عباس فاضل.. مخرج عشق العراق ووثق مآسيه
بعض الأوطان مصيدة ما إن تقع فيها، فإنه لا يمكنك الإفلات. تحاول الابتعاد عنها، تهجرها وتقسم بعدم العودة، فترميك دروب الحياة على أبوابها وكأنك ما أقسمت. على أبوابها تقول لنفسك "نعم هذه بلادي، أذكر أنها جميلة، لا بد وأنها جميلة" قبل أن تضع قدمك الأولى فيها. لا ترفض كثير من الأوطان أبناءها العائدين ولكنها تنكر أي دور لها في ذلك. هل تذكر رفاق الطفولة، جيرانك، مدرستك؟ حسنا هل تذكر بائع الحلوى أمام منزل من أحببتها؟ الخبر السيء حول ما سبق ذكره أنك وإن كنت تذكر هذا كلّه فلا أحد غيرك يذكره على الأغلب.
كان بإمكانه البقاء في باريس، ولمَ قد يقرر أحد العودة من فرنسا إلى العراق بعد خمسة وعشرين عاما قضاها في المهجر. بحسبة صغيرة نعرف أنه عاش خارج بلاده أكثر مما عاش فيها. كان كل ما يفكر فيه عندما غادر بغداد بعمر الثامنة عشر أن يتعلّم الإخراج السينمائي، أن يحقق شغفه منذ الطفولة. على يد كل من إريك رومير وجارن روش، المخرجين الفرنسيين المعروفين، صارت أمام عباس فاضل فرصة لا تعوّض. علمه رومر كل ما يلزم ليكون مخرجا تشتري قناة "آرتي" الفرنسية أفلامه وتعرضها على الهواء، لكن ما لم يعلمه إياه هو كيف يمكن لكاميرا أن تحمي من تصوّرهم. تبدو فكرة مجنونة في عقل مجازف؛ أن تحمي الصورة موضوعها. (1)
تحرك مع عدسة كاميرته الكبيرة من منزل إلى آخر محاولا التقاط لا شيء سوى المعتاد. في فبراير من عام 2002 كانت كلمة واحدة تتردد على ألسنة الجميع في العراق؛ "الحرب قادمة". شعر بأهميّة هذه اللحظة التاريخية ومعها قرر توثيق كل ما يراه. اختار هذه المرّة الطريق التوثيقي، وكم يحتاج العراق من توثيق.
تبادر إلى ذهنه سؤال مُلح: "هل أقضي الوقت مع عائلتي بشكل طبيعي أم أستثمر هذا الوقت بتصوير ما أراه؟" ولأن المخرج ليس كغيره من الفنانين، يحتاج أحيانا إلى التخلي عن ممارساته الحياتية الطبيعية مقابل صنع عمله الفني، فقد سلك عباس فاضل الطريق الثاني فأخرج ثلاثة أفلام وثائقيّة عن العراق كانت على الترتيب: العودة إلى بابل، 2002، نحن العراقيون، 2004، وطن: العراق سنة صفر، 2015. صُوّرت مواد هذه الأفلام كلها بين عامي 2002-2003.
تبدو العوالم التي تقتحمها عدسة فاضل متشابهة، ففي "العودة إلى بابل" كان يهدف للحصول على إجابة لسؤال واحد "ماذا حدث لأصدقائي؟". يقرر في فيلمه أن يزور عددا من أصدقاء طفولته واحدا تلو الآخر ليستعرض أثر الحياة والغياب على معيشتهم. جاءت عودته للعراق بعد دعوة من صديق قديم قال فيها "تعال وانظر كم صارت وجوهنا فوتوجينيك!"،(2) ليجد أحدهم حقق حلم حياته وافتتح دارا لعرض الأفلام السينمائيّة وآخر ترك الدراسة وافتتح ورشة لتصليح السيارات، وآخرين كان لديهم الكثير من القصص كي يحكوها أمام الكاميرا.
أمّا في "نحن العراقيون" فهو بصدد رسم لوحة يكون أبطالها المهمشون من الشعب العراقي من خلال أخيه الذي تتحرك الكاميرا معه مستكشفة عقول وبيوت الفقراء في أزقّة بغداد وأكثر أحيائها عشوائيّة. بعد أقل من سنة من حرب العراق يبدو أن المتغيرات الاجتماعيّة بدأت بالبروز على السطح، من كان ذا شأن في ما سبق صار اليوم محتاجا يد العون. يستعرض عباس فاضل ذلك كله إلى جانب مخاوف وآمال البسطاء الذين "استيقظوا من كابوس الدكتاتورية ليجدوا أنفسهم في واقع جديد تعم فيه الفوضى والعنف".
أما فيلمه الأخير "وطن: العراق سنة صفر" فكان موضوعه الأساسي هو حياة أفراد عائلته قبل وبعد الغزو الأميركي على العراق "الحرب من وجهة نظر الشعب والناس البسطاء متجاهلا تماما السياسيين وأقوالهم" كما يقول. ليكتشف بصحبتهم أنّ العراق الذي عرفه لم يعد موجودا "كان بلدا واحدا وأصبح اليوم بلادا مقسّمة طائفيا".
بين فبراير 2002 ومارس 2003 كانت بحوزة فاضل أكثر من 120 ساعة مصوّرة،(3) في وقتها لم يكن يملك أدنى فكرة عن الشكل النهائي للفيلم وكل ما اهتم به هو التصوير فحسب. كان احتلال العراق حدثا مفصليا يحتاج إلى أكثر من 120 ساعة تصويرية، ومع ذلك فالفيلم بنسخته النهائيّة امتد شريطه الزمني ليقارب ستة ساعات مقسمة إلى جزءين، حمل الأوّل عنوان "قبل السقوط" والثاني "بعد المعركة". رغم أن التصوير كان قد انتهى بعد احتلال العراق بعدّة أشهر، ولكنه لم يرَ النور إلا عام 2015 عندما استجمع عباس فاضل قواه وقرر اتخاذ قرار جريء بتوليف تلك المشاهد ليصنع منها عملا متكاملا. كان القرار صعبا وأخذ نحو 10 سنوات كي يخطو هذه الخطوة.
ليس من السهل مشاهدة هؤلاء الذين غيّبهم الموت شهداء بعد احتلال العراق وهم الذين يعنون له أكثر من أي شخص آخر. كان وفاؤه لهم كبيرا لدرجة أنه صنع فيلما لا يمكن لأي قناة أن تشتريه بسبب طوله الزمني، ولكنه فضّل استخدام المساحة الزمنيّة الكاملة التي أرادها رغم صعوبات التوزيع فقط من أجل تخليد سيرة هؤلاء. (4)
يقضون أوقاتهم في تخزين الطعام وشراء الإسعافات الأوليّة وحفر الآبار في حدائق منازلهم الخلفية، وفي مشاهد مؤثرة، يستخرج أفراد العائلة اللاصق الذي استخدموه سنة 1991 من أجل منع النوافذ من التفتت في حال وقوع انفجار قريب ويعيدون إلصاق نوافذهم من جديد، وكأن دورة حياة العراقي خلال ثلاثين سنة مضت تأبى أن تتغير.
يبدو الفتى حيدر أكثر المتحمسين والمهتمين بشؤون الحرب. لا يخلو حديث له من ذكرها "الحرب قادمة، العالم مقلوب ونحن لا نعلم أي شيء" يقول حيدر ذو 12 عاما. رغم سنه الصغير ولكنه يعي الكثير من أمور الحرب، وهو أمر مستغرب بالنسبة لفتى كان عمره سنة واحدة عند اندلاع حرب الخليج الثانية. لم تكن أحاديثه وحدها عن الحرب ولكن أيضا ألعابه حيث نشاهده يقضي وقته مع أبناء عمومته وهم يلعبون "عسكر وثوّار".
مع الوقت ندرك أن المحرّك الرئيسي للفيلم هو حيدر وأقواله ووعيه المفاجئ لما حوله. في متحف للشمع عن تاريخ العراق يقف حيدر ليصف ما يراه "كانت حياتهم بسيطة قديما، كان لديهم النفط ولكن لم يكن لديهم مشاكل". يتجنّب حيدر كما بقية أفراد العائلة الإتيان على ذكر الرئيس آنذاك صدّام حسين، وبدا واضحا خوفهم من التطرق للنظام الحالي بأي شكل كان، ولكن كل ذلك كان على موعد مع التغيير.
من الأمور اللافتة في أعمال عباس فاضل اهتمامه بالمدينة كمساحة يمكن الاشتغال عليها فنيا. لا يمل من تصوير شوارع العاصمة العراقيّة وأهم أحيائها. يتجنّب الأماكن المشهورة ويفضّل التواجد في أماكن لا نراها عندما نشاهد أي عمل ترويجي حول العراق. في شوارع المدينة الخلفيّة، حيث تنقطع الكهرباء إلا عن اللوحات التي تضيء صور الرئيس السابق صدام حسين، تجد فاضل متجولا هناك يخوض في أحاديث عاديّة عن الحياة اليومية لسكان وعمّال تلك المناطق، هذا هو العراق بالنسبة لفاضل وهذا هو شعبه.
ينتهي القسم الأوّل من الفيلم بزيارة حيدر ملجأ العامريّة الذي تعرّض لمجزرة عام 1991 عندما قصفته الطائرات الأميركية مخلفة أكثر من 400 شهيد عراقي جلّهم من النساء والأطفال. فيما يفتتح قسمه الثاني بمشاهد لأرتال عسكريّة تجوب شوارع بغداد، حواجز، جنود ولغة انجليزية بلهجة الساحل الغربي للولايات المتحدة وسط العراق.
لم يكن الدخلاء هم التغيير الوحيد الذي حلّ على العراق بعد عودة عباس فاضل إليه، بل أيضا يمكن رؤية الخراب في كلّ بقعة من المدينة المنكوبة. حرائق وهدم ودمار وعشرات القصص عن ليالي الحرب الأليمة. أمام وزارة الثقافة يصوّر فاضل زوج أخته وهو يكاد يبكي على المبنى المحترق "إن أردتم الانتقام من شخص أو سلطة فقد فعلتم ولكن لماذا يود أحد الانتقام من الثقافة؟"
في تلك الأوقات كان حيدر لا يزال يتكلم عن الحرب. يرى أن السبب في سقوط بغداد هو الخيانة، ولكن ليس خيانة بعض التابعين لصدام حسين "لم يخُن أحد صدّام، صدام هو من خان الشعب ولهذا سقطت بغداد" يقولها حيدر وكأنه يحوذ حكمة العالم بأكملها. هذه التعليقات الذكيّة لا نكف عن سماعها من حيدر، فحين رواج خبر إلقاء القبض على صدام حسين يخرج العراقيون لإطلاق مكثف للنيران في الهواء ابتهاجا. يقول حيدر "نعم هم مبتهجون لكن السبب الحقيقي وراء ذلك أنها فرصة لتجريب أسلحتهم، ولا يجب تفويتها".
يسجّل الفيلم الغضب المتصاعد إزاء ممارسات قوات التحالف التي تحتل العراق، وأن كثيرا من العراقيين باتوا رافضين لهذا الوجود وإن كانت دوافعهم متباينة. انتشرت أعمال النهب والعنف في البلاد وأصبح جيران فاضل لا يخرجون من منازلهم إلا وأسلحتهم معهم. في ظل هذه الفوضى لا يزال بعض العراقيين يمارسون سلطة غير مستحقة على المواطنين؛ على باب إحدى الكليات الجامعية يمنع الحارس دخول فاضل وحيدر بصحبة الكاميرا لتصوير حفل تخرج أقاربهم، يواجهه حيدر بكل صلابة "سقط صدّام وأصبحت الجامعة ملك للجميع.. لماذا تمنعنا أنت من الدخول؟"
عند نهاية الفيلم يُقتل الطفل حيدر، نودعه بصور ذات جودة متردية لأفراد عائلته يزورون قبره. اغتالته رصاصة من مسلحين مجهولين، ولحق به اثنان من أبناء عمومته بعدها بأشهر، ويهدي عباس فاضل فيلمه هذا إلى أرواح هؤلاء من غابوا فكانوا أكثر حضورا من أي وقت سبق. رحل حيدر، بطل فيلمنا هذا، وكأنه تجسيد لحكاية المأساة العراقية الحديثة.
بعد الغزو أصبح الستالايت في كل منزل، تهافت العراقيون على شرائه لاستقبال قنوات العرب سات والنايل سات وقنوات "القمر الأوروبي". صار بإمكانهم الآن متابعة الأخبار التي كانت محجوبة عنهم، ومشاهدة ما يحلو لهم من برامج. كل ذلك صاحبه تأثير بالغ على سلوكيات العراقيين أمام الشاشة.
قبل الغزو كانت المشاهدة صامتة، لا يملك أحد أن يعلّق على ما يراه لسببين، إما أن ما يراه لا يستحق التعليق فهو قد اعتاد عليه بحلول الآن، وإما أنه يخشى التعليق. وفي زمن ما بعد الحرب تغير هذا كله، صارت مشاهدة التلفاز تصحبها نقاشات حول ما يرونه، ويعبرون فيها عن آرائهم، بعد أن قمعها الخوف كثيرا وانتقلت من شاشاتهم إلى أبواب منازلهم مرتدين زيا عسكريا وحاملين شعار الديمقراطية والحريّة.
في عام 2008 أخرج عباس فاضل فيلمه الروائي الطويل الأول "فجر العالم"(5) وهو دراما عن جندي عراقي من الناجين من حرب الخليج، صوره في مصر لاستحالة القيام بذلك في العراق بسبب تردي الأوضاع الأمنية هناك. لم يكن عباس فاضل المخرج العراقي الوحيد الذي لمع اسمه في السنوات الأخيرة، لكنه بكل تأكيد واحد من أفضلهم، يثبت ذلك عدد من الجوائز التي حاز عليها، وفطنته ووعيه بأهمية اللحظة التاريخية التي يعيشها حين قرر الإمساك بآلة التصوير والبدء بتسجيل ما يجري من حوله، وكأنه بذلك يشقّ لنا نافذة زمنيّة على العراق تقارب في مدتها الستّ ساعات.