس يصنعون قصصا ويُصدِّقونها كحقائق، في أثناء ذلك يظنون أنهم قادرون على فهم الأمور أكثر من الآخرين، لكن ماذا لو كانت الأجواء -في حياتنا- متوترة جدا ومتغيرة بشكل شبه دائم؟ ماذا لو خرج أحدهم -في مثل هذه الأجواء- ليقول رأيا آخر أو يعتنق فكرة أخرى؟

في حياتنا العادية، يمر الأمر مرور الكرام، لكن في أجواء التوتر السياسي والاقتصادي والاجتماعي -وهي ببساطة ما يمكن أن نسميه "العالم المعاصر"- فإننا نضع هؤلاء الذين لا يتفقون مع آرائنا وقناعاتنا في قائمة خاصة ندعوها "هُم"، ثم نضم أنفسنا إلى جوار مَن يتساوون معنا في المستوى والآراء في مجموعة ونسميها "نحن"، ثم نبدأ في تعديد(9) مزايا مجموعتنا ومدى عقلانيتها في مقابل لا عقلانية، أو جهل، أو عجرفة، المجموعة الأخرى، أو ربما مؤامراتها، هل يتآمرون علينا حقا؟

undefined

في تلك النقطة تتغير قواعد اللعبة، فنحن نميل دائما إلى الحفاظ على مزايا المجموعة التي ننتمي إليها، ونظن، مثل أي يميني أميركي يود أن يُنقذ الاقتصاد بترك العجائز يموتون على سبيل المثال، أن تلك هي الحقيقة، وأن الأمر فقط يتعلق بأن تكون مطلعا على المزيد من البيانات حول الأمر. لكن في الواقع، فإن ذلك غير دقيق، إننا فقط نظن أن حكاياتنا عقلانية كفاية، لفهم ما نقصد دعنا نتأمل لعبة قرّر كلٌّ من ماريو مولينا وموريسيو بوكا، طلاب الدكتوراه بجامعة نيويورك، تصميمها واستخدامها لفحص رؤية الناس لأفكار مثل العدالة أو الاستحقاق أو الجدارة، في تجربة نُشرت النتائج الخاصة بها في دورية "ساينس أدفانسس"(10) الشهيرة قبل عدة أشهر.

فكرة التجربة بسيطة، إنها لعبة ورق (كوتشينة) معروفة تُوزَّع الأوراق خلالها على اللاعبين ثم بعد ذلك تُفحَص تعليقاتهم على نتائج اللعبة، في أثناء اللعب يضع الباحثون قواعد لتمييز أحد الطرفين على الآخر، ثم يتلاعبون في نتائج اللعبة بحيث يمكن أن تكون قواعد اللعبة منحازة لصالحك لكنك تخسر في بعض الحالات وتربح في الأخرى، والعكس صحيح، وبعد ظهور النتيجة يُسأل كلٌّ من الطرفين عن سبب فوزه أو هزيمته.

هنا تظهر النتائج لتقول إن الفائز سيُرجع سبب فوزه للمهارة حتّى وإن كانت قواعد اللعبة منحازة له بشكل واضح، أما الخاسر فسوف يقول إن قواعد اللعبة كانت ظالمة حتّى لو كانت منحازة له بشكل واضح ثم خسر عشوائيا. ليست تلك هي فقط نتائج دراسة واحدة. في الواقع، فإننا -نحن البشر- نميل دائما إلى القول إن الأوضاع القائمة، إذا كانت في صالحنا، هي أوضاع سليمة وعقلانية وموضوعية ولا غبار عليها، أما إن كانت ضد مصلحتنا فسنقول إنها أوضاع غير عادلة.

     undefined

في الواقع، يطوّر مقدار التفاوت بين البشر (Inequality) من رغباتنا في الإعلاء من شأن ما نعتقد مقابل ما يعتقده الآخرون. على سبيل المثال، وبحسب دراسة(11) في منشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) قبل عدة سنوات، فإن القدر الهائل من التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بين البشر يدفع بالطبقات الأغنى ناحية الرغبة في الهيمنة وإبقاء الأوضاع الحالية قائمة بأي ثمن على أساس أن هذا هو أفضل الأوضاع، مهما تطلّب الأمر من عنف أو تخطٍّ للقوانين، أُجريت الدراسة على 45 ألف شخص في 27 دولة.

في أول مشاهد الفيلم يقول تريماجاسي، الشخصية المثيرة جدا للانتباه، إن "هناك ثلاثة أنواع من البشر في هذا العالم، مَن هم بالأعلى، ومَن هم بالأسفل، ومَن يسقطون"، ليس الأمر فقط أن تكون في طبقة اجتماعية ما تميل إلى تأكيد مكاسبها على أنها مستحقة، ولكن بسبب هذا التوتر الشديد الذي تتسبّب فيه أحداث مثل التي نعيشها الآن فإنك تخشى السقوط، تخشاه إلى حد الموت، يُقلِّص ذلك من أُفق كل واحد منّا بصورة لا نتخيلها، فيكون كل ما يمكن أن نراه عن ذواتنا أو العالم من حولنا هو فقط ما يقع قبالة أعيننا، وما يمكن أن نحصل عليه من لذة في اللحظة الحالية.

ربما الآن يمكن أن نقترب من إجابة سؤال فيلم "المنصة" (The Platform) وعلاقته بما نعيشه الآن من فوضى متعلقة بجائحة كورونا المستجد. ما يدفع الناس لأكل لحم بعضهم بعضا إذا كان هناك حل آخر هو نفسه الذي يدفع الناس لضرب بعضهم بعضا "بالأحذية" في متجر كبير لأجل مطهر يد، وهو ما يدفع بعض الدول، والجماعات والأفراد كذلك، للتعامل بأنانية شديدة في أجواء كالتي نعيش فيها، في حين أن الحقيقة الواضحة لكل ذي عينين هي أن كل واحد منا سيتذوق من هذا العلقم مرة واحدة على الأقل.

    undefined

لكن لو تأملت قليلا لوجدت أنه على الرغم من كل ذلك، فإن هناك أملا واحدا ممكن، على سبيل المثال يقول ريتشارد ثيلر إنه يمكن للبشر أن يتغلبوا على تلك النوعية من التحيزات عبر تغيير إدراكنا لنصبح "ذواتا مُخططة"، أما عاموس تفرسكي ورفاقه فقد أثبتوا في تجاربهم بالثمانينيات من القرن الفائت أن تفهيم الناس تلك التحيزات يُخفِّف منها، وفي إحدى التجارب الخاصة بفحص الاستقطاب السياسي بجامعة نيويورك كان هؤلاء الأكثر فهما وتعلُّما للأمر أقل استقطابا وأكثر قدرة على التعاون والحوار.

هل سنتعلم؟ هل الإنسان هو ذئب أخيه الإنسان شاء أم أبى؟ أم من الممكن ولو للحظة، لحظة واحدة يتيمة، أن يُوسِّع من أُفقه قليلا فقط ليُدرك أنه كان ليعيش أفضل إذا عرف أن مصلحة الآخر هي مصلحته، وأننا لا نتجاوز هذا النوع من الأزمات شديدة القسوة فرادى، بل معا؟! حسنا، الساعة تدق، والإجابة عن هذا السؤال ليست ببعيدة، إنها دائما ما تكون لحظات اختبار حقيقية لمعدن البشر.

المصدر : الجزيرة