شعار قسم ميدان

"ماوجلي" نتفليكس.. الاقتباس الأكثر سوداوية لقصة فتى الأدغال

ميدان - ماوجلي

بالرغم من عدم مرور سوى عامين فقط على إطلاق ديزني لنسختها اللايف أكشن من فيلم "كتاب الغابة"، فإن نتفليكس قد بدأت في آخر نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام في عرض اقتباس آخر من الكتاب نفسه، هذه المرة تحت اسم "ماوجلي: أسطورة الغابة". وليس الاسم وحده هو ما تغير في هذا الاقتباس الجديد، ففيه نرى قصة ماوجلي التي ألفناها صغارا تتخذ منحى أكثر سوداوية بكثير من كل ما اعتدنا عليه.

 

يحتفظ الاقتباس بالخطوط العريضة نفسها، الرضيع الذي فُقِدَ في الغابة فقامت بتربيته عائلة من الذئاب عاش وسطها حياة مستقرة، ثم يأتي النمر شيرخان الذي يود افتراسه ليدمر ذلك الاستقرار. لكنه، أمام ذلك، يتخلص من أجواء الفكاهة والمرح التي طالما سادت في اقتباسات ماوجلي الأخرى. فبدءا من نسخة الرسوم المُتحركة التي صنعتها ديزني عام 1967، وحتى نسخة اللايف أكشن التي أنتجتها عام 2016، مرورا بكل الاقتباسات التي بينهما، نجد أن هنالك ميلا دائما لجعل عالم ماوجلي خفيفا ومُبهجا. فنرى الفتى الصغير يعيش طفولة سعيدة يجول فيها الأدغال ويخوض مغامرات طريفة مع أصدقائه من ذئاب وأفيال وقرود، تحت العيون الحارسة لرفيقيه باجيرا الفهد وبالو الدُب. أما في نسخة نتفليكس، يختلف كل هذا تماما.

 

يبدأ الاقتباس الأخير بالنمر شيرخان وهو يفترس أم ماوجلي، صحيح أن هذا لا يحدث أمامنا على الشاشة، لكننا نسمع صوت أنياب النمر تخترق جسدها ونرى دماءها تنتشر فوق جسد رضيعها الصغير. يُمهد لنا هذا المشهد للأجواء المقبضة التي ستسيطر على الفيلم منذ تلك اللحظة وحتى النهاية.  تنسحب تلك الأجواء على الطابع البصري للفيلم نفسه، فيسيطر الظلام على الشاشة معظم الوقت، وتحدث أغلب الأحداث في عتمة الليل، وهو ما يختلف بشدة عن اقتباسَيْ ديزني للقصة، حيث الفتى الصغير يجول في ضوء الشمس الذي يضفي جمالا دافئا عن الغابة. يتناسب ذلك الطابع اللوني مع الاتجاه الذي يتخذه هذا الاقتباس، فالغابة هنا بلا دفء، الغابة هنا مكان موحش مليء بالقسوة، وهو ما يختبره الفتى ماوجلي بنفسه ويتجرع آلامه. [1]

   

undefined

     
وحدة ووحشة ونبذ

"ماوجلي، الإنسان والذئب، كلاهما معا، ولا أحد منهما"

  

يردد صوت الأفعى كا التي تلعب هنا دور الراوي في أحد المشاهد العبارة السابقة. إنها توجز بهذا العالم الشعوري للفتى الصغير: كبر ونشأ مع ذئاب ظن نفسه واحدا منهم، لكن انعكاسه على سطح الماء كذّب ظنونه، نظر إلى البشر الذين يشبههم، فلم يرَ سوى كائنات لا يقدر على فهمها أو التواصل معها. هكذا يظل محتجزا في مساحة ضبابية بين عالمين، عاجزا عن الانتماء لأي منهما.

 

تلعب الأحداث في هذا الاقتباس على شعور ماوجلي بالاغتراب عن الجميع، فهذا ليس مجرد هاجس داخلي يطارده، إنها حقيقة لا تفتأ الحياة تؤكدها له. في انحراف عن الخط السردي المعتاد في الاقتباسات الأخرى، يصنع مخرج الفيلم آندي سيركيز هنا طقس عبور، سباق تجري فيه الذئاب الواقفة عند حافة البلوغ من الفهد باجيرا، إن استطاعت الإفلات منه؛ تفوز، أما إذا طوّقها بأنيابه؛ تخسر. هذه ليست مسابقة ترفيهية، فنتيجتها هي ما تحدد إذا ما كان الذئب اليافع سينضم للقطيع أم لا. الانتماء هنا ليس مجانيا، عليك أن تشقى وتثبت نفسك حتى يعتبرك الآخرون ندًّا لهم. أما الخاسر، فلا يستحق حتى احترام الآخرين.

  

هذا السباق، بالإضافة إلى التهديد الدائم من النمر شيرخان، يصنعان عالم ماوجلي الداخلي الذي يسيطر فيه الضغط والخوف الدائمان من الخسارة والنبذ. فهو ليس كائنا مختلفا عن قطيع الذئاب الذي يعيش وسطه فقط، فبسبب كون النمر شيرخان يود افتراسه، يرى الكثير من أفراد القطيع الذي يقوم بحمايته أنه ليس سوى عالة عليهم ومصدر خطر ومشاكل هم في غنى عنها. وماوجلي بالطبع يعلم كل هذا جيدا جدا؛ ما يجعل للفوز في ذلك السباق أهمية قصوى يتعلق عليها مصيره بأكمله، وفرصة أخيرة يثبت عبرها للقطيع أنه واحد منهم، قادر على حماية نفسه، ولا يحتاج إلى مساعدة من أحد.

 

على عاتق بالو، تقع مهمة تدريب ماوجلي من أجل ذلك السباق المفصلي. ولهذا، فتماشيا مع ثقل تلك المهمة والأجواء السوداوية عامة للفيلم، يجري آندي سيركيز التغيير الأكبر في شخصيته عن اقتباسات ديزني. فبالو الدب الذي ارتبطت جماهير ديزني صغارا وكبارا بمرحه وخفته، يصير هنا معلما صارما وجادا لا وقت لديه للهوٍ أو مرح. وهكذا، يسلب سيركيز الفيلم وماوجلي على حد السواء من مصدر الدفء الأرق، ويتركهما في عالم موحش لا عزاء فيه لأحد.

   

ربما يكبر ذلك الفتى الصغير يوما ما ويصبح هو من يحميهم من شرور الإنسان
ربما يكبر ذلك الفتى الصغير يوما ما ويصبح هو من يحميهم من شرور الإنسان
  

في ذلك العالم الموحش، تحكم المصلحة كل شيء، فيُسِرّ زعيم القطيع لباجيرا أنه لم يقبل ماوجلي داخل القطيع حبا فيه فقط، إنما ليكون معهم واحد من البشر الذين تزداد قوتهم وسيطرتهم على أجزاء أكبر من الغابة في كل يوم، فربما يكبر ذلك الفتى الصغير يوما ما ويصبح هو من يحميهم من شرور الإنسان. وهنا، يأتي انحراف آخر من سيركيز عن خط ديزني السردي، فيفرد فصلا كاملا في الفيلم يعيش فيه ماوجلي مع بني البشر.

 

لا يختلف حال ماوجلي كثيرا بين البشر عن وضعه بين الذئاب: يظل غريبا لا يخص أحد. في خطواته الأولى وسط بني الإنسان، لا يبحث عن شيء سوى الحب والانتماء، وهو ما يشعر به بالبداية على استحياء. لكن هذا الشعور الطفيف بالانتماء لا يلبث أن يتدمر كليا، ففي غرفة الصياد، يرى رأس أقرب أصدقائه من الذئاب مُعلقا على الحائط، وغير بعيد عنه ناب أحد الفيلة. تتعرى هكذا أمام ماوجلي دفعة واحدة وحشية الإنسان. هذا كائن أكثر قسوة من رفاقه الحيوانات، هذا كائن يتخذ من القتل نوعا من التسلية. تتسرب لقلب ماوجلي مجددا مشاعر الاغتراب والضياع ترافقها دموع حارة تسيل على وجهه. مجددا، يجد نفسه وسط أناس لا يشبهونه ولا يشبههم.

 

لكن بينهم على الأقل يتعلم ماوجلي استخدام أدوات الإنسان من نيران وخناجر. هذه النيران وتلك الخناجر تصبح بمنزلة تعويض بالأدوات لضعف جسد الإنسان مقارنة بأجساد حيوانات الغابة المُسلحة بالمخالب القوية والأنياب القاطعة. ويمكن بتلك الأدوات أن ينتصر ماوجلي أخيرا على عدوه شيرخان، وتقطع الأحداث دورة كاملة منذ البداية التي قتل فيها شيرخان أم ماوجلي، وحتى النهاية التي قتل فيها ماوجلي شيرخان. لكن يظل نصر ماوجلي منقوصا، تتردد في جنباته أصداء الاغتراب، فبقتل شيرخان، يخرق ماوجلي بذلك قانون الغابة المُقدّس، ويربط بصورة رمزية بين القتل واستلام السلطة.

 

الأصل الروائي لماوجلي

عندما اقتبست ديزني قصص الروائي البريطاني روديارد كيبلينج عن الفتى ماوجلي المنشورة في "كتاب الغابة" لأول مرة عام 1967، مرّت فوق الكثير من التفاصيل في القصص وقامت إما بحذفها وإما تعديلها. جاء هذا تنفيذا لرؤية والت ديزني نفسه الذي رأى في القصص الأصلية الكثير من المواد التي لا تصلح في فيلم للأطفال. وإلى حد كبير كانت رؤيته صائبة. [2]

   

انتشرت الأغاني المرحة التي غناها الدب بالو ولوي ملك القرود بين الصغار والكبار على السواء
انتشرت الأغاني المرحة التي غناها الدب بالو ولوي ملك القرود بين الصغار والكبار على السواء
   

نال اقتباس ديزني شهرة واسعة، وانتشرت الأغاني المرحة التي غناها الدب بالو ولوي ملك القرود بين الصغار والكبار على السواء، ليصبح هذا الفيلم بمرور السنوات واحدا من أهم كلاسيكياتها. وكذا اتخذت نسخة اللايف أكشن لعام 2016 فيلم الرسوم المتحركة أصلا لها، مبتعدة عن حكايات كيبلينج، لينال هو الآخر قسطا كبيرا من النجاح، ويحرز نحو بليون دولار في شباك التذاكر. أما ما فعله آندي سيركيز في نسخته للفيلم، فقد كان عكس هذا تماما، وغالبا لهذا لم يلق النجاح نفسه.  يستعير فيلم سيركيز أجواءه السوداوية من كتاب روديارد الكيبلينج الأصلي. فقد ترددت ثيمة الاغتراب والعجز عن الانتماء التي شدد عليها اقتباس سيركيز في الكتاب، وكانت لحد كبير انعكاسا لكيبلينج نفسه. فبعد ست سنوات عاش خلالها روديارد وسط أبويه في الهند حيث هاجرا وحيث وُلد، وجد نفسه مفروضا عليه الذهاب إلى إنجلترا ليتم تعليمه. هناك، عاش مع زوج من معارف أسرته، وتعرض على يدهما لشتى أنواع الإيذاء النفسي والبدني، ما جعله عاجزا عن التأقلم، وترك في نفسه جروحا لم يرتقها الزمن، وأخذت تظهر في كتاباته اللاحقة، وأبرزها بالطبع "كتاب الغابة". [3]

 

فضّل سيركيز أن يُضمّن فيلمه كل تلك التفاصيل المؤلمة عن طفل يجد صعوبة في الانتماء لأي مكان، ليميز فيلمه عن الاقتباسات السابقة التي اتجهت دائما لخفة الطرح من ناحية، ولأنه يرى قصة ماوجلي كما كتبها كيبلينج أكثر مناسبة لروح هذا العصر من الناحية الأخرى. يقول سيركيز: "نحن نعيش في عالم مليء بالخطر، ومليء بالتغيير، ولهذا أعتقد أنه يجب أن يكون هنالك مساحة لتَقبُّل النظر للوضع الإنساني عبر عدسة أكثر جدية. قصة ماوجلي هي قصة غريب، شخص يجد نفسه دائما "الآخر" أينما حل، حياته هي عبارة عن رحلة من التعقيدات النفسية والعاطفية، حيث المخاطر والعواقب دائما كبيرة". [4]

 

ربما يكون كلام سيركيز صحيحا، إلا أنه أغفل التفكير في نقطة كانت السبب الرئيسي في فشل الفيلم جماهيريا ونقديا. فبأخذه فيلمه لمنحى جاد يميل أحيانا للمأساوية ويتضمن كثيرا من الدموية والعنف، فقد جمهور ماوجلي الرئيسي من الأطفال. وبالإضافة إلى أن الفيلم، مع كل التغييرات التي أجراها، ظل لا يثير حماسة الكبار، صار لا يوجد جمهور حقيقي له، ذلك بالطبع دون أن نذكر أن ديزني أنتجت فيلما نجح نجاحا مُدوّيا عن القصة نفسها قبلها بعامين فقط، ما أدى بالطبع إلى وجود نوع من التشبع من قصة ماوجلي وعدم التشوّق لرؤيتها مجددا. وهكذا، يصبح فيلم سيركيز كماوجلي نفسه، مزيجا غريبا من أشياء لا تتسق مع بعضها البعض ولا يجد جماعة تتقبله تماما.

المصدر : الجزيرة