من "Before Sunrise" إلى "Before Midnight".. هذا ما يفعله الزمان بالحب

يهوى المخرج ريتشارد لانكلاتر التلاعب بالزمن في أفلامه. والسينما فن، كالموسيقى، يتدفق عبر الزمن. ففي كل الأفلام ذات البناء الكلاسيكي، نشاهد عبر عدد مُعيّن من الدقائق حيوات مجموعة من الشخصيات، تتشابك وتتعقد وتتغير وتتطور في زمن حياتها الشخصي. لكن لانكلاتر يأخذ تلك الدقائق ويمدها لتصير، كما في ثلاثية Before، سنوات بأكملها.
تتقاطع طرق جيسي وسيلين في قطار بفيينا في فيلم "قبل الشروق"، وكما نرى في كثير من الأفلام الرومانسية، يقعان في الحب ثم يفترقان. لكن المختلف هنا أن لانكلاتر، وعبر 18 عامًا، سيبقى يتتبع آثارهما. يستعين لانكلاتر بنفس الممثليّن، إيثان هوك وجولي ديلبي، ليلعبا دور جيسي وسيلين. ومثلما يحدث عندما تتفقد صورك الشخصية عبر السنين، نرى في الأفلام الثلاثة البصمات التي تركها مرور الوقت على وجه وجسد جيسي/هوك وسيلين/ديلبي؛ لكن لانكلاتر يتجه في أفلامه لتصوير الأشياء التي من الصعب على الصور التقاطها، فيرصد عبر بطليه ما يفعله الزمان بنا، وما يطرأ على وعينا، ومفاهيمنا عن الحياة والحب من تغيّرات بمرور الوقت، وذلك عبر ثلاثة مراحل مختلفة، الشباب، والنضج، ومنتصف العُمر.
يحاول لانكلاتر أن يعزف على الإيقاع الشاعري لتدفق الزمن في أفلامه. هنالك أولًا المرور العابر، البسيط، الروتيني والممل أحيانًا للوقت، متمثلًا في مرور الساعات التي تشكل أيامنا؛ ثم المرور الطويل الأكثر درامية للزمن، الذي يستغرق أعوامًا وأعوام، يشكل عبرها حياتنا، وينحت مساراتها في طرقٍ بعينها. نجد كلا النوعين في ثلاثية Before، فتجري أحداث كل فيلم على حدة، على مدار يوم أو بعض يوم، وتروي الأفلام الثلاثة في مجموعها حياة شخصين خلال الجزء الأكبر من رحلتهما في مرحلة النضج.
منذ اللحظة الأولى، نعرف أن الفيلم، ومن بعده الثلاثية كاملة، سيدور حول ذلك الشيء البسيط أحيانًا، والمعقد لدرجة يصعب وصفها أحيانًا أخرى، الذي تقوم على أساسه علاقات، وتنهار أخرى: إنه القدرة على التواصل. تبتعد سيلين عن زوج أربعيني في القطار، يعلو صوتهما بالصراخ، ويبدو أنهما فقدا القدرة على ذلك التواصل منذ زمن بعيد. وعندما تجلس مع جيسي، تعلق عليهما قائلة: "هل سمعت هذه المعلومة: عندما يكبر الأزواج يفقدون القدرة على سماع بعضهما البعض. يفقد الرجال قدرتهم على سماع الأصوات ذات التردد العالي، وتفقد النساء قدرتهن على سماع الأصوات ذات التردد المنخفض، وفي النهاية، يلغي الصوتين بعضهما البعض أو شيء من هذا القبيل". كلماتها هنا تمثل تنويعًا على كلمات ماريان، بطلة فيلم "مشاهد من زواج"، الذي تأثر به لانكلاتر، عندما قالت: " عندما يصعب على الزوجين التواصل، يبدو الأمر كما لو أنهما يتحدثان عبر أسلاك تلفون مُعطلة، أو أنهما ينطلقان في الحديث كشريطين تم تسجيل الكلام عليهما مُسبقًا. "
لكن جيسي وسيلين يبدوان أبعد شيء عن أسلاك تلفون معطلة أو شرائط كاسيت تنطلق في كلام محفوظ دون سماع أحدهما الآخر؛ كلامهما يتكامل ويتدفق، كآلتين تعزفان لَحْنين غايةً في التناغم. وحتى نهاية الفيلم، وعبر الفيلمين الآخَرَيْن، سيكون ذلك الشيء الوحيد تقريبًا الذي يفعله جيسي وسيلين، الحديث. يقول لانكلاتر عن هذا: " فكرة أول فيلم في الثلاثية كانت عن شخصين يتواصلان، وكل ما حاولت أن أفعله خلاله هو التقاط ذلك الشيء غير الملموس الذي يحدث فيما بينهما عند حدوث ذلك التواصل". [1]
كشابين في بداية العشرينات، بلا خطة محددة بعد أو مسار محفور في الحياة، يحلّق حديثهما بنعومة كفراشة تطير بحرية وتحط فوق مختلف الأغصان: من الدين للفلسفة لتأملاتهما عن الحياة والعالم. لا يبدو أيًا منهما ساذجًا، كلاهما يعرف كل المسارات السيئة التي قد تسلكها الحياة، لكن هنالك إحساسا ما بالأمل يحيط بهما: ما زال الوجود بالنسبة إليهما مدى واسع مليئ بالاحتمالات، ما زالت حياتهما قصة لم تقترب نهايتها بعد. يعزز ذلك الإحساس بالرحابة والحرية الموجود في حوارهما، وفي حياتهما، نزهتهما الطويلة أثناء الكلام، فتسافر بهما أقدامهما عبر حانتين ومطعم واثنين من الكافيهات ومركب ومقبرة وحديقة ومدينة ملاهي.
كما يعزز ذلك الإحساس أيضًا أجواء الفيلم نفسها التي يغلب عليها طابع حالم: إنهما غريبين في مدينة غريبة، على بُعد أميال طويلة من البيت والعائلة والدراسة والأصدقاء وكل تفاصيل حياتهما الشخصية، يستكشفان المدينة، ومعها، يستكشفان بعضهما البعض؛ هما أيضًا يحلِّقان خارج زمانهما الشخصي، بعيدين عن الأُطر المحددة لأيامهما وحياتهما، في سياق موازي يبدو كما لو أنه وُلد داخل خيال ما، يقابلان على مدار اليوم أشخاصًا عديدة لا يقابلها المرء عادة في حياته الشخصية، من غجرية تقرأ كفيهما وتروي نتفًا مبهمة من المستقبل، وحتى شاعر صعلوك يصوغ لهما خصيصًا قصيدة.
يقول جيسي لسيلين قُرب النهاية: "أشعر كما لو أننا نسير في عالم خيالي، هذه الليلة لم يكن من المفترض أن تحدث أصلًا ." وترد عليه سيلين: "هذا غريب حقًا. أشعر كما لو أن الوقت الذي نقضيه مع بعضنا البعض من صنعنا تمامًا، وكأنني في حلمك، وأنت في حلمي". وكما يحدث لكل الأحلام، يأتي وقت الاستيقاظ لا محالة. يحل صباح اليوم التالي، ويصير عليهما الافتراق، كل سيعود مجددًا لبلده وحياته، مع وعد أن يتجدد اللقاء مرة أخرى بعد عام واحد. لكن رياح الحياة ستأتي بما لا يشتهيان.
عندما نقابل جيسي وسيلين مرة أخرى، يكونان في أوائل الثلاثينات؛ ولّت الآن أيام الشباب والحرية والوعود التي حملتها يومًا الحياة، وأخذت الطرق والمسارات التي كانت يومًا بعدد أمانيهما، تتقلص لتصير مسارات إجبارية، حددتها خيارات أخذتها نُسخًا منهما، في عمرٍ أصغر، وبات عليهما أن يُكملا السير داخل أُطرها المحدودة. جيسي الآن كاتب روائي متزوج ولديه طفل، وسيلين ناشطة بيئية مُرتبطة بمصور فوتوغرافي.
جاءت أول صفعة لآمالهما الوردية عندما لم تأت سيلين لتقابل جيسي بعد عامٍ كما اتفقا، فقبلها بيومٍ واحد، ماتت جدتها، وبدلًا من أن تكون في ذلك الوقت مغمورة بالسعادة برفقة الشاب الذي أحبت، وجدت نفسها في جنازة تبكي بحرقة، على جدتها التي توفت، وفرصة لقاء ضاعت عنها للأبد.
عندما تتقاطع طرقهما مجددًا مرة أخرى، لا يبدو أن حزنهما حيال اللقاء الضائع قد ولى تمامًا بعد؛ فبالرغم من أنهما يغلِّفان الحديث في البداية بطبقة من العادية، يتبادلان عبرها آخر تطورات حياتهما كأي شخصين عاديين لم يريا بعضهما البعض منذ فترة طويلة، إلا أننا نلمس تحت تلك الطبقة خيبة أمل عميقة، لن يلبث أن يعريها تدفق الحوار الذي سيُذيب ما تراكم من حواجز.
نشعر بعدها أن جيسي وسيلين يسيطر عليهما سخط عميق تجاه الحياة، لخيانتها آمالهما السابقة، يوازيه سخط مشابه على ذواتهما الشابة بسبب سذاجة توقعاتهما، فيتساءل جيسي بحسرة، لماذا لم يتبادلا هو وسيلين أرقام التليفونات أو العناوين أو أي شيء يُسهل عليهما التواصل، وترد سيلين عليه: "لأننا كنا صغارًا وحمقى. ونحن أصغر سنًا، نعتقد أننا سننجح في التواصل مع الكثير من الأشخاص، لكن بعدها حين نكبر، نكتشف أن ذلك لا يحدث سوى مرات قليلة فقط."
بات ذلك اليوم الذي قضياه سويًا في فيينا منذ تسع سنوات بمثابة زمانٍ سحري، خارج سياق حياتهما الحالية المخيِّبة للأمل، ويظل يبعث على سؤال: "ماذا لو؟" المؤلم، ماذا لو لم تتوفَ جدة سيلين وتقابلا فعلًا بعدها بعام؟ ماذا لو تقاطعت طرقهما مرة أخرى قبل أن يختارا مسارات محددة في الحياة؟ فحتى في طريقه لعُرسه، ظل جيسي يفكر في سيلين ويطرح سؤال "ماذا لو".
الآن، وبعد ثمانين دقيقة صوّرها الفيلم في الزمان الحي لحوارهما سويًا، يقرر جيسي أن يتوقف عن طرح الأسئلة والبحث عن إجابات افتراضية، يقرر أن يعود عن مساره السابق الذي سلكه عندما اقترن بامرأة لا يحبها، ويعيد العقارب إلى الوراء لذلك اليوم السحري، يقرر بكامل إرادته أن يُفوّت الطائرة التي ستأخذه لحياة بات يمقتها، ويبقى هنا برفقة المرأة التي أحب، ليشيد لنفسه حياة جديدة. فهل سينجح الأمر؟ [2]
إذا كان "قبل الشروق" يناقش الاحتمالات اللامتناهية التي قد تحملها لنا الحياة، و"قبل الغروب" يتناول ماذا يحدث عندما يتم تحديدنا داخل مسارٍ لم نرده، فإن "قبل منتصف الليل" يصور لنا الحياة وقد صارت إلى ما تمنينا؛ [3]ففي الفيلم الأخير من الثلاثية، يعيش جيسي وسيلين سويًا في باريس وينجبا طفلتين، ما يجعلنا نتساءل، كيف يا ترى بدت أحلامهما وقد تحولت إلى حقيقة؟
على عكس بقية أفلام الثلاثية، لا يبدأ "قبل الغروب" بجيسي وسيلين، بل بجيسي وابنه هانك. نراهما في المطار حيث يودع جيسي فتاه الصغير قبل أن يركب وحده الطائرة عائدًا للولايات المتحدة حيث يعيش مع والدته. فبخلاف ما يحدث في أحلامنا التي يتم فيها كل شيء على أكمل وجه دون كثير من الصعاب، اضطر جيسي أن يتخلى عن الحياة مع ابنه حتى يتسنى له العيش مع سيلين في باريس، ولم يمر ذلك بالطبع دون أن يترك أثرًا سلبيًا على علاقته بها، كما سترى في باقي أحداث الفيلم.
يخرج جيسي من المطار ويركب السيارة حيث سيلين والفتاتين، ويبدآن في الحديث. تتحول حواراتهما من تلك الحالة الفلسفية الحالمة التي سيطرت على الجزأين الأولين، إلى حوارات عادية يجريها أي زوجين عاديين، فتتحدث سيلين عن عمل جديد عُرض عليها، ويتحدث جيسي حول إمكانية الانتقال للعيش في أميركا حتى يكون أقرب لابنه. نفس تلك الواقعية تنسحب على كل شيء آخر في الفيلم، الأماكن التي تجري فيها أغلب الحوارات ليست شوارع أوروبية بديعة ولا مراكب تسير في قلب النهر كما حدث في الجزأين الأولين، بل في السيارة أثناء ذهابهما لبيت الأصدقاء، وفي غرفة فندق حجزاها لهما أولئك الأصدقاء حتى يتسنى لهما قضاء ليلة بعيدًا عن الفتاتين.
ما حدث في الجزء الثالث وجعل له هذا الطابع الخاص المختلف عن الجزأين الأولين، أن جيسي وسيلين الآن، عوّضا عن حياة كل منهما في سياق منفصل عن الآخر، واللقاء بعيدًا عن تلك السياقات في مساحة تغلب عليها أجواء حالمة، أنهما الآن قد دمجا تلك السياقات، وصارا يعيشان معًا نفس الحياة بكل ما يشوبها من إحباطات ومشاكل تنعكس بالضرورة عليهما. فما يشعل الجدال في غرفة الفندق حيث يقضيان قرابة النصف ساعة في حوار محتدم، لم يكن يتعلق بما بينهما من مشاعر، على قدر تعلقه بتفاصيل الحياة ومسئولياتها وأولوياتهما المختلفة فيها، والتي كثيرًا ما تتضارب. وفي هذا المشهد، يكف جيسي وسيلين عن كونهما صورة لحبيبين عاشقين، ويصيرا زوجين في منتصف العمر تشوب علاقتهما خلافات ومشاكل، تمامًا مثل الزوجين الذي رأتهما سيلين في بداية "قبل الشروق" حين تركت مكانها وجلست قبالة جيسي.
هل يعني هذا أن الرومانسية لا مكان لها في العلاقات الناضجة بعد مرور سنوات طويلة؟ بالرغم من كون معظم الفيلم تقريبًا يدور حول خلافات جيسي وسيلين، فهذا ليس الانطباع الذي أراد لانكلاتر أن يتركه لدى المشاهدين: " دائمًا ما يوجد لدى الأزواج الذين يقضون سنوات طويلة مع بعضهم البعض نوع من المشاكل لا يتم حله بشكل تام أبدًا. ولهذا، فمن آن لآخر، تحدث خلافات، لتجد نفسك بحاجة لإعادة ضبط العلاقة ــ لكن على الأقل، هذا يعني أنك لا زلت تحاول. بالنسبة لي، كان هذا أكثر شيء باعث على التفاؤل في ذلك المشهد، كان رد فعل الجماهير: "أوه يا إلهي، إنهما يتشاجران، هل هذا يعني أن نهاية العلاقة باتت وشيكة؟" لا! لا زالت الرومانسية موجودة، فهما يحاولان الانخراط وحل المشاكل، في حالة الكثير من الأزواج، واحد منهما يعلو صوته بالشجار، والآخر يقرأ الجريدة، ولا يحاول حتى أن يسمع الآخر. لكن جيسي وسيلين ما زالا يكترثان لأمر بعضهما البعض."[4]
إذا كان فيلم "قبل الغروب" يتسم بابتعاد طابعه عن الفيلمين السابقين، فهذا لأن سياقه أكثر إغراقًا في واقع الحياة والعلاقات؛ ففي الواقع، لا يوجد شيء يتسم بالكمال أبدًا، كل تجاربنا في الحياة وكل الأشخاص الذين سنعرفهم وكل أمانينا حين تتحقق، يشوبها الكثير من النواقص التي تبتعد بها عن مثالية الأحلام، فتمامًا مثلما قال جيسي لسيلين: "هذه هي الحياة الواقعية، ليست مثالية، لكنها حقيقية"، ونحن لسنا أمامنا سوى أن نتقبلها تمامًا كما هي، أو نضيع عمرًا بأكمله في مطاردة أوهام وسراب.