شعار قسم ميدان

"يوم الدين".. عاطفة مبالغ فيها أم انعكاس لواقع مهمش؟

midan - yawmeldien

تهبط الشاشة السوداء التي تحمل تترات نهاية فيلم يوم الدين لمخرجه أبو بكر شوقي ومعها يتصاعد التصفيق والهتاف، الوقوف تحية ومسح بعض الدمعات من تحت طبقات المكياج تأثرا، يصعد راضي جمال الرجل ذو الحجم الصغير والابتسامة العفوية يرتدي بذلة سوداء أنيقة وبجانبه الطفل أحمد عبد الحافظ في زي مشابه، حيث يبدوان في نفس الطول.

  

تتعالى الصيحات تشجيعا لهما، فلطالما كان مرض "الجذام" وصمة لصاحبه، فالندوب الواضحة والأطراف المتآكلة تدفع الآخرين للحذر. لذلك، يعد وقوف أحد المتعافين من مرض الجذام على سجادة حمراء لمهرجان الجونة وسط حضور جماهيري ونقدي كبير يعتبر تطور في العقلية المصرية وإن كان على نطاق ضيق لا يعتد به كتغيير جذري، لكن هل يستحق الفيلم كل هذا الاحتفاء وأين تكمن الاستثنائية في تجربة كهذه؟

        

  
عُرض فيلم يوم الدين في واحد من أكبر المحافل السينمائية في العالم، مهرجان كان بفرنسا، ليست تلك المرة الأولى التي يحصل فيها فيلم مصري على فرصة كتلك ولكنه أول فيلم يعرض ضمن المسابقة الرسمية لينافس أكبر وأهم مخرجي العالم، لتكثر بذلك التساؤلات داخل مصر عن ماهية ذلك المخرج وكيفية وصول الفيلم لتلك المسابقة ومدى جودته واستحقاقيته لتلك المكانة.
     
يحكي الفيلم قصة بيشاي المتعافي من الجُذام، والذي يقرر أن يذهب في رحلة للبحث عن ذويه بعد وفاة زوجته المصابة بالاكتئاب، يرافقه صديقه الأصغر سنا أوباما وهو طالب يتيم في مدرسة بجوار مستعمرة الجذام ومعا يستكشفا حبهما لبعضهما ويواجها نبذ المجتمع لاختلافاتهما التي يصعب إخفاؤها أو التنصل منها.
     
قوبل الفيلم في كان بوقوف جماهيري امتد لخمس عشرة دقيقة وانتشرت مقاطع الفيديو بين المصريين المهتمين بالسينما وغيرهم متفاخرين ومتأثرين بتلك اللحظة الرومانسية الحالمة التي يتمناها كل مخرج شاب أو حتى متمرس، لكن بجانب الحفاوة التي استقبل بها الفيلم أتت المراجعات من النقاد الحاضرين متفاوتة تتراوح بين التقييمات المتوسطة أو الضعيفة، مشيدين بواقعية الفيلم ومنتقدين العاطفية الزائدة وتناول موضوع حساس بخفة أكثر من اللازم، لفظتا الواقعية والعاطفية يمكن وصفها بالفضفاضة، فماذا تعني تلك الأوصاف في سياق السينما؟ (1)
     

أبو بكر شوقي وزوجته دينا الامام منتجة الفيلم في مهرجان كان (مواقع التواصل)
أبو بكر شوقي وزوجته دينا الامام منتجة الفيلم في مهرجان كان (مواقع التواصل)

     

كيف بدأت الواقعية

عندما انتقلت الصورة الثابتة الى المتحركة وتم اختراع السينما، افتتن الجميع بقدرتها على التقاط الزمن وتخزينه كما لم يفعل أي وسيط فني من قبل، فكانت الخاطرة الأولى التي أتت لرواد تلك الصناعة الفنية هي نقل الواقع كيفما وجد أو إعادة تمثيله بدقة، فكانت أوائل الأفلام التي تم تصويرها هي قطع من الواقع مثل تصوير الغرائبيات أو الرقص والحركة البشرية.
 
يعود تاريخ صناعة الكاميرا الى عدة أشخاص، ويختلف الناس حول الشخص الذي بدأها تحديدا، ولكن الأشهر هما الأخوين لوميير اللذان قررا وضع كاميرتهما في وجه الواقع دون تحريك أو تعديل يلتقطونه على لفائف من الفيلم ويعرضونه على آلة عرض، ليندهش  الناس من فرط حقيقة ما يرون. فمرةً نجد عاملات يخرجن من المصنع، وأخرى قطار يسير على سكة حديد باتجاه الجمهور مما يجعلهم يشهقون في دهشة متخيلين أن القطار حقيقي.

 
استمر تراث الواقعية في السينما حتى بدأت تأخذ من المسرح قصصا، ومن الأحلام خيالات ثم عادت لما بدأت منه بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا في إيطاليا فيما يسمى بمدرسة الواقعية الإيطالية الجديدة والتي استمدت اسمها من المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي، والتي تُعنى بتصوير الطبقات الكادحة من المجتمع وتنبذ تصوير النبلاء والطبقة البرجوازية أو الملوك والأرستقراطيين.

   

ستخدم المخرج أبو بكر شوقي في فيلم
ستخدم المخرج أبو بكر شوقي في فيلم "يوم الدين" أبطال غير محترفين من داخل مستعمرة الجذام وتم تصوير معظم المشاهد الخارجية في الأماكن الحقيقية لوقوع الأحداث
  

استخدم مخرجو تلك الفترة، الممثلين الهاوين وغير المحترفين بدلا من المشاهير، واستكشفوا قضايا الفقراء والمهمشين في أماكنهم الأصلية، نازلين للشوارع يصورون الأماكن الحقيقية دون ديكورات زائفة أو إفراط في البهرجة، مثلت تلك المدرسة تغيرا اجتماعيا وثقافيا، وجاءت جماليتها كرد فعل على صعوبة التصوير في الأستدويوهات بجانب الثورة على طرق صنع الأفلام التقليدية.(2)
     
عند النظر ليوم الدين في سياق السينما الواقعية وجماليتها يمكن التقاط كثير من التشابهات، حيث استخدم المخرج أبو بكر شوقي أبطال غير محترفين من داخل مستعمرة الجذام وتم تصوير معظم المشاهد الخارجية في الأماكن الحقيقية لوقوع الأحداث، كما أن الفيلم يعتبر استطراد لفيلم وثائقي سابق لنفس المخرج يسمى المستعمرة، لتظهر هنا نزعة تسجيلية مثل الكاميرا المهتزة في بعض المشاهد .
     
يمكن اعتبار بطل الفيلم راضي جمال (بيشاي) يمثل نسخة معدلة من نفسه فهو عاش حياته كلها في مستعمرة الجذام وهي كل ما يعرفه عن العالم وفي الفيلم كذلك لكنه يقرر القيام برحلة للبحث عن أهله وإيجاد جذوره مع الطفل "أوباما"، ليمثلا معا نموذجان للتهميش والتنميط في المجتمع المصري، بيشاي المجذوم المتعافي الذي ينفر منه الكبار ويخبؤون أطفالهم مرعوبين من فكرة العدوى والتلوث، بينما يستحمون في مياه الترع يوميا، بالإضافة الى أنه مسيحي في بلاد لا تخلو من الطائفية، وأوباما اليتيم النوبي الملقب بهذا الاسم بسبب لون بشرته التي يتخذها الكثيرون مساحة للسخرية.

  

تتسم الواقعية في إيطاليا بعد الحرب، وكذلك واقعية إيران الدامجة بين الوثائقي والدرامي بالمعايشة والصدق في تناول حيوات فئات لا يتم تناولها عادة في السينما المزدحمة بقصص من يملكون رأس مالها، حيث ترتبط الواقعية باستقلال السينما وإيجاد بديل لما تفرضه علينا. في هذا السياق تملك السينما المصرية رصيدا كبيرا من الأفلام التي تتناول المهمشين والفقراء والطبقات غير المُمثلة بكثرة، لكنها عادة ما تهاجَم ويتم تحميلها مسؤولية الترويج للفساد الأخلاقي وجماليات "البلطجة"، وفي سياقات الأفلام المستقلة يتم تناول طبقات مشابهه لكن بشكل أكثر سوداوية مع تضييق الخناق على أبطالها ولا تترك لهم فسحة للتنفس.
    

  
يُمدح يوم الدين بوصفه يقدم رؤية أكثر تفاؤلا من واقعية السينما المستقلة، حيث يرى الناس بيشاي وحشا بل إن أبو بكر شوقي يلقي إشارات بصرية وسمعية لفيلم الرجل الفيل لديفد لينش الذي يحكي قصة رجل ذو وجه متشوه منذ الولادة ولكنه ذو قلب حنون، يخافه الناس ويقومون بإيذائه حتى يصرخ "أنا إنسان، ألستُ إنسانا؟" كما صرخ بيشاي تماما، ثم يعود الفيلم ب"فلاشباك" لطفولة بيشاي ووالده الذي يودعه في المستعمرة مرتديا قناعا مطابقا لذلك الذي يرتديه الرجل الفيل.(3)
 

لكن على عكس الرجل الفيل، يجد بيشاي عزاءه في صديقه الصغير أوباما، ويتلقى المساعدات حتى ممن جرحوه بألسنتهم وأشعروه أنه مسخ، فشوقي ليس قاسيا على أبطاله ولا يعذبهم حتى النهاية، حيث يصنع فيلما يصطبغ بالأمل وقابلية الحياة الفُضلى وصلاح الإنسان وقدرته على العطاء، ولكنه لا يخلو من مثالية تبدو مصطنعة في تناول فئات تعاني بهذا الشكل، وللسينما تراث في جعل الفقر رومانسيا، فهل يمكن اعتبار "يوم الدين" كذلك؟
 

رومانسية الفقر وإيجاد الأمل في الظلام

لدى وسائل الإعلام من سينما وتلفزيون وأدب إرث ممتد من إضفاء الشاعرية أو الرومانسية على الفقر والفقراء والفئات المهمشة بأي شكل، كأنها غرائبيات لها سحرها الخاص منفصلة عن واقعها القاسي، ويمكن تعريف إضفاء مسحة رومانسية على الأشياء بأنه إخراجها من واقعيتها وتصويرها بشكل مثير ليقدم نموذجا يستحق الاتباع، فالفقراء أسعد، ويملكون معانٍ أعمق وفهم مختلف للعالم والحياة، ليجعل هذا "المأساة" غاية في ذاتها لأنها بعيدة عن ادعاء القيم المادية. (4)
    

undefined

  
يمكن لتلك الرومانسية أن تخلق التعاطف والتماهي مع الشخصيات وتجردهم من المغالاة في الميلودراما لكنها أيضا تسلبهم جزءا من معاناتهم وأحقيتهم في عرضها بشكل حقيقي غير مسطح أو فوقي، يتعامل فيلم يوم الدين مع التهميش والفقر في إطار كوميدي ومرح لكي لا يدلف إلى حالة من الحزن الثقيل على المُتلقين.

  

لكن تلك الخفة أنتجت ما يمكن تسميته "معاملة ديزني" حيث تتلخص رحلة الأبطال لاكتشاف ذواتهم وسعيهم للاندماج رغم الاختلاف إلى رحلة مليئة بالمساعدات والأعداء الذين يتحولون لأصدقاء في آخر لحظة، ثم اكتشاف أن رحلتهما سويا هي المكسب الحقيقي وأنهما شاهدا العالم على حد قول البطل بيشاي، لكن العالم الذي شاهداه وأصبح مغزاهم ومكسبهم، هو عالم مظلم وفقير من المشاهد التي يسترجعها، ويتبدى ذلك عبر تدليل الفيلم بمشاهد عربات القطار المزدحمة التي عادة ما تكون فوضوية ولا تخلو من المناوشات لكنها في عالم الفيلم عربات يستقلها أناس راضون مبتسمون، تغمرها أصوات الغناء والعزف ويتخللها الدفء.
      
لا يمكن اعتبار ذلك عيبا بالكامل، لكن هذا هو أول فيلم مصري عن رجل مجذوم، يقوم ببطولته مجذوم، وهي فكرة متميزة وثورية في ظل نمطية تسيطر على السينما في كل أنحاء العالم بشكل عام ومصر بشكل خاص، فكان من المنطقي التخلي عن جزء من الخفة لصالح الصدق، والتخلي عن الخطابية التوعوية لصالح الواقعية المرتجاة.

المصدر : الجزيرة