شعار قسم ميدان

"The Godfather".. أن تربح العالم وتخسر نفسك

ميدان - ذا جود فازر

من وراء طبقات العتمة المتكاثفة، وبعد دقائق مطولة نسمع فيها شكوى الإيطالي بوناسيرا إليه، يظهر لنا أخيرا وجه فيتو كورليوني. عيناه مختبئتان وراء الظلال، فلا نرى منهما سوى بقعتين من السواد، النافذة إلى روحه موصدة إذن. لكن من وقفته الصلبة، ونغمة صوته الآمرة والهادئة في آن معا، ومن توسلات بوناسيرا إليه، نستطيع أن نكوّن صورة عنه، صورة مجردة من التفاصيل لكنها تحمل فحوى كيانه، فيتو كورليوني يمكن اختصاره داخل اللقب الذي أمر بوناسيرا أن يناديه به، كما يفعل الجميع؛ إنه الأب الروحي. 

    

في مقابلة معه عن الفيلم، قال آل باتشينو عن المشهد الافتتاحي: "نرى هنا رجلا ذا مشكلة مأساوية، يذهب للأب الروحي لأنه الوحيد الذي سيساعده. أي شخص منّا يراوده هذا الإحساس من آن لآخر، يقول في قرارة نفسه: "كم أتمنى لو أن هنالك شخصا أستطيع الذهاب إليه لأحصل على العدالة، ليعتني بي، ليساعدني"، إنه حلم يراود الجميع أن يمتلك ذلك الأب". دون كورليوني إذن هو صورة مجسدة لتلك الرغبة الدفينة داخلنا في أن نجد من يُمثّل لنا الرعاية والأمان، ما جعله، وفقا لباتشينو، أحد أهم أسباب النجاح الجارف والتعلق الكبير للجماهير بالفيلم منذ لحظة صدوره وإلى الآن.[1] 

   

الأسباب وراء شهرة ذلك الفيلم وجزئيه كثيرة ومتعددة، وإن كانت شخصية دون كورليوني التي تستطيع الجمع ما بين اللين والعنف، والرأفة والقسوة، والثبات على مجموعة محددة من المبادئ يوجد فيها ما هو شريف جنبا إلى جنب مع ما هو دموي، واحدا من أهمها، فإن هنالك شخصية أخرى كان في فشلها التراجيدي في الجمع بين كل تلك التناقضات روح الفيلم والمحرك الأساسي لتحوّلاته؛ إنها شخصية مايكل، الابن الأصغر لعائلة كورليوني.

  

undefined

  

"إنها عائلتي يا كاي، ليس أنا"

في مقابلاته الخاصة بـ "الأب الروحي"، كثيرا ما قارن المخرج فرانسس فورد كوبولا شخصية مايكل كورليوني بأبطال التراجيديات القديمة. فينحدر أبطال تلك التراجيديات، مثل مايكل، من عائلات عظيمة، ويحملون العديد من الخصال النبيلة التي تجعل سائر الشخصيات تنظر إليهم بحب وإعجاب، وسط توقعات من الكل أن الغد سيحمل لهم مستقبلا مشرقا، وهو ما ينطبق على مايكل أيضا. لكن في القلب من تلك الشخصيات دائما ما يكمن عيب ما أو خطأ يجعل مصائرهم تنجرف بعنف عن المتوقع وتأخذ منحى مظلما، فيأتي دمارهم في النهاية على أياديهم.[2]

  

أثناء جلوس الدون كورليوني في مكتبه ليتلقى طلبات الأهل والأصدقاء، كان مايكل حينئذ يجلس في الحديقة مع كاي بعيدا عن الجميع، ميّزته بزته العسكرية وحبيبته الأميركية الشقراء التي لا تحمل ملامح إيطالية عن بقية الحضور. في ذلك المشهد، مشهد العُرس، يؤسس كوبولا لعالم عائلة كورليوني والعلاقات التي تجمع بين أفراده، ونرى فيه مايكل يُؤْثِر الجلوس في ركن قصي ولا يبادر الحديث مع أحد؛ وبعيدا عنه في زوايا البيت وأركان الحديقة، يحوم رجال ببزات سوداء يأتي على رأسهم أبوه وإخوته، يتهامسون ويتناقشون حيال أمور تنتمي لعالم المافيا الذي اختار طواعية ألا ينتمي إليه.

    undefined

  

لكن ذلك العالم يجد رغما عنه طريقا لأحاديثه مع حبيبته الفضولية كاي، فيسرد لها أثناء إجابته عن أسئلتها تفاصيل أحد عروض أبيه التي "لا يمكن رفضها"؛ وأمام نظرتها المرتاعة، تبرأ من كل هذا: "إنها عائلتي يا كاي، ليس أنا". فأمام عمل عائلته المصبوغ بالدماء، يُؤْثِر مايكل أن يأخذ الخيار الأخلاقي ويشق لنفسه طريقا آخر وينأى بحياته عنهم، فيدخل الجامعة على عكس إخوته، ويتطوع في الجيش أثناء الحرب. في كل اختياراته تلك، للمرأة التي أحب وللمستقبل الذي فضّل، نلمس صراعا خفيا في نفس مايكل بين الهوية المفروضة عليه كابن لعائلة كورليوني الإيطالية ذات الأعمال الإجرامية من ناحية، وبين الهوية الأميركية التي تُؤمن بالعمل الشريف والنزاهة كوسيلة للارتقاء.

  

يقول آل باتشينو عن هذا: "لا أعتقد أن مايكل شعر قط بالراحة داخل ذاته، كان عليه أن يتأقلم مع أميركا الجديدة وقيمها للدرجة التي جعلته يتطوع في الجيش ويصبح بطل حرب. إنه غريب بشكل تام عن عائلته، حتى ليبدو كما لو أنه يسخر منهم أحيانا".[3]

  

بعد مشاهد العرس التأسيسية، ولمدة طويلة نسبيا، لا نرى مايكل تقريبا؛ فكوبولا يأخذنا بعدها لكواليس عالم عائلة كورليوني التي تحكمها الجريمة، تلك التي نأى مايكل بنفسه عنها. لكننا نستطيع أن نتخيل حياته في تلك الفترة بسهولة، فهي لن تختلف كثيرا عن حياة أي شاب أميركي في الأربعينيات بطبيعة الحال، حياة هادئة ونمطية لا يوجد فيها تقريبا ما هو خارج عن المألوف. في المرة التالية التي نرى فيها مايكل، نكون في ليلة الكريسماس؛ وكأي شاب أميركي تقليدي، يقضي مايكل تلك الليلة مع كاي في السينما، حين يتناهى إليه أن أباه قد تلقى عدّة رصاصات في محاولة لاغتياله. تموت الابتسامة من على شفتيه؛ كانت تلك إحدى آخر المرات التي سنراه فيها يبتسم، ففي تلك اللحظة، بدأ عالمه القديم البريء في التداعي، وصار لا مفر من الانخراط في عالم الجريمة والدماء.

     

    

"أنا معك الآن"

عندما يذهب مايكل للمشفى ليطمئن على والده، نرى في مشهد لقائهما إيذانا للمرة الأولى بما سيحدث من تبادلهما الأدوار. فالدون الذي كان يهابه الجميع الآن مريض وعاجز، أسير للفراش، هش تماما إزاء أي محاولة لإيذائه، ومايكل، ابنه الأصغر، هو من سيقوم بحمايته وإنقاذ حياته التي كانت ستنتهي في تلك الليلة لولاه. يميل مايكل على رأس والده ويهمس له: "ارتح يا أبي، سأعتني بك الآن، أنا معك الآن"، فيقابله وجه الدون المتغضن بابتسامة واسعة، فقد فهم تماما ما وراء كلماته. مايكل منذ تلك اللحظة لن يكون مع والده فقط أثناء مرضه، بل معه في كل شيء، بما في ذلك حياة الجريمة التي طالما ترفع عنها؛ فمن أجل الدون، سيقوم بتلطيخ يده بالدماء.[4]

  

في الاجتماع العائلي التالي حين يتناقش الإخوة وبقية أعضاء المافيا فيما سيفعلون حيال محاولة الاغتيال، نجد مايكل كعادته جالسا على الهامش، يتأمل المشهد من بعيد بينما تتعالى أصوات سوني وتوم هايجن في الجدال. لكنهما عندما يتخذان قرار الانتظار وعدم الانتقام، يدخل في الحوار. تنتقل الكاميرا إليه، تنزل لمستواه بينما يجلس ومن حوله وقوف، يجلس بطريقة تُذكّرنا كثيرا بالدون كورليوني، وتستدعي إلى الذهن المشهد الأول والدون في مكتبه والكل يستعين به، في تكوين بصري يؤذن بما سيحدث في النهاية من حلول مايكل محل أبيه، ويسرد خطته التي سيقوم فيها بنفسه بقتل من حاولوا قتل أبيه. تتحرك الكاميرا ببطء على وجهه، وتنتقل اللقطة من لقطة متوسطة إلى لقطة قريبة، تهدأ الغرفة تماما ولا نسمع صوتا سوى صوته، اختار كوبولا أن يجعل تركيزه التام هنا على مايكل، ففي تلك اللحظة يبدأ مصيره في التغير للأبد. الرصاصة التي ستنطلق من مسدسه لتخترق رؤوس سولاتزو تاجر المخدرات ومساعده نقيب الشرطة لن تقتلهما فقط، بل ستقضي معهما على حياة مايكل القديمة، وتبدأ عهده الجديد الذي سيكتب سطوره العنف والدماء.

  

  

يقول الناقد جوزيف يونغ عن جريمة مايكل الأولى ثأرا لأبيه: "عند مرحلة ما، يجد البطل نفسه في تحدٍّ، وإن استطاع مواجهته يتمكّن من أن يُظهِر للجميع كونه قائدا فذا وقادرا على السيطرة. وفي اللحظة التي يتولى فيها مايكل شؤون العائلة، يغير ذاته للأبد ويعيد تعريفها، تاركا عالمه القديم ليدخل في آخر جديد". وبالفعل يحدث انتقال مايكل من عالم لآخر على المستوى المجازي والفعلي، فحتى ينأوا به عن الخطر، تقوم العائلة بتهريبه لصقلية، مسقط رأس والده، ليختبئ حتى تهدأ الأمور. هناك، ستبدأ المرحلة الأخيرة في تحول مايكل، من شاب جامعي وديع إلى قاتل دموي لا يعرف الرحمة.[5]

 

مايكل في صقلية

تُمثّل صقلية لمايكل أكثر من مجرد مكان للاختباء، إنها فرصة للارتباط بالجذور والعودة للأصل، فهنا عاش أبوه في طفولته وأجداده من قبله، وعلى اسم تلك القرية "كورليوني" سُمّيت عائلته. يمكننا أن نرى كل تلك المعاني التي يحملها هذا المكان في الطريقة التي اختار كوبولا أن يُصوّره بها، وفي العلاقة التي ستنشأ فيه بين مايكل وأبولونيا، والتي تختلف في كل شيء تقريبا عن العلاقة التي جمعت مايكل بكاي في أميركا.

  

عوضا عن الغرف المغلقة ذات الإضاءة المعتمة التي جرت فيها أحداث الفيلم في أميركا، تجري معظم مشاهد الجزء الخاص بصقلية في الهواء الطلق تحت سماء واسعة وشمس يغلف نورها المدى بنعومة. الوجوه والعيون هنا مكشوفة، لا تغلفها بقع من ظلام. فصقلية توحي ببراءة الجذور، بوقت سابق على عوالم الفساد والجريمة التي ترمز لهما أميركا. هنا كل شيء عتيق الطراز، البيوت والملابس والعلاقات بين الرجال والنساء، كل شيء يتبع تقاليد قديمة لم تصل إليها يد التغيير بعد، لذلك فصقلية هي المكان الأمثل ليتشرب مايكل إرثه القديم التقليدي بخيره وشره، ذلك الذي طالما تهّرب في أميركا التي كان يكن لها انتماء يفوق انتماءه لتاريخه وعائلته.

     undefined

  

تنسحب روح المكان ورمزيته على العلاقة التي تنشأ بين مايكل وأبولونيا، والتي تتبع في كل مراحلها التقاليد والطرق القديمة. فمايكل يقع في حبها من نظرة واحدة، ويخطبها فورا بعدها من والدها، ويزورها على مرأى من أهلها. كل ذلك يقف على طرف النقيض من علاقة مايكل بكاي، التي غلفتها الثقافة الأميركية، يمكننا حتى أن ننظر إلى كلتا المرأتين وعلاقة مايكل بهما كتمثيل لثقافتيهما المختلفة: أبولونيا الفتاة السمراء، والقروية الخاضعة التي تقبل الزواج بشخص لا تعرف عنه شيئا وتتقبله كما هو، وكاي الأميركية الشقراء، الثرثارة والفضولية ذات الشخصية القوية، التي لن تشعر بالسعادة في الاقتران بشخص يقوم بأعمال إجرامية. ومن ثم يصبح انتقال مايكل من الارتباط بكاي للزواج بأبولونيا رمزا لنكوصه عن الثقافة الأميركية الحديثة وتشربه ثقافته التقليدية. ليس هذا فقط، بل زواج مايكل بأبولونيا هو الخيار الأكثر براغماتية، فسيكون من الأفضل له كزعيم مستقبلي للمافيا أن يقترن بامرأة تقليدية، تسعى لحبه ورضاه في كل الظروف والأحوال، ولن تتدخل في شؤون عمله أو تحاسبه كما ستفعل أي فتاة أميركية.

  

بالإضافة إلى هذا، تُمثّل فترة إقامة مايكل في صقلية نوعا من النقاهة، هنا كل شيء بريء وهادئ، بعيد تماما عن عالم الجريمة في أميركا بكل ما فيه من حيل ومكائد قاتلة؛ إنه حلم ناعم بعيد عن الواقع وقبحه. لكن ككل الأحلام يكُتب له الانقضاء سريعا، وينتهي بأفظع طريقة ممكنة؛ تموت عروس مايكل الجميلة في انفجار كان من المفترض أن يقضي عليه هو، عالم العائلة الإجرامي لا يلبث أن يجد طريقه لحياة مايكل البريئة في صقلية ويدمرها. الآن، بات عليه العودة مرة أخرى، ها قد نذرته دماء زوجته وشقيقه لطريق الانتقام الذي لا رجعة منه. حدث التحول التام، مات مايكل الشاب البريء، وولد مايكل الأب الروحي.[6]

    undefined

      

الأب الروحي الجديد

يوحي لقب الأب بشكل مجرد بالعطف والحماية ومعهما أيضا بالسلطة والسيطرة، الأب يشعر بحنو ناحية أبنائه، ويحيطهم برعايته، وقد يضطره شعوره بالمسؤولية تجاههم أحيانا لأن يقسو عليهم، وإن هدد أحد من خارج العائلة أمانهم فهو قادر على تحويل تلك القسوة إلى عنف لا يكبحه شيء.

  

جسّد فيتو كورليوني كل تلك المعاني ببراعة، سواء في علاقته مع أبنائه الفعليين أو أبنائه الروحيين، وقد كان قادرا كما أردفنا على الجمع بين التناقضات الكثيرة التي ينطوي عليها دوره. أما ابنه مايكل كورليوني، فخطؤه التراجيدي يكمن في عجزه عن العيش في توازن؛ عندما اختار ألا يكون له دخل في شؤون العائلة، انفصل عنها تماما وآثر أن يعيش حياته كمواطن أميركي شريف، وعندما انخرط في شؤون العائلة وصار بعد وفاة أبيه الأب الروحي الجديد، أصبح ملاك الموت نفسه الذي جاء ليكتب الهلاك على كل من عاداه.

  

لسنا في حاجة إلى مشاهدة الجزء الثاني من الفيلم لنتنبأ بالفشل الذي سيحيق بمايكل والخراب الروحي الذي ستجره عليه شهوة السلطة. فإرهاصات ذلك تظهر كاملة في نهاية الجزء الأول، تحديدا بعد موت فيتو كورليوني وحلول مايكل محله.        

    undefined

  

في مشهد صار واحدا من أشهر المشاهد في تاريخ السينما، اختار كوبولا أن يقطع قطعا متوازيا بين تعميد مايكل أبا روحيا لابن أخته، وقتله لأرباب العائلات الخمسة المعادية له، الذي تلاه بوقت قصير قتله لزوج أخته، والد الطفل الذي كان من المفروض أن يعتني به ويحميه. في ذلك المشهد، يعلن كوبولا ببراعة عن افتقاد مايكل لما ميّز أباه من قدرة على الرحمة عندما لا يكون هنالك حاجة إلى إراقة الدماء، واحترام الصلات العائلية التي تحرّم بشكل تام على المرء أن يقتل أحد أفراد الأسرة.

  

هنا، يصبح مايكل أبا روحيا بالاسم فقط لابن أخته، كما يصبح أبا روحيا بالاسم فقط لعائلة كورليوني؛ فعلى العكس من فيتو الذي أسس سلطته عن طريق بعث مزيج من الحب والاحترام والرهبة في قلوب الجميع، وظل محافظا على قيم العائلة حتى الرمق الأخير، أتى حكم مايكل بالرهبة والرهبة فقط، بلا احترام لأي شخص أو قيمة أو معنى، وهو ما سيجني ثماره السامة كما سنرى في الجزء الثاني من "الأب الروحي"، حيث سنشاهد الرحلة الطويلة والمؤلمة لتفسخ عائلة كورليوني وكل ما حارب فيتو من أجله وقضى عمرا في تشييده على يد مايكل، الأب الروحي الجديد.

المصدر : الجزيرة