"كوميديا النابلسي".. الوجه الجاد لحسب الله السادس عشر
"الصعلوك، العبقري، المغرور" ولد لأسرة أرستقراطية متدينة بشمال لبنان، لعائلة ذات شأن. عمل جده ومن ثم والده قاضيا أول لمدينة نابلس، ولضمان استمرار ذلك الإرث العائلي، أرسله والده إلى مدينة القاهرة حتى يتسنى له الدراسة في الأزهر الشريف، لكنه على العكس من ذلك كله، قرر أن يتمرد على الحياة التي رُسمت له من قِبل أسرته، وعلى المنصب الاجتماعي المرموق، ليطرق أبواب المسارح، وبدلا من أن يغدو فقيها شرعيا صار واحدا من ألمع فناني جيله، هذا لم يكن التقلب الدرامي الوحيد في حياته، فبعد أن ترك إرثا ينيف عن مئة وخمسين فيلما تحتل فيها الكوميديا المساحة الأبرز، آلت حياته بشكل تراجيدي إلى الحضيض، ومات مديونا لا تملك زوجته ثمن الجنازة حتى تكفل بها صديقه الأقرب فريد الأطرش. (1)
"الكوميديا مش إني أمشي على قشرة موز واتزحلق، الكوميديا أرقى من كده وأنا ابتعدت عن هذا، وأظن إني قدمت المعنى الحقيقي الراقي في فيلم حلاق السيدات"
لم يمتلك النابلسي الشكل المعتاد للكوميديان، مثل جسم عبد الفتاح القصري ابن البلد، أو ملامح شكوكو المبهجة أو المغفل مثل إسماعيل ياسين، فاضطرته هيئته لاستخدام وسائله الخاصة لكوميديان خارج الحارة الشعبية الفقيرة، فاعتمدت "كوميديا النابلسي" بشكل أساسي على الانفعال والتحكم في نبرات الألفاظ، وألفاظه الخاصة نفسها بلغة حوارية مختلفة خاصة عند أدائه دور الفتى الأرستقراطي، حتى وإن كان فقيرا فكانت كوميديته في إحساسه المبالغ برفعة شأنه وعزتها مهما بلغت به الحاجة، ما ظهر في فيلم "كبرياء شحات". (1)
"مثلت دور الشاب الوارث المستهتر الذي لا يرعى أية قيمة لأنه كان آفة هذا الوقت، ثم أصبحت صديق البطل المقرب الذي يرافقه ويراقب أفعاله ويسدي له نصائح كانت دائما تنقلب إلى مآسٍ، ثم ظهرت في أفلام عبد الحليم حافظ، "فتى أحلامي"، و"ليالي الحب"، و"شارع الحب"، أفلام كنت فيها الكوميدي الفانتازي الكاراكتير"
ظل النابلسي بعيدا عن أدوار البطولة، ولم يمنحه منتج دور الفتى الأول، على الرغم من أن وجوده يعني ضمان نجاح فيلمه، فلا تستوي الأدوار دونه، ولا ينتج البطل إلا إذا وقف على أكتاف صديقة المتذاكي النحيل. ربما لم يكن النابلسي غير سنيد البطل لكنه استطاع أن يكون بطل أبطال دور السنيد، قاضي الغرام، وحلال مشاكل البطل والمتفاني لمساعدته حتى إذا قادته إلى السجن والضرب وخسارة وظيفته. وكما كان النابلسي "سنيدا" داخل الفيلم، كان كذلك خارجه، فبدأت نجوميته الفنية مع مولد نجوم السينما الغنائية مثل فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي لإضفاء بهجة على أفلامهم بجانب الغناء والرومانسية.
لم يسمح أحد للنابلسي بالنجاح أو الفشل في دور بطل ومن ثم التعرف إلى إمكانياته، فما كان إلا أن ينتج لنفسه فيلم "حلاق السيدات" كأول بطولة سينمائية له عام 1960 لفيلم من تأليفه، مع إسماعيل ياسين في دور ثانٍ، بعدما سنده النابلسي في أفلام حملت اسم إسماعيل ياسين كنجم منفرد.
نجح زيزو، عبد السلام النابلسي، في أن يصبح بطلا، ما دفع رشدي أباظة إلى إنتاج فيلم "عاشور قلب الأسد"، البطولة الثانية للنابلسي عام 1961 من إخراج حسين فوزي، ثم فيلم "قاضي الغرام" عام 1962 من إخراج حسن الصيفي، حتى تخطت بطولته مصر ووصلت إلى لبنان في أفلام من إخراج صديقه محمد سليمان.(1)، (2)، (3)
عمل النابلسي في بدايته التمثيلية مع فرقتي "يوسف وهبي"، و"جورج أبيض" المسرحيتين، وقدم فيهما عروضا باللغة العربية الفصحى التي كان يتقنها بشدة، وبعد أحد عروضه المسرحية التي برع فيها، وكانت عن قصة "يوليوس قيصر"، وفي ليلة العرض الأول لها، وأثناء اندماج النابلسي في أداء دوره التراجيدي انتابت الجمهور نوبة ضحك هستيري، ووقتها طلب منه جورج أبيض البعد تماما عن التراجيديا والتوجه نحو الكوميديا.(3)
لم ييأس النابلسي، وساعده عمله بالصحافة على الوصول للسيدة آسيا وتمثيل دور ثانوي في فيلم "غادة الصحراء"، كما في فيلم "وخز الضمير"، وستة أفلام في الفترة بين 1932 إلى 1936، ومنها "الضحايا"، و"شبح الماضي، و"الهارب"، و"عندما تحب امرأة"، وكان فيها النابلسي الذي لا نعرفه. ولم يدم الحال طويلا حتى انتهت الحرب العالمية الثانية وطغت الروح الكوميدية على المسرح والسينما في محاولة للتغلب على الإحباطات النفسية والإخفاقات الاقتصادية، فزاد الطلب على النابلسي، وكثف من إنتاجه ليصبح السبب الثاني من نجاح معظم الأفلام حتى بداية الستينيات. (1)، (2)
"تراتيل قديسة، وأصداء كنيسة، ابتهال ساجد في المساجد، وصلاة عابد في المعابد، صوتها نور وبخور، ونفحة من عطور،
الحزن طابعها، كأنه مولود معها، ينوح مثل الحمائم، أو كالدعاء في التمائم، كأنه آت من بعيد كالغريب، فيه جفوة وفراق، ولقاء وعناق، هي كما هي في جبين لبنان غرة، وعلى صدره درة، فآه لو أطلقت لصوتها عنانه، ودعمت بالطرب الشرقي كيانه"
(جزء من عتاب النابلسي للسيدة فيروز في مقالته)
كان النابلسي أول قلم في الشرق يكتب مقالات عن السينما والنقد السينمائي في صحيفة الأهرام تحت عنوان "في عالم السينما"، والتي أصبحت أول صفحة فنية، وشارك في إصدار مجلة "آخر ساعة" مع محمد التابعي وأمينة السعيد، وترأس تحرير مجلة "مصر الحديثة"، وفي حلقة برنامج "نجوم على الأرض" قرأ النابلسي مجموعة مقالات أسبوعية فنية كتبها تحت عنوان "نجوم على الأرض"، أخذ عنها البرنامج اسمه، كان النابلسي يكتب مقالاته باستمرار لمجلة الشبكة التي رأس تحريرها جورج إبراهيم خوري رئيس تحرير الشبكة، فكتب شعرا منثورا عن صباح، يوسف وهبي، فريد الأطرش، سميرة توفيق، عبد الحليم حافظ، محمد فوزي، ووديع الصافي الذي كتب عنه:
"صوت ملأ الأسماع صدحا، وضج الناس تصفيقا ومدحا، وما غالوا بل أشادوا وزادوا، لبنان يا نبع العسل ومورد الظمآن والأمل يا سام القمم والقيم والرجال والهمم والهوى والغزل، هواك الشافي، ووديعك الصافي، يعيدان العافية الغالية، ولولا شروده الفني وغيابه الذهني لاتزن ووزن، وحسب واحتسب، ولولا القليل من السمنة والفطنة، لأصبح مثل غصن البان، دنجوان يشار إليه بالبنان، يشفي الطبيب الداء بالدواء، أما هو فيشفي الناس بالغناء دون عناء". (2)،(4)
حكى النابلسي عن تربيته ببيت والديه بلبنان، فكان بيته مدرسة، خاصة مع أب وأم على درجة عالية من الثقافة مثلما اعتبرهما سببا في رصانة لغته وحبه للقراءة والكتابة، واعترف النابلسي مرارا في البرامج التلفزيونية بفضل الأدب عليه وكونه في حياته ركيزة، فعندما بدأ حياته الفنية ساعده الأدب كثيرا، كذلك لغته العربية التي أجادها خلال دراسته لثلاث سنوات بالأزهر، فقبل سنوات طويلة من شهرته كان يحتاج إلى مهنة أخرى ليوازن بين التمثيل والقدرة على العيش.
ربط النابلسي الثقافة بالفنان الناجح، ففي رأيه تطول حياة الفنان أو تقصر اعتمادا على التطوير من فنه وعقله، وعدّ يوسف وهبي وعماد حمدي وأحمد مظهر فنانيين مثقفين، وساعدته علاقته بصباح في التعرف على طقسها اليومي وهو القراءة كل ليلة، وهواية كمال الشناوي وهي الرسم، وقال النابلسي في حلقة برنامج "نجوم على الأرض":
"الفن كمجرد هو بوهيمي، شيء مجنون، وما يقوده، ويهذبه، ويقربه للعقل والناس، هو عقل وثقافة الفنان. العقل ضرورة ملحة ليكون للفنان عقل ورؤية، العقل بمعنى الاتزان، والتفكير، والتدبر، والحفاظ على الشخصية، والحكمة، والثقافة. الثقافة تبلور الفن، وتظهر داخلية الفن للخارج، لا تظهر الفن بسطحيته، بعض الناس تظهر موهبتها في شكلها البدائي، ولكن البقاء للأصلح، لمن يفكر بعقله أكثر" (2)، (5)
"فيه شخصين صداقتي بيهم هي كياني، بحسد نفسي أني شخصين، أنا وفريد الأطرش، وأنا وصباح"
(عبد السلام النابلسي عن أصدقائه)
أثبت فريد الأطرش مرارا للنابلسي أنه الصديق الحقيقي، وفي حادثة مهمة عرف النابلسي الأخلاق الحقيقية الخفية للأمير السوري الأصل فريد الأطرش، فبينما يمر فريد بأزمة مالية شديدة، منعته من دفع إيجار شقته لثلاثة أشهر، مرض النابلسي، ولم يكن معه ما يسدد تكاليف علاجه بالمستشفى، فقررت إدارة المستشفى حجزه بغرفته حتى يدفع ما عليه. يحكي النابلسي أن فريدا لم يبرح جوار سرير النابلسي لحظة واحدة، ولم يخجل من الاقتراض من أجل دفع تكاليف المستشفى وتحرير صديقه. (2)
سألته المذيعة: "كل ما حد ينجب من أصدقائك تروح تعزيه؟!"، فقد اعتبر النابلسي الأطفال هما متنقلا، وكان مؤمنا إيمانا قاطعا بأن تحديد النسل من واجبات هذا العصر، فقد حافظ النابلسي حتى أتم 40 عاما على لقب أشهر عازب في السينما المصرية، حتى خسره أمام "جورجيت سبات". فقد راسلت جورجيت صاحبة الـ 18 عاما النابلسي، فنانها المفضل وابن بلدها لبنان، في سنواته الأخيرة التي عاشها بلبنان، وظلت معجبته المفضلة حتى رد النابلسي على سؤال عدم زواجه للإعلام وقال: "لسه متخلقتش اللي تستحق تتجوز عبد السلام النابلسي"، وكان الرد الذي أغضب جورجيت لتتصل به وتوبخه قائلة: "الستات موجودة بس أنت اللي متستاهلش"، فطال النقاش بينهما، وكان اتصالها المنتظم به وتجادلهما متنفسا له، وبدأت علاقتهما تتوطد على الهاتف حتى طلب لقاءها.
لم يكن من السهل على هذه العلاقة أن تكتمل إلا إذا كان النابلسي أحد أطرافها، والذي لم يدع فرصة لحبيبته للتفكير في الزواج فقال لها: "دي فرصة عمرك"، فبعدما اعترف الحبيبان بمشاعرهما متحدييْن فرق سن كبير واختلاف ديانتهما وبالطبع رفض أسرتها، أرسل النابلسي بسيارة أمام منزل جورجيت وفي حديقتها لتهرب معه ويعقدا قرانهما الذي لم يمر عليه ساعة حتى حضر أهلها واستعادوها عنوة ولم يعترفوا بالزواج ولم يقبلوا بالحوار بعد ذلك، ليكرر النابلسي فعلته ويرسل بسيارة لإحضار جورجيت من منزلها في الخفاء.(2)
لم تنته الحياة العفوية المضيئة لأرستقراطي محب وكوميديان بشكل قد يحبه من ضحك يوما على قفشاته، فبمنتصف فترة الستينيات بلغ الخلاف بين النابلسي ومصلحة الضرائب المصرية للحجز على ممتلكاته، بعد فشله في تسديد دين كبير مستحق على نشاطه الفني، وتدخلت أم كلثوم لتسوية الأزمة أو تخفيضها، فلم يكن النابلسي يملك قسطا شهريا ليدفعه للضرائب خاصة بعد حجزها على شقته بالزمالك بمحتوياتها.
اضطر النابلسي للعودة إلى لبنان، مسقط رأسه، والعمل مديرا لشركة الفنون المتحدة للأفلام، ولعب دورا مهما في الحركة السينمائية اللبنانية، مخفيا عن الجميع سر مرضه بالقلب، مع ادعائه بأنها آلام بسيطة بالمعدة، كذبة يكررها مع كل حبة دواء يتناولها، حتى لا تتوقف عروض المنتجين لأداء أدوار، ليموت النابلسي وحيدا في غرفته أثناء رحلة لتصوير فيلم مع صباح رافضا طلب طبيب حتى لا يستبعده المنتج.(6)،(7)