شعار قسم ميدان

بعد دخول ديزني وآبل.. كيف ستتأثر صناعة الأفلام والمسلسلات؟

ميدان - بعد دخول "ديزني" و"آبل" إلى الساحة.. كيف ستؤثر منصات البث الإلكتروني على صناعة السينما والمسلسلات؟

في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، بدأت حرب حقيقية في عالم صناعة السينما والتلفاز، حرب ستكون ضارية، وستغيّر أغلب الظن ملامح الصناعة لسنوات، إنها حرب منصات البث الإلكتروني (Streaming Services). ففي بداية الشهر، أطلقت "آبل" منصة البث الخاصة بها "آبل بلس" في أكثر من 100 دولة حول العالم. وفي منتصفه، بدأت "ديزني" البث على منصتها "ديزني بلس"، لتحظى بـأكثر من 10 ملايين مشترك في يوم واحد[1]. وفي 2020، ستحذو شبكتا "إتش بي أو" (HBO) و"إن بي سي" (NBC) حذوهما. لم يعد البث الإلكتروني ساحة تحتكرها "نتفليكس" وحدها، عما قريب سيمتلئ المضمار وتشتعل المنافسة. [2]

  

يشغل السؤال نفسه الكثيرين الآن: مَن سيفوز في الحرب ويربح معها مليارات الدولارات؟ يبقى هذا السؤال على ما به من أهمية مجهول الإجابة. مَن يعرف؟ فربما تفوز "آبل" في هذه المساحة مثلما اكتسحت مضمار صناعات التقنية، وربما تمد "ديزني" سيطرتها من عالم السينما وتسيطر أيضا على منصات البث، وربما يحدث المستحيل وتبقى "نتفليكس" على صدارتها. كل هذا ممكن، لكن الأكيد أن صناعة السينما التي نعرفها سيطرأ عليها تغيرات جذرية. وهنا، يبقى السؤال: هل سيؤدي ذلك التغيير إلى موجة فنية حقيقية تتاح فيها فرص أكبر لأصوات إبداعية جديدة؟ أم أن العكس تماما هو ما سوف يحدث؟

  

الكثير من المحتوى.. الكثير من الفرص؟

undefined

  

للوهلة الأولى، سيبدو ذلك الفيضان من منصات البث فرصة رائعة لصُنّاع السينما المبدعين في بحثهم عن مساحات داعمة. فكل تلك المنصات ستحتاج إلى كمٍّ مهول من المحتوى كي تملأ مكتباتها الإلكترونية. صحيح أنها تتوجّه أول ما تتوجّه عادة إلى صناعة أو شراء محتوى جماهيري، إلا أن ذلك لم يُلغِ كلية حاجتها إلى المحتوى الفني.

   

عن هذا يقول السيناريست محمد المصري في حواره مع "ميدان": "اهتمت "نتفليكس" باستقطاب مخرجين كبار ومنحتهم مساحة استثنائية، وربما مُطلقة، من الحرية لم تكن لتتاح لهم أبدا في التعامل مع أي أستوديو، ما أعطى فرصة جيدة جدا لهم ليُنفّذوا مشاريعهم برؤيتهم الكاملة، سواء كانت تلك المشاريع أفلاما أو مسلسلات. ديفيد فنشر على سبيل المثال لم يصنع أي عمل ارتبط باسمه في السنوات الخمس الأخيرة، أما في "نتفليكس"، فأُتيحت له الفرصة أن يعمل على مشروع يخصّه مثل "مايندهنتر" (MindHunter)، ولو أراد أن يصنع فيلما فستتحمّس "نتفليكس" لإنتاجه.

   

أسماء أخرى على غرار نواه بومباك والأخوين كوين وألفونسو كوارون في روما وألكسجارلاند في "إبادة" (Annihilation) وستيفن سودربيرج في فيلمه الأخير "لوندرومات" (The Laundromat) وجدوا في "نتفليكس" فرصة عظيمة، ما خلق مساحة واسعة يتحرك فيها هؤلاء، وصولا بالطبع إلى سكورسيزي". ويستطرد: "لن يخلق هذا "طفرة" بالضرورة أو "موجة سينمائية جديدة"، فلم يظهر لهذه الأمور أثر حتى الآن. لكن المهم بالنسبة إليّ هو كون تلك المنصات تُعطي مساحة لمخرجين كبار ليتحركوا فيها بحرية وتوفر لهم إنتاجا جيدا لأعمالهم في ظل تفضيل الأستوديوهات الكبيرة للمساحات الآمنة والابتعاد عن المخاطرة".

   undefined

  

يشارك أحمد أبو الفضل، المخرج السينمائي، محمد المصري رأيه السابق في تشكّكه من إمكانية خلق المنصات لطفرة ما في السينما، فيقول في حواره معنا في "ميدان": "على الرغم من سرعة التطور من الناحية التقنية، فإنه يحتاج إلى وقت حتى يتغلغل في حياتنا، وتكتمل بالتالي دورة التفاعل مع الجمهور ويبدأ تأثيره في شكل المنتجات الفنية الجديدة". لكنه على الجانب الآخر يشعر بقدر من التفاؤل حيال مستقبل السينما والتلفاز في تلك المنصات: "ربما في المستقبل، بعد تحقق تلك المنصات بشكل أكبر واستقرارها، ستسمح لنفسها بخوض مغامرات إنتاجية. حينها قد نرى مساحات جديدة تستوعب بداخلها قدرا من التجريب والجرأة. فعلى سبيل المثال، لم تكن الحلقة التفاعلية من "بلاك ميرور" أن تُصنَع لولا تحقق المسلسل بشكل ما، ما أعطى صُنّاعه الأمان الكافي الذي يُشجّعهم على التجريب، فنجاح الحلقة في تلك الحالة سيكون شيئا عظيما، وفشلها لن تكون عواقبه وخيمة، فالمسلسل يستند إلى رصيد سيجعل من تلك التجربة حال فشلها مجرد هفوة".

  

أما كريس مور، مخرج فيلم "مانشستر على البحر" (Manchester By The Sea) الذي موّلته منصة "أمازون"، فيشعر بقدر أقل من التفاؤل: "ما زالت هنالك مساحة للمحتوى يحاول الجميع أن يملأها، لكن، عند نقطة ما، ستكتفي كل منصة بما لديها وتلتفت فقط للأفلام الضخمة التي ستضمن لها أرباحا". بالنسبة لمور، لا يعدو ما حدث في الأعوام القليلة الماضية من التفات منصة "نتفليكس"، و"أمازون" على استحياء، إلى المحتوى الفني كونه ظاهرة مؤقتة سرعان ما ستتلاشى، ولن يتبعها أو يحل محلها رغبة في التجريب. فاليوم، صار من النادر جدا أن تصنع فيلما ذا مستوى فني راقٍ وتجني من ورائه أرباحا، وبالنسبة لمنصات هدفها الأساسي هو الربح، ستبدو الأفلام الفنية أغلب الظن صفقة سيئة.[3]

 

يقول مور: "عندما تبدأ في بيع فيلمك لأحد الأستوديوهات أو تجمع المال بشكل مستقل لتمويله، تحاول أن تروّج له على أنه فرصة لجني الأرباح بأن تقنع من أمامك أن خبرتك في هذا المجال ستضمن له أن أمواله ستعود إليه مرة أخرى. وهنا تكمن الأزمة الحقيقية. لم يعد ذلك مقنعا البتة الآن".[4] فاليوم، صار هنالك انشقاق حقيقي بين القيمة المادية والقيمة الفنية في السينما؛ ولم يعد حصول فيلم ما على تقييم نقدي ممتاز أو حتى فوزه بجوائز في مهرجانات مرموقة ضامنا أن ذلك الفيلم لن يفشل فشلا ذريعا في شباك التذاكر، أو أن يجني أرباحا بالكاد ستُغطّي تكلفته الإنتاجية.

 

تقول عن هذا الناقدة آنا نيكولو: "في الماضي، استطاعت الأفلام التي تحظى بالنجاح في المهرجانات ثم تجد أستوديو كبيرا يدعمها، مثل "ليتل ميس سنشاين" (Little Miss Sunshine)، أن تضمن مكانة مرموقة وأرباحا جيدة لمشتريها. أما اليوم، فشركة عملاقة على غرار "أمازون" وجدت نفسها تتعرض لخسارة مادية كبيرة بعد أن اشترت بـ 40 مليون دولار أفلاما حظيت على تقييمات نقدية ممتازة، وعند عرضها، لم تجنِ سوى 15 مليون دولار".[5]

   

عالم جديد.. شجاع؟

undefined

  

لا تجري منصات البث الإلكتروني بطبيعتها وراء المقامرات، فالخيار الأمثل بالنسبة لها دائما هو اللعب في المساحات الآمنة ذات الأرباح المضمونة. كسرت "نتفليكس" تلك القاعدة نوعا بنهمها الإنتاجي الذي لم يخلُ من التجريب في الأعوام الأخيرة، حيث تهدف أن تملأ مكتبتها المعتمدة في الأساس على إنتاجات أستوديوهات أخرى بمحتوى أصلي. لكن ذلك لن يكون الحال مع منصة من المتوقع أن تكتسح الجميع مثل "ديزني بلس"، حيث تفيض مكتبتها بإنتاجات "ديزني" على مدار ثمانين عاما بالإضافة إلى أعمال "فوكس" و"مارفل" اللتين استحوذت عليهما مؤخرا. ومن هنا، لن يكون لـ "ديزني" أي حاجة إلى التجريب، فهي تمتلك قاعدة جماهيرية راسخة وبوصلة واضحة تماما لما سيُعجب الجمهور.[6]

   

ولن يعزّز كون تلك المنصات موجّهة لجمهور عالمي في شتى أنحاء الأرض فرصها في إنتاج محتوى فني جيد، فستتوجّه أغلب الظن إلى صناعة أعمال بسيطة بلا خصوصية ثقافية كي تُرضي جميع الأذواق، وهو ما تحدّث عنه المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناراتو قائلا: "يبحث المعظم الآن عن المتعة الآنية، أن تُلقّن له الحبكات بسرعة، يجب أن يكون كل شيء واضحا ومفهوما وسهل الترويج لجمهور عالمي، تماما مثل إعلانات كوكاكولا، يجب أن يُعجب الجميع. انعدمت فرص التجريب والاستكشاف لأن التلفاز الآن صار يتطلّب أعمالا موجّهة لجمهور عالمي ويجب أن يفهمه الكل".[7]

 

ويظهر هذا التوجّه بوضوح في إنتاجات "ديزني" السينمائية، التي لن تختلف عنها إنتاجاتها التلفزيونية أغلب الظن في شيء، أعمال بسيطة تنأى عن أي نوع من التعقيد، وتبتعد عن أي سرديات فكرية أو سياسية يمكنها أن تحرّض المشاهد على التفكير. وفي غياب الشق السياسي أهمية قصوى لـ "ديزني"، فواحدة من أولوياتها هي ضمان نجاح عالمي في شتى أنحاء الأرض دون أن تُزعج أحدا.[8] ومن هنا، فقد يرسخ بحث منصات البث الإلكتروني الدائم، وعلى رأسها "ديزني"، وراء الربح المضمون الوضع الراهن لصناعة السينما؛ عدد يكاد لا يُذكر من الأفلام تخرج عن المألوف وتحاول تقديم رؤى فنية أو فكرية جديدة، مقابل طوفان من الأعمال تدور في الأُطر المعهودة نفسها وتضمن إيرادات كبيرة.

 

وقد وصف المخرج مارتن سكورسيزي ذلك الوضع ببراعة بمقاله في النيويورك تايمز حيث كتب: "على مدار العشرين عاما الأخيرة تغيّرت صناعة السينما على كل الأصعدة، لكن التغيّر الأكثر شؤما حدث خلسة تحت غطاء الليل؛ إنه الإقصاء التدريجي والمستمر للمخاطرة". فلا يوجد أستوديو أو منتج اليوم على استعداد أن يغامر وينفق نقوده على فيلم وهو لا يعرف إذا ما كان سينجح أم لا.[9]

   

"مارتن سكورسيزي" بصحبه "روبرت دينيرو" و "أل باتشينو" أبطال فيلم "الأيرلندي" على نتفلكس (رويترز)

   

يأتي هذا في ظل وجود بديل مثالي للأستوديوهات متمثّل في سلاسل الأفلام وإعادة الإنتاج (Remake)؛ فمَن شاهد فيلما وأعجبه مرة، سيكون أكثر استعدادا أن يُنفق أمواله ويشتري تذكرة حتى يشاهده مرة أخرى في شكل مختلف، أو يتابع جزءا آخر له. ومن هنا، فلماذا قد يُخاطر المنتج ويصنع فيلما به مساحة تجريب أو نوع من الجدّة ويفشل، بينما يُمكنه أن يُعيد استثمار نجاحات سابقة تولّد أغلب الوقت نجاحات جديدة؟ وهكذا، نجد أن إقصاء المخاطرة الذي تحدّث عنه سكورسيزي قد أدّى إلى صناعة سينمائية تلتف حول نفسها في دائرة مغلقة من الأفكار والثيمات تستهلكها المرة تلو الأخرى. ويبدو أن منصات البث الإلكتروني، و"ديزني" بالأخص، سيكون لها توجّه مُشابه.

 

فالأعمال "الجديدة" التي تفتتح بها "ديزني" شبكتها معظمها يدور في فلك سلاسل أفلام حققت نجاحات ساحقة، مثل مسلسل "الماندلوري" (The Mandalorian) المنبثق من أحداث "حرب النجوم" (Star Wars)، ومسلسل "واندافيجن" (WandaVision) الذي تدور أحداثه في "عالم مارفل السينمائي" (Marvel Cinematic Universe)، ومسلسل "هاي سكول ميوزيكال" المعتمد على نجاح فيلم "ديزني" الشهير الذي أنتجته عام 2006[10]، فيما وصفه الناقد ستيفن بوزوازيك بـ "لعنة الحياة الأبدية": "القوى الاقتصادية نفسها التي حوّلت صناعة السينما إلى صراع بين علامات تجارية قد تدفع منصات البث إلى صناعة نسخ جديدة من محتوى قديم أثبت نجاحه، مسلسلات حرب النجوم ومارفل على ديزني، وأعمال تنتمي لعالم دي سي كوميكس على HBO Max. وإذا لم يمت أي محتوى في عصر منصات البث، فسنجد أنفسنا نعيش لعنة الحياة الأبدية؛ عدد قليل من العلامات التجارية العملاقة تستحوذ على صناعة الثقافة على حساب ذيوع أصوات وأفكار جديدة".[11]

   

يجد الكلام السابق صدى له فيما صاغه الصحفي بين فريتز في وصفه للحالة التي تعيشها الصناعة اليوم بكتابه "الصورة الكبيرة" حيث كتب: "كأي مدير كبير في شركة سلع استهلاكية، صارت وظيفة رؤساء الإنتاج في الأستوديوهات تتلخّص في أن يرعوا مجموعة من العلامات التجارية ويُبقوا على ولاء المستهلكين لها. لكن بدلا من التغيير في شكل السلعة ومواصفاتها، يصنع رؤساء الأستوديوهات أجزاء جديدة وسلاسل أفلام ويتوسّعون في عوالم سينمائية محددة. وهو ما وصفه المنتج ستيف بلجارد قائلا: "هنالك ضغط غير مسبوق على الرؤساء التنفيذيين في الأستوديوهات أن يفكروا في الأفلام مثلما قد يفكرون في علامات تجارية".[12]

   

نجد أنفسنا هكذا نقف أمام تسليع واضح، وغير مسبوق في الخمسين عاما الأخيرة تقريبا، للسينما، حيث تُعامل الأفلام مثلما قد تُعامل أي سلعة استهلاكية أخرى، وهو ما عبّر عنه سكورسيزي أيضا في مقاله: "كل ما في سلاسل الأفلام الحديثة أُجري عليه أبحاث في السوق، واختُبر جماهيريا، ثم فُرز وعُدّل وفُرز مجدّدا ونُقّح مجددا حتى صار جاهزا للاستهلاك"، واستطرد: "صارت الكثير من الأفلام اليوم منتجات مثالية صُمّمت للاستهلاك السريع".[13] وإن كان هذا هو حال السينما، فهنالك احتمال أكبر أن يكون ذلك هو أيضا حال الأعمال التي ستُنتجها منصات البث الإلكتروني، فتلك المنصات تملك ما لا تمتلكه الأستوديوهات التقليدية: ثروة من البيانات.

    

تُوجِّه 
تُوجِّه "نتفليكس" إليك ترشيحات لمسلسلات وأفلام معينة وفقا لنشاط مشاهدتك السابق
    
هذا المسلسل يأتيكم برعاية الخوارزميات

على عكس الأستوديوهات التقليدية التي لا تمتلك سوى رقم واحد يُعبِّر بالنسبة لها عن كل شيء متمثّلا في الإيرادات، وعلى عكس القنوات التقليدية أيضا التي لا تتمكّن من معرفة أي شيء أكثر من عدد المشاهدات، تعرف منصات البث الإلكتروني وتُخزِّن كل ما يمكن معرفته عن طبيعة مشاهدتك؛ متى شاهدت ما شاهدت، وعلى أي جهاز، وفي أي ساعة في اليوم، وفي أي مكان، متى ضغطت على زر الإيقاف ومتى عدت مرة أخرى لتكمل ما بدأت، تعرف العروض التي تكملها حتى النهاية والعروض التي تتركها عند نقطة ما ولا تعود إليها مجددا، تعرف ما تبحث عنه وما تتصفحه، باختصار تعرف وتُخزِّن عنك أدنى نشاط تقوم به على تطبيقها. وبالطبع لا تُخزِّن تلك المعلومات عنك فقط، بل عن كل مستخدميها الذين يصل عددهم، في حالة "نتفليكس"، إلى أكثر من 158 مليون شخص.[14]

   

ولا يترك صاحب أي نشاط تجاري بالطبع ما يمتلكه من بيانات دون استغلال، فالأستوديوهات مثلا على مدار تاريخها الطويل استخدمت ما تمتلكه من بيانات في رسم خطط دعائية للأفلام وتكثيف الدعاية أمام الجمهور المستهدف الذي تتوقع أنه سيحب فيلما أو مسلسلا ما، وهو ما يحدث أيضا في منصات البث الإلكتروني بشكل أكثر تطورا، فـ "نتفليكس" مثلا تُوجِّه إليك ترشيحات لمسلسلات وأفلام معينة وفقا لنشاط مشاهدتك السابق.

 

لكن الجديد هنا أن منصات البث لا يقتصر استغلالها للبيانات فقط على الترويج لمسلسلات وأفلام موجودة بالفعل، بل تُغذّي تلك البيانات لخوارزميات خاصة يمكنها التنبؤ بما سيُعجب الجمهور فتنتجه؛ الخوارزميات تحدد ما نشاهد. العلاقة بين ذلك التكنيك في اختيار العروض التي ستُنتج وبين منصات البث وثيقة، فـ "بيت الورق" (House of Cards)، أول مسلسل تصنعه "نتفليكس" وتقتحم به عالم الإنتاج، وقع الاختيار عليه بتلك الطريقة.

     

  

فقبل أن تستقر "نتفليكس" على العمل الذي ستُنتجه، نظرت إلى بياناتها ووجدت النسق الآتي: الكثير من المشتركين يُقبلون على أفلام المخرج ديفيد فينشر ويكملونها من البداية إلى النهاية، وعلى صعيد آخر وجدت أن المسلسل البريطاني "بيت الورق" منتشر بشدة بين متابعيها، والأشخاص أنفسهم الذين شاهدوه يحبون مشاهدة أفلام من إخراج فينشر أو بطولة كيفن سبايسي، وبوضع تلك المعلومات جنبا إلى جنب جاء قرارها كالآتي: سيكون أول مسلسلاتها اقتباس أميركي لـ "بيت الورق" من بطولة كيفن سبيسي وإخراج ديفيد فينشر.[15] كانت النتيجة النهائية في حالة "بيت الورق" مُرضية، لكن الخوارزميات في تلك الحالة اقتصر دورها فقط على تحديد مَن سيلعب دور البطولة ومَن سيُخرج المسلسل. أما في المستقبل فيمكننا أن نرى مسلسلات وأفلام كان للخوارزميات فيها قرارات إبداعية فارقة.

   

الحديث عن دور الخوارزميات المتوقّع مستقبلا طويل وشائك، لكنّ شيئا واحدا فيه هو الأكيد: الآلة لا تُبدع شيئا جديدا، إنها تتغذّى على بيانات قديمة وتُعيد تشكيلها. ومن هنا، فاستخدامها المتوقّع في تحديد ما سيتم إنتاجه وعرضه في منصات البث يأخذنا مجددا إلى المأزق نفسه: مساحات تضيق باستمرار أمام التجريب في صناعة تضع الربح المضمون فقط نُصب أعينها. أما صُنّاع السينما الحقيقيون، أولئك الذين تُمثِّل لهم تجربة صناعة فيلم جميل شيئا لا يُقدّر بثمن، فالفرص أمامهم الآن شحيحة للغاية.

   

إن نهم تلك المنصات للمحتوى قد يؤدي إلى كثافة إنتاجية كبيرة، لكن معظم الأعمال المُنتَجة ستلعب فيها أغلب الظن معايير لا علاقة لها بالسينما
إن نهم تلك المنصات للمحتوى قد يؤدي إلى كثافة إنتاجية كبيرة، لكن معظم الأعمال المُنتَجة ستلعب فيها أغلب الظن معايير لا علاقة لها بالسينما
   

بدخول شركات البث إلى لعبة الإنتاج، نجد أنفسنا أمام نوع من الاحتكار لا يختلف كثيرا عن احتكار الأستوديوهات للصناعة السينمائية في الماضي. فحتى أواخر الأربعينيات، كان لكل أستوديو دور العرض الخاصة به، ما يعني أن كل أستوديو كان يُموِّل أفلامه ويُنتجها ثم يُوزِّعها في دُور العرض التي يمتلكها. ومن ثم، فوفقا للناقد ألكس جرانز، حتى تدخل صناعة السينما، كان عليك أن تمتلك دُور العرض الخاصة بك أولا، وهو شيء بالطبع مستحيل بالنسبة لأي صانع أفلام شاب. ومن هنا، فمثلما تقول مؤرخة السينما كارينا لونجورث، لم يكن هنالك أي أفلام مستقلة تُوزَّع حتى الخمسينيات. انتهى ذلك الاحتكار عام 1948 عندما أطلقت المحكمة العليا في الولايات المتحدة حُكما تاريخيا ببطلان ذلك النظام وأمرت بفصل ملكية الأستوديوهات عن دُور العرض.[16]

   

لكن اليوم نجد أنفسنا في صناعة سينمائية وتلفزيونية قريبة الشبه بالوضع قبل 1948؛ أستوديوهات تُموِّل وتُنتج وتُوزِّع الأفلام، ليس في السينما هذه المرة، بل في منصات البث الخاصة بها. صحيح أن نهم تلك المنصات للمحتوى قد يؤدي إلى كثافة إنتاجية كبيرة، لكن معظم الأعمال المُنتَجة ستلعب فيها أغلب الظن معايير لا علاقة لها بالسينما. وفي تلك الحالة سنجد أنفسنا أمام طوفان من محتوى لن تجد فيه القيم الفنية والفكرية مساحة حقيقية أمام أولويات المنصات التجارية، في فضاء بات يخنق فرص الإبداع والتجريب، ويلتفت باستمرار للآمن والمُستهلَك.