شعار قسم ميدان

وراء البرقع الأسود.. كيف صور فيلم "وجدة" المرأة السعودية؟

midan - فيلم وجدة
ربما كنت طفلا من أولئك الذين امتلكوا درّاجة في طفولتهم، وربما لعبت تلك الدرّاجة دور البطولة في مغامراتك الكثيرة لاكتشاف الأفق الواسع البعيد عن ضيق البيت والمدرسة، وارتبطت بعض من أعذب ذكرياتك بها وبجولاتك الجريئة فوقها وسط الأصدقاء، وربما ترتسم ابتسامة حنين فوق شفتيك عندما تتذكر ما كان يدب فيك من شعور بحرية غير عابئ بشيء وأنت تقودها مُسرعا في طريقك المنساب بلا حواجز. إن مررت بكل هذا في طفولتك فاعلم أنك محظوظ، لأنه وبالنسبة لبطلة الفيلم "وجدة"، فإنها وقفت على أعتاب المستحيل لنيل مثل هذه التجربة.

 
 
ترصد "هيفاء المنصور" في فيلمها الأول "وجدة" الرحلة الطويلة لبطلتها ذات العشرة الأعوام في سبيل امتلاك درّاجة حرمها مجتمعها إياها لأنها فتاة. وفي نفس تلك الرحلة، خاضت هيفاء رحلة موازية لتصنع عملا دارت أحداثه في المملكة التي طالما خاصمت شوارعها الكاميرا. تنجح المنصور في هذا، لتخرج لنا في النهاية بفيلم يرصد ما يدور في نفوس الفتيات والنساء فيما وراء البُرقع الأسود.

  

    

"وجدة" في المجتمع السعودي

يقع فيلم "وجدة" في سياق اجتماعي تصبح فيه رغبة فتاة صغيرة في اقتناء عجلة أمرا شاذا، وتصير فيه قيادة امرأة بالغة لسيارة -حتى بضعة أشهر مضت- جريمة يعاقب عليها القانون. وفي ذلك السياق رمزية أعمق منه وأكثر قسوة، تُحرَم فيها المرأة من تسيير حياتها بالطريقة التي تشاء، ويصبح مصيرها الوحيد هو أن تجلس في المقعد الخلفي لحياتها بينما يمسك الرجل بعجلة القيادة.

  

وفي ذلك المُجتمع الصارم تأتي "وجدة"، بتمردها والتفافها حول القوانين، ككيان مُغاير يثير في الآخرين الامتعاض والرغبة في نفيها إلى الهامش. وقد أسست مخرجة الفيلم "هيفاء المنصور" لذلك المعنى بذكاء وبراعة منذ المشهد الأول لفيلمها، حيث ركزت الكاميرا في أول لقطة للفيلم على أحذية الفتيات الواقفات في صف واحد يُنشدن الأغاني الدينية، وبينما ارتدت كل الطالبات أحذية المدرسة السوداء التقليدية فوق جوارب بيضاء، وضعت وجدة حول قدميها حذاء "الكونفرس" الرياضي وقد غيرت لون رباطه الأبيض إلى البنفسجي.

  

تلاحظ المُدرّسة أن وجدة لا تُنشد مع الأخريات فتقوم بطردها للخارج، لتقف الفتاة الصغيرة تحت الشمس الحارقة ترنو لسور المدرسة العالي وقضبانه الحديدية التي تسد أمامها الأفُق. وفي منتصف الفيلم تقريبا يأتي ذكر الحذاء مرة أخرى حين تأمرها مديرة المدرسة "أبلة حصّة" بأن تخلعه وترتدي "جزمة سودا عادية مثل باقي البنات".

   undefined   

لم تكن تلك الجملة سوى مثال بسيط على رفض المجتمع في الفيلم لكل وجه من أوجه الفرادة وأي نافذة للتعبير عن النفس. يتبدى هذا بشكل واضح عن طريق الملابس، إذ يظهر الرجال في الفيلم مُلتزمين بزي موحّد من ثوب أبيض و"غترة" بيضاء، والنساء مغطيّاتٍ بعباءة سوداء. وبالرغم من أن ذاك الطباق اللوني وما يوحي به من انقسام أعمق بين عالمي النساء والرجال قد يأتي في أفلام مُخرجين آخرين كرمز صنعوه عن قصد للذهاب إلى هذا المعنى، فإنه جاء في فيلم المنصور من صُنع واقع كان أبلغ في التعبير عن شقوقه من الخيال.

 

ويلوح في الفيلم اندماج عالمي الرجال والنساء عن طريق الزواج كسلاح وضعه المُجتمع فوق رقبة المرأة، فيصبح تزويج الفتاة الصغيرة هو أقصى تهديد تتوعد به العائلة طفلتها حال ارتكابها لأي خطأ، ويصير زواج الرجل المُتزوّج من أخرى أسوأ ما يمكن أن يفعله لتشعر زوجته بالقهر. وعلى الجانب الآخر، عندما يحدث هذا الاندماج في غير إطار الزواج المقبول اجتماعيا وتتعرف فتاة على شاب، تثور ثائرة المجتمع ولا يكون منه حينها سوى حبسها في البيت وتزويجها بآخر لينفيها مرة أخرى داخل أُطره.

 

وعلى حدود الحواجز الصارمة التي تفصل عالم الرجال عن عالم النساء، تنمو علاقة وجدة بجارها عبد الله، فهما لم يصلا بعد إلى السن الذي توضع فيه قيود صارمة حول وجدة كامرأة، أو يتنامى شعور عبد الله عنده باختلافه وتميزه عنها كرجل، لتولد رغبة وجدة في اقتناء درّاجة من الأساس من رغبتها في مشاركة صديقها الصغير لهوه.

   undefined

  

نجحت هيفاء المنصور، التي ألّفت الفيلم بجانب إخراجه، في دمج كل تلك القيود الموضوعة حول كيان المرأة في المجتمع السعودي جاعلة منها خيوطا تتضافر معا لتخلق في النهاية نسيج الفيلم. فيدور الخط الأساسي حول وجدة ورغبتها في اقتناء درّاجة، ما يصطدم بشدة مع أعراف مجتمعها، وتُجاهد أمها في الخلفية للاحتفاظ بأبيها وإقناعه بألا يتزوج عليها أخرى عقابا لها لأنها لم تُنجب له ذكرا، وتصارع حول قوالب المجتمع الصارمة بقية الشخصيات للإمساك ولو بالشيء القليل من حقهن في الحياة، فنرى الفتيات يختبئن عن أعين المديرة ليضعن طلاء الأظافر، وأخرى تقوم بترتيبات قاسية لتقابل شابا أحبته، وثالثة تشعر بالخجل من زميلاتها لأن أهلها زوجوها في سن صغيرة.

  

ووراء كل هذا، يقف وأد معنوي للمرأة يحُد دورها في الحياة للزواج والإنجاب وينفي وجودها في غير ذلك. فأمام مجتمع الرجال يُمنع ظهور المرأة، وفي غير مشهد ترتاع الفتيات والنساء عندما يلمحهن طيف رجل عابر ويُسرعن في الاختباء. وعلى النقيض من الاحتفاء بوجود الرجل في مساحات خاصة كالبيوت التي يُعلَّق على جدرانها صورة الأب وحده، ومساحات عامة كالشوارع التي تزدان بأوجه الملوك والأُمراء، نجد المرأة في صورها مُغطاة الوجه بالكامل كأُم وجدة في صورة تجمع بينها وبين ابنتها، أو ممنوع عليها أن تحمل لنفسها صُورا من الأساس، فنرى مُعلمة القرآن تُوبّخ إحدى الفتيات لمشاركتها لقطات من عُرسها مع زميلاتها.

 

أما إن لم تُنجب المرأة ذكرا، فإنها تكون بهذا قد فشلت في مهمتها الأساسية، ويجب حينها الاستعاضة عنها بأخرى -كما يود والد وجدة أن يفعل مع أمها-، وإن جاء المولود أُنثى، يُنزَع اسمها من شجرة العائلة، ويلوح غصن الأب خاويا من الأبناء كما عبّرت هيفاء المنصور في مشهد بليغ. بل إن منع وجدة نفسه من اقتناء درّاجة يصب في نفس السياق، حيث تهدد الدرّاجة "شرف" الفتاة وبالتالي قد يُؤثر على فرصها في الزواج، أو كما قالت المديرة "الآنسة حصّة" لوجدة ناهرة إياها: "السيكل مو للبنات، خصوصا للبنات المؤدبات المؤمنات اللي يخافون على روحهم وعلى شرفهم".

   

بين وجدة وأنطوان ومرجان
مخرجة الفيلم هيفاء المنصور
مخرجة الفيلم هيفاء المنصور

    

لقيت مخرجة "وجدة" هيفاء المنصور نفس الرفض من شوارع الرياض الذي لاقته بطلتها أثناء تصويرها الفيلم. فالمارة غير المُعتادين بعد على رؤية امرأة تختلط بالرجال كانوا سيرتاعون بالتأكيد لو وجدوا تلك المرأة هي من تقودهم. ولهذا السبب، اضطرت المخرجة أن تُصوّر مشاهد الفيلم الخارجية من داخل شاحنة، وُضعَت فيها شاشة تستطيع من خلالها أن ترى المشهد، وجهاز اتصال لاسلكي يمكنها عن طريقه إعطاء التعليمات.

   

ورغم صعوبة ذلك، كان تخلي المنصور عن تصوير مشاهدها في بيئتها الحقيقية أمرا غير مطروح بالنسبة إليها. وقد كان الأمر يستحق العناء، ففي النهاية خرج لنا فيلم يحمل بداخله روح الواقعية الجديدة، تلك المدرسة السينمائية التي وُلدت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية وآثرت التصوير في الشوارع عوضا عن بيئة الاستديوهات الاصطناعية. ويظهر تأثر هيفاء أيضا بتلك المدرسة في عقدة فيلمها الأساسية المُرتكزة حول درّاجة، مما يعيد للأذهان فيلم المخرج الإيطالي فيتوري دي سيكا وأحد أهم أفلام الواقعية الجديدة "سارقو الدراجات".

 

وفي مشهد النهاية، وقفت وجدة تنظر حولها نظرات ملؤها الترَقُب والفضول حيال المدى الواسع، نظرات ذكّرت كثيرا من النُقاد بتلك التي رأيناها منذ ستين عاما على وجه "أنطوان دونيل" بطل فيلم "400 ضربة"، عندما حصل على حُريته أخيرا وتحول الأفق أمامه إلى مليون سؤال.(1)

 

وبالتأكيد، فإن أي مقارنة بين "وجدة" وأعمال أخرى ستقودنا إلى فيلم "برسيبوليس"، حيث تروي الكاتبة الإيرانية "مرجان ساتارابي" قصة طفولتها على خلفية ثورة وحرب عصفتا بها. فعلى الرغم من الشقاق السياسي والاختلاف العقائدي بين السعودية وإيران، جاءت شخصية وجدة السعودية أقرب شيء إلى مرجان الإيرانية، فهذان المجتمعان على الرغم من اختلافهما في كل شيء فإن نساءهما يقدن حيوات قريبة الشبه إلى حد بعيد.

   

  

فكما جاء صراع وجدة الأساسي في محاولتها اقتناء درّاجة، خاضت مرجان العديد من الصراعات المشابهة لتفعل أشياء بسيطة بمنزلة المُسلّمات في مجتمعات أخرى، فتذهب خلسة لتبتاع أشرطة فرقة الروك المُفضَلة لديها وكأنها في رحلة لشراء مُخدرات، وتجد نفسها مُهددة طوال الوقت من قِبَل الشرطة التي تجوب الشوارع بحثا عن أي أُخت رداؤها غير مطابق للمواصفات أو تتحدث لشاب ليس من محارمها. وكوجدة أيضا، تحتفظ مرجان بحذائها النايكي تحت العباءة السوداء الطويلة، مُستغلة في هذا المساحة الوحيدة المُتبقية للتعبير عن الذات بلا قيود.

   

بالرغم من ثِقل الموضوع الذي طرحته هيفاء المنصوري في فيلمها "وجدة"، فإنها آثرت أن تقترب منه بنعومة وبساطة، محتفظة في عملها الأول بروح خفيفة مُحببة لا تُغرق في الكآبة أو رثاء الذات. وقد كان هذا مقصدها مُنذ البداية، أن تروي قصة مجتمع من داخله بعفوية تبتعد عن عنفوان الشعارات الرنانة وضيق القوالب الجاهزة، وقد قالت المنصوري عن هذا في أحد الحوارات: "حاولت أن أروي قصة أحتفظ خلالها بصوت يدعو لتمكين النساء، ولكني أردت أن أفعل هذا بهدوء، فلست شخصا راديكاليا ولا أحاول الاصطدام بالثقافة، كل ما أردته هو أن أسرد قصتي بحميمية، على أمل أن يتغير منظور الآخرين حيال السينما عندما يرون أنها وضعت وجها إنسانيا على ثقافتهم بدلا من أن تعريها".(2)