"Game of Thrones".. كيف تقتل "ملك الليل" وتخرّب ملحمتك في أقل من دقيقة واحدة؟
فتاة ترتدي أجمل فستان في العالم؛ باهر في ألوانه، ودقيق في زخرفته، ومزيّن بقطع من الألماس المنحوتة بعناية. ولكن ما أن ترفع عينيك إلى وجه الفتاة، حتى تكتشف أنه خالٍ من الملامح؛ لا عينين ولا شِفَاهًا ولا أنفًا. فهل ينجح جمال الفستان في تشتيت عينيك عن ذلك الفراغ؟
ربما يكون هذا ما قصدته إحدى المقالات عن الحلقة الثالثة في الموسم الثامن من مسلسل "صراع العروش"، عندما وصفتها بكلمتين متضادتين: "Epic but Anti-Climactic"؛ ملحمية ولكنها مُحبِطة. والملحمة والإحباط تحدده عين المشاهد؛ فهل ستتورط بالصورة الباهرة، والجموع العملاقة والتنانين المحلّقة فوق الرؤوس، والموسيقى المكتوبة بموهبة فائقة وفي موضعها الصحيح، أم ستبحث عيناك عن خيوط الحكاية التي تربط كل التفاصيل، فلا تجدها وتصاب بالإحباط؟!
هذا التضاد هو أزمة حلقة "The Long Night"، وهو منشأ الانقسام الحاد بين من وجدوها واحدة من أعظم تجارب المشاهدة على الإطلاق وبين من خرجوا منها وقد هوى سقف توقعاتهم فوق رؤوسهم. ولكن لماذا لم ينجح كل هذا الإبهار مع الطرف الثاني؟ وما منشأ الإحباط؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه.
امتازت معارك المسلسل منذ البداية بمحاولتها الجادة في محاكاة واقع الحروب القديمة، والحروب تحتاج إلى وضع خطة، هذا أمر بديهي! وصل الإتقان ذروته في "معركة أبناء الزنا" (Battle of the Bastards)، حيث نجح المسلسل في تقديم موقعة متماسكة تتصاعد بسلاسة من نقطة إلى أخرى. معركة عصور وسطى حقيقية تشبه مباراة شطرنج؛ تبدأ بمحاولة رمزي بولتون في استدراج جون سنو مستخدما أخاه ريكون كطُعم، ثم بدأ الاشتباك.
سلاح الفرسان من الجانبين يصطدم في الأرض الوسطى
رماة الأسهم يمطرون السماء بنصالِهم
الجثث تتراكم فوق بعضها
جنود المشاة يحاصرون بقايا جيش جون سنو
جنود يموتون دهسا تحت أقدام إخوتهم
الإنقاذ يأتي في النهاية على شكل "جنود الوادي" ولود بيليش
معركة وينترفيل لم تقدم تتابعا يمكن للمتفرج سرده، وبدلا من مشاهدة قتال يحاول أن يكون منظما، رأينا تتابعات من المشاهد شديدة الإبهار والإمتاع البصري، وإيقاعا يلهث المتفرج خلفه غير قادر على إغلاق عينيه، ولكن كل شيء من ذلك على حدّته بلا جامع حقيقيّ بين التفاصيل. وهو ما دفع موقع "Vox" لأغرب شيء ممكن، فنشر تقريرا يحلل فيه اثنان من العسكريين خطة هذه المعركة ومدى تفككها!
انتظرت الجماهير أن ترى خطة وتنظيما، قد ينجح أو يفشل لا يهم، ولكنهم لم يجدوا ما انتظروا. وبدلا من ذلك قدمت الحلقة دوثراكي يتقدمون بسيوفهم المشتعلة نحو الظلام ولا يعودون، والموتى يقفون محدقين في الأحياء وبينهم نفق محترق ولا تتقدم التنانين، لأن التنانين مشغولة في معركة أخرى في السماء، بينما جنود الـ "Unsullied" الذين لا يجدون سوى الحرب يسقطون بسهولة ودون مقاومة تقريبا وبلا أي شكل من التخطيط!
رغم كل ذلك، ورغم غضب قطاع واسع من المشاهدين، فإن معركة وينترفيل في النهاية تقبل درجة من الفوضى في أحداثها؛ فالأحياء لا يعرفون عدوهم بشكل حقيقي، والموتى يتحركون كسيل من الفناء يكتسح ما يقابله. ولكن ما لم تقبله قطاعات أوسع من الجماهير هو لحظة قتل آريا ستارك لـ "ملك الليل". ومن هنا يبدأ إحباط أسوأ.
منذ خمسة قرون تقريبا أخبرنا وليام شكسبير أنه لا يهتم بـ "ماذا حدث"، ولكن المهم هو "كيف حدث". وهو ما يبدو أن صُنّاع الحلقة لم يعيروه انتباها كافيا.
في الحكايات الفانتازية الكبرى هناك دائما وجود لذلك الكيان الشرير شديد القوة، مستحيل المواجهة. إنه سيد الظلام عند تولكين، إنه لورد فولدمورت. وحسب درس شكسبير فإن المشكلة الحقيقية في كيفية قتل هذا الكيان، لأن مشهد قتله يمكن أن يدمر أي حكاية إن جاء بصورة لا تشبع المشاهد ولا تقنعه.
التقنية المتبعة عادة هي أن تتزامن لحظة القتل مع لحظة كشف وتنوير (Revelation). يدرك المشاهد في هذه اللحظة نقطة قوة للبطل أو نقطة ضعف للشرير أو الـ "Anti-hero" يمكن استغلالها، ولا حاجة هنا إلى استخدام أمثلة كلحظة قتل هاري بوتر لـ "من لا يجب ذكر اسمه"، لأن صراع العروش يقدم لحظة مثالية في معركة هاردهوم (Hardhome).
يجد جون سنو نفسه في مواجهة مباشرة مع واحد من الوايت ووكرز، وفي لحظة اليأس يرتطم النصل الثلجي بسيف جون سنو المصنوع من الصُلب الفاليري (valyrian steel)، وبدلا من أن يتحول السيف إلى تراب كالمعتاد، يكتشف المشاهد قوته وتتغير قواعد القتال فورا. لقد جاءت لحظة الكشف (Revelation)، وجاء الانتصار بصورة متقنة يقبلها المشاهد، لا بصورة تتسلل فيها آريا خلسة من وراء ملك الليل الذي قاوم نيران التنين ولم تقتله ثم تطعنه بنصل خنجر فينتصر البشر في معركتهم ضد الفناء.
نيران التنين تقتل الوايت ووكرز، والصلب الفاليري يقتل الوايت ووكرز، لأن حدادته كانت باستخدام نيران التنين، لكن ملك الليل بلغ من التميز والقوة ما جعله منيعا ضدها. لقد رأى المشاهد ذلك بنفسه منذ لحظات، شاهد دينيريس وهي تردد كلمة "دراكاريس" التي تنتظرها الآذان، وشاهد ملك الليل ينجو ببساطة شديدة، ثم طلب منه كُتّاب الحلقة بعد ذلك ابتلاع مشهد طعنة آريا! لا بد أن شكسبير غاضب الآن في قبره!
قاعدة أنطون تشيخوف القديمة والبسيطة والمقدسة؛ إن وضعت بندقية على الحائط في الفصل الأول من المسرحية، فيجب أن تستخدمها في الفصل الثالث! وبالمثل، إن أردت استخدام البندقية في الفصل الثالث، فلا يمكن أن تهمل ظهورها واضحة في الفصل الأول. والبندقية التي لم تُستخدم هي "بران".
الإحباط لدى المتفرج يأتي بعد تمهيد طال لسنوات رأينا فيها تحوّل بران من الفتى الذي يتسلق أسوار القلعة إلى أن أصبح الغراب ذا العيون الثلاثة (Three-Eyed Raven). قدّم المسلسل رحلة النضج تلك كخط منفصل بصورة شبه كاملة عن الأحداث، وربط بينه وبين ملك الليل كأضداد؛ الحياة ضد الموت أو الوجود ضد الفناء. وعندما حانت لحظة استخدام بران، قرر كاتب المسلسل أن يقتصر دوره على طُعم لاجتذاب ملك الليل، وقرر استخدام بندقية أخرى ينقصها كثير من التمهيد.
في المقابل قدّم المسلسل خط أحداث لتطور شخصية آريا ستارك تتحول فيه من طفلة وينترفيل النحيلة التي تتدرب على استخدام السيف الخشبيّ مع سيريو فوريل حتى بلغنا نقطة أصبحت فيها "فتاة لا اسم لها" (A Girl Has No Name). التمهيد حتى تلك اللحظة كان على درجة كبيرة من الجودة، ولكن الضعف ظهر في نقطة تحول آريا إلى ما يتجاوز ذلك، وأن تصبح هي الـ "آزور أهاي" أو الموعودة بإنهاء الليل الطويل الذي ينتظر البشرية. وفي مجموعة من اللقطات المقحمة في الحلقة الأخيرة جاء التمهيد بغير إتقان؛ إذ تظهر الساحرة ميليساندرا فجأة، وتبدأ في سرد الكلمات القديمة "ماذا نقول لإله الموت؟ ليس اليوم". والمنتظر من المشاهد أن يجد تلك اللقطات تمهيدا كافيا لأن تصبح آريا هي البندقية!
دعني أخبرك نقطة أخرى فيما يخص بندقية تشيخوف؛ البندقية يجب أن تكون مُعلقة إلى الجدار، ويجب أن يعتاد المشاهد وجودها تماما حتى يتغافل عنه، ثم تأتي لحظة الاستخدام، فينتبه المشاهد للمفاجأة فورا، ويقبلها فورا، وفورا يعيد تأويل كل الأحداث السابقة ليصل إلى استنتاج بمعقولية هذه المفاجأة، وأنها الحل المنطقي الوحيد الذي أجاد الكاتب إخفاءه. أما أن تضع البندقية في الفصل الثالث ثم تستخدمها في الفصل الثالث، فهذا تقليل من تقدير ذكاء المتفرج، وسوء استخدام لقاعدة تشيخوف المقدسة، تلك القاعدة التي أجاد المسلسل فهمها واستخدامها في مواضع كثير سابقة ثم أهملها تماما في الموضع الأهم!
لا تعد المشاهد بتقديم شيء لن تجتهد في تقديمه. هذه قاعدة أخرى. والوعد الأهم الذي تغذيه الأحداث منذ اللقطات الأولى في الحلقة الأولى هو الصدام الأكبر بين الأحياء والأموات. فبينما يتصارع الأحياء على العرش الحديدي وأحقية الوصول إليه، كانت بداية معظم الحلقات أو نهايتها تقدم لنا السائرين البيض في خلفية العالم يتحركون بثبات مثل إعصار بعيد لكنه قادم بصورة حتمية ليكتسح كل شيء.
نجح المسلسل عبر سنوات طويلة في تكوين صورتنا الذهنية عن هذا الخطر. لا يقتصر الأمر عند طاقة شر تتحرك كي تصيب العالم أو صراع قادم بين الطيبين والأشرار، بل صراع بين الحياة والموت، أو للدقة صراع بين الوجود والعدم. والصدام القادم سوف يحدد شكل الأرض؛ إما أن ينتصر البشر للوجود وإما أن ينتصر ملك الليل للفناء. وهذه الصورة الذهنية تخلق تلقائيا طموحا لدى المشاهد بأن الوجود بعد الصدام سيكون صورة مختلفة تماما عما كان قبله، وانتظارا لشكل جديد ستكون عليه الأرض وصراعاتها بعد أن ينتصر الأحياء على الموتى. وعندما جاءت اللحظة الأهم قدمها المسلسل كمعركة أخرى ينتصر فيها البشر على الموت الشرير ثم يستأنفون حياتهم وصراعهم على العرش الحديدي. وكأن معركة وينترفيل هي معركة أخرى لن تؤثر كثيرا على مجريات الأمور.
القيمة الحقيقية التي بلغها "صراع العروش" (Game of Thrones) كانت بسبب قدرته على خلق ألوان جديدة من خير والشر تتجاوز الأبيض والأسود، وكانت في قدرته على كسر توقعات المشاهد بنجاح دائم وبصياغة متقنة. وصحيح أن جودة الكتابة تتراجع منذ نهاية الموسم الخامس، إلا أن اللحظة التي قتلت فيها آريا ملك الليل هي درجة جديدة من التراجع، ودرجة جديدة من سوء التمهيد، ودرجة جديدة من إحباط المشاهد الذي ينتظر الحكاية لا الصورة. والآن يفترض صُنّاع المسلسل أن ذلك المشاهد يجلس منتظرا أن يرى صراع دينيريس أم التنانين ضد سيرسي أو جون سنو الوريث الشرعي للعرش. بالفعل، في أقل من دقيقة واحدة قتلت آريا ملك الليل، وفي أقل من دقيقة واحدة بلغ الإحباط بملايين المشاهدين درجة جديدة، لأن الملحمة التي تماهوا معها لسنوات قد أصابها التخريب!