"بوهيميان رابسودي".. الفيلم عندما يصبح أقل إبهارا من الواقع

حدث ذلك في اليوم الأهم من تاريخ موسيقى الروك أند رول. ما يزيد على البليون شخص جلسوا أمام شاشات تلفازهم حول العالم يشاهدون حفل "لايف آيد" الموسيقيّ الضخم، حيث اجتمع أهم المطربين والفِرق في الولايات المتحدة وإنجلترا على خشبتَيْ مسرح ويمبلي وجون إف كينيدي في الوقت ذاته ليغنوا أشهر أغانيهم بهدف جمع التبرعات للمجاعة في إثيوبيا. أدّى الجميع أفضل ما عنده، لكنّ أحدا لم يستطع أن يُضاهي أو حتى يقترب من أداء فرقة "كوين" ومغنيها الرئيسي فريدي ميركوري. [1]
بفك عُلوي بارز وملامح آسيوية تشي بأصله غير الأوروبي بالإضافة إلى ميوله الجنسية المغايرة للمعتاد، كان من الطبيعي أن يكون فريدي ميركوري شخصا خجولا ووحيدا. لكن كل هذا كان في حياته اليومية، حيث يجد نفسه شخصا مختلفا وغريبا. لكن فوق خشبة المسرح، وأمام الآلاف من الجماهير، يأخذ غرابته واختلافه لأبعد مدى، يرتدي ثيابا غرائبية، غالبا من الجلد، تكشف من جسده أكثر مما تُخفي، ويزيد مظهره غرابة على غرابته قصّات شعره غير المعتادة في بداية حياته الفنية ثم شاربه الكث بعدها ببضع سنوات. فور أن تُمسك يداه الميكروفون، يبدو كما لو أن مسًّا من السماء قد أصابه، يضرب صوته النغمات العالية المميزة لفرقته برشاقة تجعل الأمر يبدو سهلا، ويتحرك فوق خشبة المسرح وكأنه قد وُلد فوقها وعاش حياة بأكملها عليها، يتلوى جسده بليونة مع إيقاع الأغنية ممسكا بحامل الميكروفون، مُحولا إياه تارة لجيتار خيالي يعزف عليه، وتارة لعصى تشاركه الرقص. كانت مثل تلك الطاقة التي يبديها على المسرح كافية لإلهاب الأعداد الغفيرة من الجماهير الذين جاءوا ليشاهدوه، فتنتقل حماسته إليهم، ويشاركونه اتّقاده.
لهذا، لكل تلك الفرادة والاختلاف الذي تمتع به فريدي ميركوري في حياته بعيدا عن الجماهير وأمامها، كان من الغريب أن يأتي فيلم "بوهيميان رابسودي" الذي يتناول حياته بمثل ذلك القدر من النمطية، والاختيار الآمن لأكثر الطرق اعتيادية لرواية قصته وحياته التي هي أبعد ما تكون عن المعتاد.
يبدأ الفيلم بمشاهد قصيرة قُبيل حفل "لايف آيد"، واضعا إيّانا عند أوج نجاح وشهرة فرقة "كوين" ومغنيها الرئيسي فريدي ميركوري. وقبل أن تبدأ مشاهد الحفل الأسطوري، يرجع بنا للخلف، للحظات البداية، حيث لم يكن لفريدي ميركوري ولا لكوين وجود بعد.
مكان فريدي ميركوري كان يعيش "فاروق بلسارة"، المهاجر الخجول الذي يعمل حمّالا في المطار ويهوى موسيقى الروك آند رول فيذهب كل ليلة لسماعها في النادي الليليّ، ذلك النادي نفسه الذي كان يعزف فوق خشبته الصغيرة عازف الجيتار براين ماي وعازف الطبول روجر تايلور مع مغنٍّ مغمور أمام جمهور ضئيل. يخبرنا الفيلم هكذا أنه منذ تلك البداية المتواضعة وحتى حفل "لايف آيد"، كانت هنالك رحلة طويلة مليئة بالتقلبات والعقبات سيقطعها بلسارة، الذي سيصير ميركوري عمّا قريب، مع "كوين"، ونجلس نحن في انتظار أن يقصها علينا.
لكن يأتي قص الفيلم لتلك الرحلة أسيرا لقوالب أفلام السِّيَر (biopic) بشكل جعل أكثر من ناقد يشير إلى أنك إن أزلت اسمَيْ فريدي ميركوري وفرقة كوين من الأحداث ووضعت مكانيهما اسم أي مغنٍّ وفرقة أخرى، فإنّ أحدا لن يلاحظ الفرق. فيتبع الفيلم النمط التقليدي للبطل الموهوب الذي يبحث عن فرصة وفور أن يجدها يذهب من نجاح لنجاح، حتى تهدد عقبة كبيرة طريقه، لكنه لا يلبث أن يتخطاها ويصل إلى القمة. [2]
وحتى ذلك النمط المعتاد لم ينجح الفيلم تماما في أن يُضفي عليه الشحنة العاطفية التي كان من الممكن أن يحملها. فلم تؤسس البداية بشكل جيد أو عميق كفاية لحياة ميركوري قبل الشهرة حتى نشعر بحجم الفارق الذي طرأ عليها بعدها، ولا أعطى مساحة كفاية للفترة ما بين مقابلة ميركوري لتايلور وماي وبين تأسيس كوين والصعود للشهرة، فيبدو في الأحداث كما لو أن النجاح كان واقفا عند عتبة الباب، منتظرا أن يمر عليه أعضاء الفرقة حتى يغمرهم بلا جهد يُذكر من جانبهم. وكذا يأتي تصوير الفيلم لخلفيات الأغاني الأيقونية التي ألّفتها الفرقة لتصير جزءا من الثقافة الشعبية على غرار "Bohemian Rhapsody" و"We Will Rock You"، فيُمر على خلفيتها بشكل سطحي وسريع.
ويبقى أكثر شيء تناوله الفيلم بسطحية مُضيّعا إمكانات حقيقية لتناول عميق هو شخصية فريدي ميركوري نفسها. فتلك الشخصية المركبة المليئة بالتناقضات، تلك الروح التي ظلّت تعاني من الخجل والاغتراب فأخذت تغلّفهما بطبقة من غرور وقسوة في الحياة اليومية، ولم تُجِد التعبير عن نفسها قط بوضوح وطلاقة مثلما فعلت على خشبة المسرح الذي ظلّت تعاني بعيدا عنه من وحدة شديدة، لم يعطها الفيلم المساحة الكافية في أيٍّ من أجزائه. نرى فريدي في النصف الثاني من الفيلم أثناء كبوته يداوم على تناول الخمر وإقامة الحفلات الماجنة التي اشتهر بها، كما يخبر المحيطين به أنه يشعر بالوحدة غير مرة، إلا أن ذلك كله يأتي بشكل عابر لا نشعر معه أن تلك الوحدة والإحساس بالاغتراب كانا جزءا أصيلا من حياة فريدي وتكوينه وليس فصلا عابرا مصاحبا لكبوته كما صوّره الفيلم. ولم يتوقف تصوير الفيلم لموضوعه بشكل مغاير للحقيقة عند تلك النقطة فقط، بل امتد لأنحاء أخرى منه أيضا. [3][4]
سيكون من المجحف وغير الواقعي تماما أن ننتظر من فيلم مُدّته ساعتان أن يقول لنا كل شيء عن حياة فريدي ميركوري وفرقة كوين، لكن بالإضافة إلى حذف الكثير من التفاصيل كما كان متوقعا من الفيلم أن يفعل، فإنه أجرى ضغطا كبيرا لأحداث جرت على فترات زمنية واسعة ووضعها في نطاق ضيق للغاية ووراء بعضها البعض بشكل غير دقيق أو حتى واقعي بالمرة.
يحدث هذا عند البداية، فبعد دقائق معدودة من ترك المغني الأساسي لفرقة تايلور وماي لهما، يجدان فريدي ميركوري أمامهما يعرض عليهما الانضمام للفرقة، ليس هذا فقط، ففي تلك الليلة نفسها، والنادي الليليّ نفسه، يقابل ميركوري ماري أوستن التي ستصير حبيبته قبلها بقليل. يتكرر ذلك الضغط للأحداث عند نهاية الفيلم، ففي صباح واحد يعثر ميركوري على حب حياته، ويزور أهله ليتصالح معهم، ويصعد مسرح ويمبلي ليؤدي أداء أسطوريا في حفل "لايف آيد".
ورغم اللاواقعية الشديدة التي تم بها ذلك الضغط، فإنه يبقى شيئا يمكن اغتفاره بجانب تفصيل تاريخي آخر صوّره الفيلم بشكل غير دقيق لإضفاء مشاعر مُصطنعة على أحداثه. فيصوّر الفيلم أن فريدي ميركوري قد علم بإصابته بالإيدز، الذي سيتسبب في موته لاحقا عام 1991، قبيل حفل "لايف آيد" بفترة وجيزة، ما يضفي على أدائه شحنة عاطفية مُؤثرة. لكن في واقع الأمر، فإن فريدي لم يعلم بإصابته سوى بعد ذلك التاريخ بعامين كاملين. [5]
على أكثر من جانب، تبدو إخفاقات الفيلم في التعمق داخل شخصياته وقصتهم جزءا أصيلا من الإخفاقات المتعددة لأفلام السِّيَر بشكل عام. فذلك النوع من الأفلام إما أن يُقربنا من موضوعاته ويجعلنا نشعر كما لو أننا عرفناهم بشكل شخصي، وإما أن يرسم لهم صورة باهتة تنقصها الروح فنخرج منها لا نعرف عنهم سوى المعلومات العامة الموجودة في أي كتاب أو موقع. تقول الناقدة كايلي دونالدسون عن هذا: "تسعى أفلام السِّيَر لأن تكون فهما للأشخاص، فهي تراهم كالأحاجي يمكن حلها في ساعتين أو أقل من الزمن، محاولة أن تحلل الأسباب التي جعلت أيقونة ما تتخذ الشكل الذي اتخذت. يجهد فيلم "بوهيميان رابسودي" ليصنف حياة ميركوري ويضعها في فصول لها نهايات مريحة سترضي أهداف الفرقة*، لكن حيوات الناس ليست أدوات حكي ولا عِبَرا ليتعلم منها المشاهدون. نحن لا نذهب لمشاهدة أفلام السِّيَر حتى نرى درس تاريخ، لكننا لا نستطيع تخطي حماستنا للأشياء المُبسطة".[6]
ومع كل تلك المشاكل التي عانى منها الفيلم على مستوى القص والإخراج اللذين جاءا في أكثر الأشكال نمطية، فقد أنقذه من الفشل وأضفى عليه شيئا، ولو ضئيلا، من روح واتّقاد ميركوري أداء الممثل الأميركي من أصل مصري رامي مالك للشخصية. عرف رامي الأضواء من خلال بطولته لمسلسل "مستر روبوت"، والذي لعب فيه دور مخترق حواسيب انطوائي، شخصية أبعد ما تكون عن نجم الروك فريدي ميركوري، لكنه نجح في الإمساك بتفاصيل ميركوري بشكل محكم، وإن لم يترك مساحة كبيرة للإبداع، ما جعل أداءه يبدو تلقائيا ولا يقع في فخ الاصطناع.
احتاج مالك أن يبذل الكثير من المجهود ليصل إلى ذلك التجسيد، مجهود أكثر مما بذله في حياته كلها استعدادا لأي دور، كما أدلى الممثل في لقاء. كان من أحد الأشياء التي فعلها هو ارتداؤه لأسنان صناعية تُحاكي بروز فك ميركوري العُلوي، يروي مالك عن هذا: "كان من الصعب عليّ أن أعتاد على الأسنان في البداية. ففور أن وضعتها داخل فمي قبل التصوير بعام، شعرت بالتزعزع وانعدام الثقة، كما لو أنني أقف على كعوب قدمي، أحسست بالانفصال عن نفسي. قادني ذلك الشعور بانعدام الثقة لتغطية فمي وأسناني، حينها، كنت أشاهد الكثير من الفيديوهات لفريدي ميركوري، ورأيته يفعل الشيء نفسه. لكنّ شيئا آخر حدث، بدأت محاولة التعويض عن ذلك العيب بجسدي، أخذت أتموضع عند الوقوف بشكل أفضل، فاردا جسمي، جالسا بشكل مستقيم تماما، وهذا شيء تراه أيضا يفعله. لا أعرف إن كان هذا شيئا قد أثّر فيه، أم أنه وُلد برشاقته تلك، لكنه أعطاني وسيلة لأفهمه بشكل أفضل".[7]
————————————————–
الهوامش:
لا يزال روجر ماي وتايلور على قيد الحياة، وقد شاركا في إنتاج الفيلم ويقال إنهما تدخّلا في السيناريو.