شعار قسم ميدان

كيف صور مسلسل "شارلوك" مدينة لندن؟

midan - رئيسية هولمز

"يأتي لنا من قلب لندن الضبابية، المضاءة بالغاز لندن الواعية بنفسها تماما كمركز لإمبراطورية (أما هو فلا يكترث) لندن الماخور والنادي التي تود إنكار أنها لم تعد كما كانت"

(خورخي لويس بورخيس، شرلوك هولمز)(1)

 

يعود شيرلوك هولمز مجددا للوجود، هذه المرة عبر مسلسل "شيرلوك" الذي عرضته البي بي سي على شاشتها منذ بضعة أعوام. في هذه النسخة يخلع شيرلوك عنه معطفه الشهير وعدسته المكبرة وقبعة الصيد ويرتدي ملابس عصرية، ليحتل شوارع لندن الحاضر بذكائه الخارق وانجذابه الذي لا يعادله شيء لحل الجرائم.

  

وفي خضم مغامراته الكثيرة، تظهر لندن، المدينة الحديثة، كشخصية مستقلة بذاتها، يحمل وجهها ملامحها المعروفة من قصور وكاتدرائيات ومتاحف، وتنطوي روحها على أسرار ومخاوف. وبينما يتنقل شيرلوك في شوارعها المطبوعة في ذاكرته كوشم باحثا عن القتلة والمجرمين، سنتجول نحن عبر الأزقة الخلفية في محاولة الإمساك بروح تلك المدينة.

    

    

شيرلوك والمدينة: كل شيء عادي إلى أن تنظر جيدا

لا نرى في مسلسل "شرلوك" لندن روايات آرثر كونان دويل المُعتمة والملفوفة دائما في سحابة من ضباب كثيف مُنار على استحياء بضوء مصابيح الغاز الأصفر الخافت كما وصفها بورخيس، بل نرى لندن الحديثة، لندن القرن الحادي والعشرين ذات الإضاءة البرّاقة وأسطح البنايات الزجاجية الملساء التي تعكس أضواء النيون الأبيض الساطع. لكن وراء ذلك التَغيُّر الظاهري، ظلت لندن هي لندن، مدينة تُفضّل الجريمة أن تتخذها مسرحا لها. (2)

    

لندن القرن التاسع عشر
لندن القرن التاسع عشر

    

فالمدينة في روايات آرثر كونان دويل وفي الإصدار التلفزيوني الحديث تتعدى كونها مجرد مكان مبهم المعالم يقع في الخلفية، المدينة هنا تتشابك مع الحدث وتصير فاعلا مؤثرا فيه. فشخصيات المدينة وأفرادها هم المحرك الأساسي لكل ما نراه، الأشرار في "شيرلوك" على سبيل المثال ليسوا كائنات خارقة مفارقة للواقع على غرار أفلام الأبطال الخارقين، بل أفراد عاديون نقابلهم كل يوم. فنكتشف أن القاتل المتسلسل الذي ينشر الذعر وسط الجميع في إحدى الحلقات ليس إلا سائق أجرة، وأن مُهرِّب الآثار الذي تنطلق بسببه سلسلة من الجرائم هو في الحقيقة موظف بنكي، والمرأة الغامضة التي تُروّع السلطات وتبتزها هي في الأساس بائعة هوى. (3)

  

ننظر نحن ولا نرى أيًّا من هذا، نستقل سيارات الأجرة دون أن يخطر في بالنا قط أن من في المقعد الأمامي قد قتل شخصا لتوّه، نتعامل مع موظف البنك ويبدو ضربا من الخيال المفرط أن نتصور أنه في الليلة الماضية هرّب قطعة آثار ثمينة، نرى عشرات النساء في الشوارع والطرقات ولا نتخيل أبدا أن إحداهن تعمل في الليل عاهرة. فوراء غشاء العادي والمألوف، تختبئ آلاف التفاصيل، ووحدها عين شيرلوك هولمز الخبيرة تستطيع أن تراها.

  

كان هذا ما قاله مايكروفت، أخو شيرلوك الأكبر، لجون واتسون الذي سيصير صديق شيرلوك الأقرب ومساعده في حل الألغاز عندما قابله في الحلقة الأولى: "معظم الناس يسيرون بلا اكتراث في طرقات المدينة وكل ما يرونه هو شوارع ومحلات وسيارات، فقط عندما تسير مع شيرلوك هولمز تستطيع أن تبصر ميدان المعركة".

    

محل وجبات سريعة عند مدخل بيت شيرلوك هولمز الحديث في شارع
محل وجبات سريعة عند مدخل بيت شيرلوك هولمز الحديث في شارع "بايكر"

   

في المقابل، المدينة هي المسكن الطبيعي والمكان الوحيد المناسب لشيرلوك هولمز، فنحن لا نستطيع مثلا أن نتخيله بجسد ممتلئ وخطى وئيدة وإيقاع هادئ، يعيش في إحدى قرى الريف الإنجليزي حياة رتيبة لا جديد فيها سوى نميمة عجائز الطبقة الأرستقراطية، على غرار هركيول بوارو، محقق أجاثا كريستي المحبوب، وحدها المدينة بإيقاعها اللاهث وأحداثها المتلاحقة تستطيع أن تُشبع شيئا من نهمه وفضوله وشغفه بالفعل والاحتكاك بالحياة، شيرلوك هولمز هو كائن لندني بامتياز. (4)

   

الارتباط بين شيرلوك والمدينة إذن هو ارتباط متبادل، فهو لأهلها المنقذ والمخلص من الجرائم، وهي تمثل له، بكل ما فيها من احتمالات ومخاطر، متعة لا حدود لها. وحتى بالنظر بعيدا عن أهمية المدينة للحدث في روايات شيرلوك القديمة ومسلسله الحديث، يظل حضور المدينة حاملا للعديد من الدلالات والمعاني.

  

شيرلوك والمدينة والخوف

"لندن، إنها بالوعة ضخمة ينجرف إليها كل أنواع المجرمين والمتسكعين والعُملاء دون أدنى مقاومة"

("شيرلوك"، الجزء السادس الحلقة الأولى)

  

قد لا تحمل لندن الحاضر نفس الثقل والزخم السياسي والاجتماعي للندن القرن التاسع عشر التي جاءت الثورة الصناعية للوجود في أحيائها، لكنها تظل مع هذا واحدة من أهم مُدن العالم التي تمثل الحداثة بكل ما فيها من أوجه؛ ومهما تنوعت واختلفت مشاعرنا تجاه تلك الحداثة، فيظل الإحساس بالخوف والتهديد حيال العديد من أوجهها قائما دائما.

  

ولعل من أهم مباعث الخوف التي يشعر بها سُكان المدن في العصر الحديث والتي ركز عليها المسلسل ووضعها في بؤرة الحدث هو هاجس الجريمة والشعور بالخطر دائم الحضور في دواخلنا. فهذا العدد الكبير من المسلسلات والأفلام ذات القصة المتمركزة حول أعمال العنف والقتلة المتسلسلين هي انعكاس لمخاوف مُتجذّرة داخل كُلٍّ منّا وعدم ثقة عميق يُكنّه كل شخص حيال الآخرين. ففي القرى الصغيرة، حيث الجميع مألوف والكل يعرف الكل، تبقى احتمالات أن تجد نفسك ضحية جريمة عشوائية لقاتل متسلسل ضئيلة نسبيا. لكن في مدن اليوم المُزدحمة، حيث يتشارك ملايين الأغراب الشوارع والميادين نفسها، وحيث العلاقات السطحية هي السائدة، فلا يوجد ضمان حقيقي أن من يقود سيارة الأجرة التي ركبتها للتو ليس مجرما مُحترفا سينحرف بك إلى طريق مجهول ويلحق بك الأذى.

     

موريوراتي، عدو شيرلوك اللدود
موريوراتي، عدو شيرلوك اللدود

    

يُمثّل مسلسل "شيرلوك" هنا إذن نوعا من العقدة والحل في آنٍ واحد، فنرى من خلال أحداثه الجرائم التي نخشى وقد وقعت بالفعل، ونرى أيضا شيرلوك هولمز الذكي واللامع يمسك بالمذنب لتلقي الشرطة القبض عليه وتسجنه بعيدا عنّا فيتجدد الشعور بالأمان. كما يعكس هذا أيضا عدم الثقة التي يُكنّها الناس للحكومة وأجهزة الشرطة والقضاء، ففي الروايات والمسلسل على السواء يظهر أفراد الشرطة كمجموعة من الأشخاص ذوي ذكاء ضحل وغير قادرين على حل أي لغز أو الوصول إلى أي شيء دون الاستعانة بشيرلوك.

  

ومن بين المخاوف التي تسيطر علينا اليوم، اختار المسلسل أن يسلّط الضوء أيضا على النظرة المُلتبسة والشائكة التي ننظر بها إلى العلم الآن. فمن جهة، نجد أن معرفة شيرلوك الكيمائية والبيولوجية الفائقة هي من أكثر ما يعينه على إجراء الاستنتاجات وحل الجرائم، كما أن أسلوب تقصي شيرلوك نفسه للحقائق يتبع المنهج العلمي بامتياز؛ ومن الجهة الأخرى، نجد أن الشرير يستعين هو أيضا بوسائل العلم والتكنولوجيا للوصول إلى أهدافه، وفي بعض الأحيان يكون هو أصلا عالما، مثلما رأينا في حلقة "كلب باسكرفيل".

 

أما الخوف الأخير الذي تناوله المسلسل فكان مقصورا على المواطن الأوروبي فقط. فنستشعر في الأحداث هلعا متجذرا داخله من الآخر الذي لا يشاركه الانتماء أو الفكر، حيث ينتشر على مدار الحلقات أشرار يعملون في منظمات إجرامية تنتمي لبلدان أخرى، وأحيانا يكون أولئك الأشرار في الأصل عملاء سريين لحكومات تلك البلاد. تتنوع الجنسيات والانتماءات، فتارة يكون الشرير من الصين، وتارة من الولايات المتحدة، وغير مرة يكون عميلا للحكومة الروسية، وفي مواسم العمل الأخيرة أطلّت الجماعات الإرهابية برأسها أيضا. وفي كل مرة، يتم تصوير أهل لندن كضحايا محتملين لشرور بلاد العالم الأخرى التي تتربص بهم، ووحدها الحكومة البريطانية وبالطبع شيرلوك هولمز يستطيعون حمايتهم. (5)(6)

 

قد تبدو المدينة، مع كل هذا، وعلى ما فيها من أخطار ومخاوف، مكانا مليئا بالمغامرة، تنتظرنا فيه أحداث جديدة ومثيرة عند كل منعطف، وتعدنا بشيء من التشويق والمتعة، أليس كذلك؟

 

شيرلوك والمدينة والملل

ربما لو كانت حياة المدينة ممتعة هكذا لما رأينا شخصية "شيرلوك هولمز" على الإطلاق؛ فلم يولد المحقق البارع سوى من سأم مُبدعه الطبيب آرثر كونان دويل أثناء قضائه صباحات طويلة في عيادته الفارغة نصف الوقت من المرضى. فقبل أن يصبح دويل مؤلف الشخصية الأشهر في عالم أدب الألغاز والجرائم، كان مجرد طبيب يشعر بملل لا يُطاق. (7)

    

شيرلوك ضَجِرًا
شيرلوك ضَجِرًا

  

فالمدينة في النهاية هي مكان يجتمع فيه الأشخاص للعمل وتأكل الوظيفة مُعظم ساعات يقظتهم. الإثارة والمغامرة متواجدين، لكن يبقى وجودهما هامشي يشغل حواشي الحياة، بينما يسيطر على المتن حالة من التكرار والروتينية تجعل السنوات تبدو وكأنها يومًا واحدًا مُكررًا عدد لا نهائي من المرات. (8)

  

وقد تسرّب ذلك النقم على الحياة العادية والوظيفة الروتينية لشخصيات المسلسل التي استوحت بدورها الشيء نفسه من الروايات الأصلية. فنرى جون واتسون، الطبيب والجندي السابق، يؤثر في قرارة نفسه ميدان المعركة على العيش في رتابة، ولا تتحسن حالته ولا يشعر بالانتشاء سوى مع شيرلوك أثناء حل الجرائم. وشيرلوك نفسه تستولي عليه حالة من الضجر والكآبة عندما يمر وقت طويل دون أن يجد قضية تستفز ذكاءه.

    

واتسون ضَجِرًا
واتسون ضَجِرًا

  

الحياة في المدينة إذن تتأرجح ما بين ملل مسيطر، وخيال يؤثر أن يهرب بعيدا. بالتأكيد لا أحد منّا سيحب أن يعيش في حالة خطر، لكن عندما تخلو حياتنا من أي تحدٍّ أو إثارة، فإن مخيلتنا تنفلت في الاتجاه المعاكس، يزيد الهوس بالجرائم التي تغطيها الصحف ونشرات الأخبار وتصبح حديث الساعة، ونجد التلفاز والسينما يتناولان موضوعات العنف والجريمة بشكل مُكثّف، وتتولى الشخصيات غير الاعتيادية، غير المتوقعة، على غرار شيرلوك هولمز، دور البطولة.

  

يلعب شيرلوك ورفاقه من محققين أسطوريين دورا ليس بالقليل في ثقافتنا، فيمدوننا بقصص تمتلك من العمق والذكاء ما يجعلها -لمن ينظر جيدا- بمنزلة مرآة ينعكس فوق سطحها شكل حضارتنا وقيمها، وتعيننا على رؤية أنفسنا عبر وسيط الخيال. لكنها تبقى في المقام الأول والأخير قصصا مسلية حقا، تُعيد الانبعاث مجددا عبر العديد من الأشكال والفنون مثلما رأينا في قصص شيرلوك هولمز التي تحولت إلى عشرات الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية والتي جاء في آخرها مسلسل "شيرلوك". في أثناء مشاهدتك لذلك العرض الممتع، تذكر أن الشاعر الإسباني بورخيس يشاركك متعتك، فهو من كتب عن هولمز في ختام قصيدته يقول:
 

"التفكير في شيرلوك هولمز ذات مساء أو عشية واحد من العادات الجيدة التي نمتلكها إلى اليوم الغفوات والموت أيضا كذلك وكذا مصيرنا من استراحات ريفية، أو نظر إلى القمر"

     

undefined