شعار قسم ميدان

أخرج تيتانيك وأفاتار.. جيمس كاميرون الذي لا تعرفه

ميدان - جيمس كاميرون

قبل عشرين عاما من الآن، وفي ليلة صاخبة جدا، صعد مخرج اسمه جيمس كاميرون ليتسلم من وارن بيتي جائزة الأوسكار لأفضل مخرج عن رائعته "تيتانيك" (Titanic) ويصرخ بعدها: "أنا ملك هذا العالم". كيف لا يقول ذلك وقد فاز فيلمه بإحدى عشرة جائزة أوسكار، نال منها ثلاثة كأفضل مُخرج ومونتاج وفيلم.

    

جيمس كاميرون.. مُغامر يقاوم الزمن

"إذا انتظرت الوقت المناسب لإنجاب طفل، ستموت دون أن تنجب، أعتقد أن صناعة السينما تشبه كثيرا هذا الأمر، كل ما عليك أن تملك زمام المبادرة وتبدأ الأمر، حتى لو كان ذلك الأمر سيئا"

(جيمس كاميرون)

  

دائما ما يُقال إن السينما ابنة البيئة، تتأثر بها وتأخذ موضوعاتها منها، وهذا يتضمن الأعراف والقوالب المسموح بها في تلك البيئة، لذلك يمكن تفسير عدم وجود أفلام عن الشذوذ في الأربعينيات، رغم أن ذلك لا يعني بأن الأربعينيات خلت من الشذوذ، فالعرف السينمائي قيد ثقيل حتى على صناع السينما المتمرّدين.

    

    

عندما بلغ سبعة عشر عاما، التحق كاميرون بجامعة فوليرتون لدراسة الفيزياء، تحول بعدها للغة الإنجليزية ثم ترك الجامعة، عمل سائق شاحنة، وكتب في أوقات فراغه، اهتم بصناعة الأفلام والتكنولوجيا الخاصة بها، وبعد رؤيته لفيلم كيوبريك "2001: ملحمة الفضاء" (2001: A Space Odyssey) انبهر كاميرون وأدرك أن الفيلم قد يكون أكثر من حكاية، من الممكن أن يكون قطعة فنية تملك تأثيرا كبيرا على خيالك. وبعد رؤيته لفيلم "حرب النجوم" (Star Wars) في 1977 ترك عمله كسائق شاحنة والتحق بصناعة السينما، قرأ كتاب سيد فيلد عن السيناريو، وكتب سيناريو لفيلم خيال علمي اسمه "Xenogenesis" مدته 10 دقائق رفقة صديقيه ويليام ويشر وراندال فريكس. (1)

    undefined

  

في 1991 كان جيمس كاميرون أول مُخرج على الإطلاق يتجاوز مئة مليون دولار كميزانية لفيلمه "تيرميناتور 2: يوم الحساب" (Terminator 2: Judgment Day)، وبعدها بستة أعوام أصبح أيضا أول مُخرج يكسر حاجز المئتي مليون دولار في صناعة فيلمه "تيتانيك" (Titanic)، وبعد اثني عشر عاما يفعل الأمر ذاته مُجددا، ويصبح أول من يتجاوز حاجز الثلاثمئة مليون دولار في صناعة فيلمه "أفاتار" (Avatar). الشيء المُشترك بين الأفلام الثلاثة -علاوة على نجاحهم الساحق واشتراكهم في اسم المخرج- أن جميعها أفلام عظيمة، ستبقى في الذاكرة مهما مر الزمن.

    

"خلق العوالم أمر شاق، أنا سعيد لأن جيمس يفعل ذلك، هنالك عدد قليل من المجانين في العالم ليفعلوا ذلك، فعلتها مع "حرب النجوم" والآن جيمس يتحدّى ذلك، إنه عمل كبير، أنا أؤمن أن جيمس سوف يذهب أبعد مما يتخيّل أي شخص"

(جورج لوكاس) (2)

     

جيمس كاميرون وملامح بصريّة

undefined

  

في كتابه "تاريخ السينما الروائية" (3) يفسر جيمس كوك رؤية العين للأفلام بأنها ظاهرة بصريّة حيث يحفظ المخ الصور المتتابعة التي تتلقاها شبكية العين بالشكل الذي يجعلها حركية ويسمح بالخداع البصري، هذه النظريّة حفزت مجموعة من صنّاع السينما الحديثة بالاهتمام بالشكل البصري للفيلم، مبررين ذلك بأن المُشاهد لا ينبغي أن يكون سلبيا في تلقيه للفيلم، بل يجب أن ينتقل ما وراء الشاشة إلى ما أمامها، يجب أن يكون مُتحفزا ليُعايش تجربة الشاشة الكبيرة، بصريا وشعوريا، تماما مثلما هرب الجمهور من صالة العرض عند اقتراب القطار من الشاشة في فيلم الأخوين لوميير "Arrival of a Train at a Station"، وهذا ما يراه الكثيرون جوهر السينما.

  

في 2009 خرج "أفاتار" (Avatar) إلى النور كصفعة قوية لمن يحاولون الفصل بين جمال الصورة وعمق القصّة وصناعة فيلم مُمتع، تدور أحداثه في 2154 عن جندي مشلول يُدعى جايك سولي، يدخل برنامجا سريا يُدعى "أفاتار" (Avatar) كمعوض لتوءمه المتوفي، يستهدف البرنامج السيطرة على كوكب "بونادورا"، يتم دمج جينات جايك مع جينات المخلوقات البدائية التي تستوطن الكوكب، لتخليق مجسد يقوم بوظيفة الجندي المشلول في ترويض سكّانه وتسهيل مهمة القوات العسكريّة في السيطرة على الكوكب.

  

استغرق المشروع من جيمس كاميرون خمسة عشر عاما ليكتمل، انتظر الرجُل أن تتطور التقنيات لتناسب ما يريد تنفيذه ولكن هذا لم يحدث، دفعه ذلك لابتكار تقنياته بنفسه بمُساعدة رفيقه القديم فينس بيس، أعاد خلق عالم مُكتمل لكوكب "بونادورا" بمساعدة ريك كارتر وروبرت سترومبرج مصممي الإنتاج، طور لغة خاصة لسكّان الكوكب عن طريق خبير اللغات بول فرومر، واستهلك ميزانية قُدّرت بين 250 – 500 مليون دولار.

  

هُناك مخرجون ذوو رؤية بصريّة، وهُناك جيمس كاميرون الذي يضرب بقوة في كُل مرة يصنع فيها فيلما، كاميرون مُخرج رائد، حقق قفزات تقنية عظيمة في "الغرباء" (Aliens) و"الهاوية" (The Abyss) و"تيرميناتور 2″ (Terminator 2) ثم في "تيتانيك" (Titanic) وأخيرا في "أفاتار" (Avatar)، يزاوج الرجل بين مؤثرات "CGI" وبين تقنية "Live Action"، وابتكر تقنية جديدة أسماها "The Volume"، اعتمدت على قناع وجه حساس جدا مدعم بكاميرا دقيقة لالتقاط تعابير الوجه، وفوق كُل ذلك طوّر كاميرون نظام "Fusion Digital 3-D Camera" بالشكل الذي أتاح للمثلين إمكانية رؤية المؤثرات التي تحيط بهم بدلا من الوقوف أمام خلفية خضراء أو زرقاء والاعتماد على خيالهم في رؤية المشهد. صورة الفيلم عظيمة للدرجة التي تشعرك أن عينيك لم تكن تعرف حتّى أنها ستشاهد شيئا كهذا، تجعل المُشاهد داخل الحدث، يترقب ويقلق لمصير شخصيّاته، ولا تجعل منه مجرد فيلم صورته برّاقة لكنها لا تخدم أحداثه.

    

  

كاميرون مُميز جدا على مستوى الاهتمام بالألوان وأهميتها في عرض الفيلم، فيلم "تيتانيك" (Titanic) كمثال، يولي كاميرون أهمية خاصة للأحمر والأزرق، نرى الأحمر في شعر روز وغرفتها وفي السفينة، ونرى الأزرق في المياه المُحيطة وخصوصا قرب الختام، هذا الأمر يجعل المُشاهد -دون أن يدرك- يستنبط أن هناك أمرا إيجابيا سيحدث أثناء ظهور اللون الأحمر وتدرجاته، فالمشاهد التي تجمع بين روز وجاك تعطي الإحساس بالدفء، والعكس عند ظهور اللون الأزرق، يشعر المشاهد بالخطر حين يرى القبطان جبل الثلج، ويستمر الأمر في حركية الكاميرا، يرى المشاهد جاك من أعلى بينما يرى روز من زاوية ضيقة، وهذا يظهر الفوارق الطبقية بين كلا الشخصيتين.

  

"التقط الكاميرا وصوّر شيئا، لا يهم إن كان صغيرا أو غريبا، لا يهم أن يكون أصدقاؤك وأختك أبطالا فيه، ضع اسمك عليه. الآن أنت مُخرج وما عليك بعد ذلك إلا أن تتفاوض حول ميزانيته وأجرك"

(جيمس كاميرون)

   

كاميرون كاتب سيناريو أصيل

"كتابة سيناريو بالنسبة لي يشبه الألعاب السحريّة، الأفكار تشبه الكرات في الهواء، كم عدد الكرات التي تستطيع التقاطها في المرة الواحدة؟ هذه الأفكار يجب أن تجمعها، وتتبلور معا في شكل واحد"

(جيمس كاميرون)

    

بعيدا عن التميّز التقني لأفلامه، كاميرون عظيم ككاتب سيناريو وسينمائي أصيل، "أفاتار" (Avatar) مثلا برؤية أوسع قد يكون مزيجا من "يرقص مع الذئاب" (Dances With Wolves) و"القيامة الآن" (Apocalypse Now) ولكن بنظرة خياليّة، وفوق كُل ذلك كاميرون يستلهم نفسه، غزو فضائي مثل "الغرباء" (Aliens)، وقصة حُب بين شخصيّات مُختلفة البيئة مثل "تيتانيك" (Titanic).

    undefined

  

عندما سُئل كاميرون عن سبب وفاة جاك في نهاية "تيتانيك" (Titanic) ولماذا لم تأخذه روز بجوارها في قارب النجاة، أجاب مازحا أن هذا حدث لأن صفحة 147 في السيناريو تقول ذلك، واستمر يقول إن السينما فن، وما يحدث هو خيار فنّي ولا يتعلق بالفيزياء، لو لم يمت جاك لأصبح الفيلم بلا معنى، وكون المُشاهد تألم لوفاة جاك فهذا يعني أنه استوعب رسالته، فهو فيلم عن الموت والعزلة. (4)

 

كاميرون في بناء السيناريو يدرك جيدا الفارق بين السطحية والبساطة، في "أفاتار" (Avatar) لا يوجد حدث غير مبرر أو شخصيّة غير مفهومة، يوظّف قصّة الحُب بين جايك والأميرة نيتيري لخدمة رسالته، قصة رومانسيّة بسيطة بدأت بإنقاذ تقوم به الأنثى، وتوضع ضمن الملحمة لتختبر العقليّة والشعور الإنساني، مثلما فعل من قبل في "تيتانيك" (Titanic)، قصّة الحب في "تيتانيك" (Titanic) بسيطة جدا تبدأ وتستمر بسلاسة مدهشة ولا تبدو أبدا بأنها دخيلة على الحدث، وتخدم عُمق الفيلم.

  

بنظرة إلى سيناريو "أفاتار" (Avatar) و"تيتانيك" (Titanic) سنجد أمورا متشابهة رغم الفوارق الظاهرة بين الفيلمين، بطل "تيتانيك" (Titanic) يضحّي بحياته لينقذ حبيبته، وبطل "أفاتار" (Avatar) يموت -رمزيا- لينقذ الكوكب. روز في "تيتانيك" (Titanic) مقيدة بتقاليد العائلة لكنها تشعر بالحريّة مع جاك، وكذلك بطل "أفاتار" (Avatar) لديه إعاقة تمنع حركته لكن حين يدخل آلة التجسيد يصبح حرا، كلا الفيلمين يمكن تأويلهما كأساطير دينيّة، "تيتانيك" (Titanic) يستلهم الطوفان، بينما "أفاتار" (Avatar) يستلهم قصّة المسيح، جايك مشلول كالمسيح المصلوب، المسيح بُعث وجايك أيضا سيعود من الموت، عن طريق آلة التجسيد التي تشبه التابوت، لكنّه لن يعود في صورة بشريّة، البشر لا يستحقّون ذلك.

  

undefined

  

"أفاتار" (Avatar) ليس للمُتعة فقط، بل بين ثناياه هجاء وقضيّة وتساؤلات، هجاء واضح للطبيعة البشرية، وقضيّة عالمية عن نضال الأمم ضد الاحتلال الساعي وراء الثروات، وتساؤلات عن ارتباط الكائنات ببيئتها، وعن العجز والرغبة في التغيير حتّى وإن كان أمرا يصعب تخيّل حدوثه، وهل يمكن أن يدافع الإنسان عن قضيّة ربما تضر بجنسه البشري؟ وكذلك "تيتانيك" (Titanic) الذي يجمع بين قصّة رومانسيّة وفيلم كوارث، وينقد بشدّة الفوارق الطبقية بين البشر.

  

بعد كُل مرة أشاهد فيها فيلما له يدرك المرء لماذا ينتظر فيلمه القادم بشدّة، مُخرج مُتفجّر وكاتب موهوب، صانع أفلام عنيد وفنّان حالم مُتحدٍّ ينشد الكمال، "راوي قصص عاطفي جدا" كما قال عنه سبيلبيرج. (5) 

المصدر : الجزيرة