شعار قسم ميدان

"العبقري المجنون".. كيف صورت الدراما التلفزيونية المرض العقلي؟

midan - series
مقدمة المترجم
هانيبال لكتر، شيرلوك هولمز ومونك، شخصيات درامية أسَرت مشاهدي الدراما التليفزيونية، والعامل المشترك بين الثلاثة هو المرض العقلي. تناقش ريبيكا بيرن من جامعة نيوكاسل تصوير المرض العقلي في دراما التلفاز، ومدى تشابهه مع واقع المرض والمتعايشين معه.

             

نص التقرير
كانت الشخصيات المُصابة بالأمراض العقلية في الماضي على هامش دراما التلفاز، وغالبًا ما تلعب دور الشرير، أو الضحية، أو الشخص المرِح المضحك، لكنَّ حضورها الدرامي تزايد في الأعوام الماضية، إذ يستخدمها صناع الدراما في تحريك الحبكة، أو إضافة عنصر الإثارة إلى أعمال الدراما الإجرائية أو دراما الغموض ودفع الملل عنها.

         

بدأت هذه الموجة في عام 2002، مع المسلسل الأميركي "مونك Monk"، وبطله "المحقق المُصاب بالوسواس القهري" الذي يحمل الاسم نفسه. ثمَّ جاء مسلسل "إدراك Perception" ليقدم د. دانيال بيرس، طبيب الأمراض النفسية والعصبية المُصاب بالفصام الارتيابي، وتُساعده الهلوسات الناجمة عن المرض في حل الجرائم الغامضة.

           

وكاري ماثيسون، العميلة بالاستخبارات المركزية الأميركية في مسلسل "الوطن Homelan، التي تكشف غموض القضايا عن طريق حدسها تجاه عدد من الإرهابيين المشتبه بهم. تمتلك كاري حدسًا قويًا نتيجةً لنوبات الهوس التي تمر بها بسبب الاضطراب ثنائي القطب. تشرح كاري ما تمر به في هذه الأوقات قائلةً: هناك تلك الفُرجة، حين تسري فيك كل تلك الطاقة المسعورة، لكنك ما زلت واعيًا، وما زال تفكيرك منطقيًا، تلك هي الأوقات التي أؤدي فيها بأفضل ما يكون.

          

          

تتوقف كاري عن تعاطي دوائها في الحلقة نفسها، لكي تعرف من يحاول قتلها، وتنجح في ذلك، لكن بعواقب شخصية وخيمة، منها الانفصال عن خليلها. لقد بحثتُ في تصوير الشخصيات المُصابة بالأمراض العقلية في العروض التليفزيونية، وميزت 18 شخصية رئيسية، و14 شخصية ثانوية أو من بين طاقم العمل، في العروض ما بين عامي 2006 و2016، سبعة من بين هذا العدد الصغير يمتلكون "مهارات خاصة" بفضل أعراض المرض العقلي.

 

هي موجة جديدة على التلفاز، لكنها امتدادٌ لتاريخ طويل من ربط أعراض المرض العقلي بالقدرات الخاصة. كانت قدرة كاساندرا على التنبؤ مرتبطة في الأساطير الإغريقية القديمة بـ"جنونها". ويزخر الإنترنت في يومنا هذا بالعديد من التعبيرات الملهمة، التي تربط الجنون بالعبقرية.

          

لا شك أن كتاب عروض التلفاز يحاولون خلق شخصيات تتعايش مع المرض العقلي تعايشًا أكثر إثارة وأقل نمطية. تضمنت الشخصيات في نطاق دراستي عالمي أعصاب، وطبيبين، ومحامٍ رفيع المستوى، وعميلة بالاستخبارات المركزية الأميركية، وضابطي شرطة. غير أن هناك جوانب مقلقة في هذه الموجة، منها تصوير أن الامتناع عن أدوية العلاج النفسي قد يمنحك شيئًا من المعرفة والقدرات المميزة. وفي حين يُمكن للعلاج الكلامي أن يسير يدًا بيد مع العقاقير في علاج حالاتٍ بعينها، لا يظهر الأطباء والمعالجون النفسيون بقوة في هذه العروض، وإن ظهروا، يكونون في الأغلب واهمين، أو عديمي الكفاءة، أو حتى ذوي ميولٍ شريرة.

 

افتراءٌ على الأدوية
تمتنع كاثرين بلاك، طبيبة الأمراض العصبية في المسلسل الدرامي الأميركي "Black Box"، عن تعاطي الأدوية المعالِجة للاضطراب ثنائي القطب، في الحلقة الأولى من المسلسل، لكي تتمكن من حل قضية مستعصية. تسمي كاثرين هذا النمط بـ"تاريخ من عدم الامتثال لتعليمات الطبيب". وبسؤالها عن السبب، تقول كاثرين: لأنها نشوة لا تصدق. حين أؤدي عملي بأفضل ما يكون، تغدو الحياة أجمل.

           

           

بالمثل، يعمل دانيال بيرس أستاذًا في علم الأعصاب ومستشارًا بمكتب التحقيقات الفيدرالي في مسلسل "Perception"، في حين تنتابه أعراض الفُصام. يقول بيرس في الموسم الأول من المسلسل إنه قد اختار الامتناع عن تلقي العلاج لأنَّه يصيبه ببلادة العقل وفتور المهارة، وحين يذكره صديقٌ (يتضح فيما بعد أنه مجرد هلوسة) بأن أعراض المرض تراجعت حين تلقى العلاج، يرد بيرس: ولم يكن بمقدوري التركيز لمدة تكفي لإنهاء أحجية سودوكو لعينة، كنتُ أعجز عن الكتابة والعمل.

      

يعترف بيرس بأن الأدوية يمكن أن تمثل "معجزة" لبعض الناس، لكنَّه لا يعتبرها خيارًا علاجيًا لحالته. ينطبق هذا على كثير من الشخصيات التي قابلتها في أبحاثي، ممن يختارون المرور بالأعراض السلبية بدلًا من التخلي عن هِباتهم وتفرّدهم. لا يبدو العلاج خيارًا بالنسبة لهم، ومن بدأوا في تناول الأدوية يمتنعون عنها لاحقًا (دون استشارة الطبيب) بسبب الأعراض الجانبية وفتور المهارات، أو الاحساس بفقدان النفس. على سبيل المثال؛ يتلقى مونك، في الموسم الثالث من المسلسل، علاجًا تجريبيًا يحسن حالته العقلية كثيرًا، ويجعله سعيدًا على حساب قدراته في التحري، واتصالاته بشبح زوجته الراحلة ترودي.

             

قلَّما تُظهر هذه العروض العلاج النفسي بصورة واقعية، فلا هو بالمعجزة ولا هو باللعنة. يُساعد العلاج النفسي كثيرٌ من المتعايشين مع المرض العقلي في السيطرة على الأعراض السلبية للمرض وممارسة حياتهم اليومية، وفي بعض الأحيان، يُعينهم على البقاء. نحتاج إلى مزيدٍ من الأبحاث لكي نقلل الأعراض الجانبية لبعض العقاقير، ونفهم أيها يصلح لكل حالة على حدة. لكن التصوير المتكرر للعقاقير على أنها تدمر الفردانية وتمحو الشخصية يعزز الوصمات المرتبطة بتعاطيها.

           

مهارات غامضة
في مسلسل شيرلوك من "BBC"، المحقق الشهير (الذي يلعب دوره بينديكت كامبرباتش) هو "معتلٌ اجتماعيًا، عالي الأداء" وفقًا للتشخيص الرسمي، (غير أن مجتمع الإنترنت يتفق على تشخيصه بدرجة من درجات اضطراب التوحد). يُرجِع المسلسل قدرات التحري شبه الخارقة التي يمتلكها شيرلوك إلى "اختلافه" العقلي. يصير اعتلاله الاجتماعي المُفترض مبررًا سرديًا لعاداته الغريبة وفظاظته، إضافةً إلى قدرته على حزر المعاني الكامنة في أدلة يكتنفها الغموض.

            

وفي مسلسل "هانيبال Hannibal"، المستوحى من أفلام وكتب سلسلة "صمت الحملان Silence of the) Lambs)"، يعرِّف ويل غراهام المحقق الفيدرالي نفسه بأنه "عالقٌ في منطقة أقرب إلى متلازمة أسبرجر والتوحد منها إلى النرجسية والاعتلال الاجتماعي". توصف حالة ويل أيضًا بأنها "اضطراب في التقمص العاطفي"، وهو تشخيص اخترعه صناع المسلسل، يسمح للمحقق بـ"دخول عقل القاتل كما لم يدخله أحدٌ من قبل".

                        

              

كنت على وشك استبعاد هذه الشخصية من دراستي، لكنني قابلت مراجعاتٍ تمتدح طريقة عرض المرض العقلي في المسلسل. كتبت ليبي هيل في صحيفة لوس أنجلس تايمز "العبقرية الحقيقية في مسلسل هانيبال تكمن في امتزاج المرض العقلي بنسيج المسلسل بسلاسة تامة". لا يقدم هانيبال صورة تقترب من الدقة لأي مرضٍ نفسي حقيقي، فضلًا عن تصوير التعايش مع المرض النفسي، ومع ذلك، صار المسلسل جزءًا من الحوار الثقافي حول الأمرين كليهما.

           

فكرة اكتساب مواهب مميزة نتيجةً للأعراض الصعبة الناشئة عن الأمراض العقلية (أو تعويضًا لها) هي فكرة مغرية بكل تأكيد. وهذه الشخصيات ليست بالعاجزة، ولا بالعنيفة إلا في إطار أداء واجبها (ربما باستثناء ويل غراهام في هانيبال). واختيار إيريك ماكورماك للعب دور دانيال في "إدراك Perception" -وهو الممثل الذي جلب لنا أقل الشخصيات المثلية تهديدًا على التلفاز في مسلسل ويل آند غريس Will & Grace- يشي بمحاولة لتجاوز طرق التصوير القديمة المسيئة للشخصيات المصابة بالأمراض العقلية. انتشار هذه الشخصيات في أعمال الغموض والتحري جديرٌ بالملاحظة، لأن هذه الأعمال نفسها هي التي صوَّرت المريض العقلي في السابق كمجرمٍ، أو ضحية، أو كليهما، وعززت الوصمات المرتبطة بالأمراض العقلية.

      

ولكن، مع انتقال الشخصيات المعتلة عقليًا إلى صدارة الأعمال الدرامية، هل يقدم لنا الكُتَّاب صورة واقعية عنها؟ غالبًا ما يعاني مَن مرّوا بتجارب الاعتلال العقلي مِن التهميش الاجتماعي الاقتصادي، ويواجهون وصمة اجتماعية حادة تنغص عليهم حياتهم أو تجعلهم عاجزين عن الاندماج في المجتمع دون شكلٍ من أشكال المساعدة النفسية، حتى هذه المساعدة قد لا تكون في متناول أيديهم.

          

يطرح هذه القضايا مسلسل "Shameless فاحش" الأميركي، الذي يقدم شخصية إيان المصاب بالاضطراب ثنائي القطب، والمضطر إلى الاعتماد على رعاية صحية رديئة لافتقاره إلى التأمين الصحي. وإدجار، شخصية رئيسية في المسلسل الكوميدي "You’re the Worst أنت الأسوأ"، هو عسكري متقاعد بلا مأوى يمر باضطراب ما بعد الصدمة، ويكافح من أجل الحصول على المساعدة التي يحتاجها من وكالة خدمات المحاربين القدامى. يتضح لنا من هذين المسلسلين أن جودة العلاج النفسي مرهونةٌ بالحالة المادية لمتلقي العلاج. لكن الأعمال التي تتناول المرض النفسي من هذه الزاوية نادرة.

            

ماذا عن العلاج الكلامي؟
     
في حين يُنصح بمزيج من العقاقير والعلاج الكلامي في علاج عددٍ من حالات الاعتلال العقلي، يغيب الأطباء والعاملون بمجال الرعاية الصحية عن العروض التي شاهدتها، والكثير منهم يقدمه العمل بصورة سلبية أو سخيفة.

       

على سبيل المثال، يستخدم المسلسل الكوميدي "Lady Dynamite ليدي ديناميت" بنية سردية سريالية وأساليب بصرية ليحكي قصةً من منظور ماريا بامفورد، الفنانة الكوميدية الاستعراضية التي تلعب دور نسخة خيالية من نفسها. يحاول "Lady Dynamite ليدي ديناميت" تجاوز صعوبة تصوير الاكتئاب على الشاشة باستخدام ثلاثة خطوط زمنية في الحلقة الواحدة، تمثِّل ماريا في مرحلة الاكتئاب، ومرحلة الهوس الخفيف، ومرحلة اختفاء الأعراض.

         

كل خط زمني يقدم شخصية مختلفة تحت اسم كارين غريشام، إحداهن هي مدربة ماريا الحياتية وطبيبتها النفسية. نصائح كارين مريعة دائمًا، لكننا نكتشف مع الاقتراب من نهاية الموسم أنها تجسيد لهوس ماريا، وليست شخصًا حقيقيًا.

         

ننتقل إلى تارا، من مسلسل "United States of Tara يونايتد ستاتس أوف تارا"، المصابة باضطراب الهوية الانشقاقي (الذي عُرف سابقًا باسم اضطراب تعدد الشخصيات). تحصل تارا على العلاج النفسي من إحدى هوياتها البديلة. وفي Perception، يطلب دانيال المشورة النفسية من إحدى هلوساته.

               

        

وهناك المراهقة إيفي، التي يعالجها من الاكتئاب طبيبٌ نفسي يصير مهووسًا بها إلى حد ضرب خليلها حتى الموت بمضرب بيسبول. وهناك بالطبع هانيبال لكتر، المحلل النفسي والقاتل المتسلل آكل لحوم البشر الذي يلعب ألعابه العقلية مع الشخصية الرئيسية، ويل.

           

طرقٌ أكثر إبداعًا
ما زالت ثقافة من العار والتستر تحيط بأمراض الصحة العقلية وبالمتعايشين معها، ومن ثمَّ يمكن للشخصيات الخيالية أن تلعب دورًا مهمًا في التأثير على مواقف العامة. واحدٌ من كل أربعة أشخاص متعايشين مع الاضطراب ثنائي القطب في أستراليا يُقدم على الانتحار، وكانت نسبة المصابين بالاضطراب ثنائي القطب من إجمالي حالات الانتحار في أستراليا 16% في عام 2016 . وتُظهر الأبحاث أن 50% ممن يمتنعون فجأة عن علاج الليثيوم يمرون بنوبة هوس.

              

الأسباب التي يختار الناس على أساسها الاستمرار في العلاج أو التوقف عنه معقدة وفردية بالطبع، لكن قصص الامتناع المفاجئ عن تعاطي الأدوية في مسلسلات التلفاز مثل "الوطن Homeland" و"صندوق أسود Black Box" تلعب دورًا في تشكيل سردية اجتماعية أوسع نطاقًا. تقدم الأعمال الدرامية أدوية الصحة العقلية على أنها مُقيِّدة لمن يتعاطاها، ويُمكن التوقف عن تعاطيها لغرضٍ معين والعودة إليها بعد تحقيقه، دون تأثيرٍ كبير على الحالة المزاجية.

           

هُناك بعض التطورات الإيجابية على الشاشة. فقد ناقشت ماريا بامفورد تجربتها مع النوع الثاني من الاضطراب ثنائي القطب في أعمالها الكوميدية السابقة، ويستخدم "ليدي ديناميت Lady Dynamite" مجموعة واسعة من الأساليب ليحكي القصة من منظورها، يتنقل العرض ذهابًا وإيابًا بين ماضيها الاكتئابي الأزرق (حرفيًا)، وبين فترة الهوس الخفيف زاهية الألوان المؤدية إلى الاكتئاب، وبين حاضرها.

 

كذلك يصوِّر "أنت الأسوأ You’re the Worst" طبيعة الاكتئاب المتأرجحة تصويرًا جيدًا. يقدم مسلسل الكوميديا السوداء الرومانسية غريتشن وجيمي، شابان من جيل الألفية يتجنبان الدخول في العلاقات، لا يتعرف المشاهدون إلى حالة غريتشن العقلية إلا في الموسم الثاني، قبل أن تشاركها مع خليلها جيمي، قائلة: حسنًا، إليك شيء مثيرٌ للاهتمام تجهله عني؛ أنا مصابة بالاكتئاب السريري، كنت كذلك طوال حياتي، لذا أنا جيدة جدًا في التعامل مع الأمر.. الشيء الوحيد الذي أحتاجه منك هو أن تقدر الأمر حق قدره، وأن تتصالح مع ما أنا عليه، ومع حقيقة أنك لا تقدر على إصلاحي.

            

        

يجد "أنت الأسوأ You’re the Worst" طريقة لتصوير شخصية ضعيفة الاستجابة بسبب الاكتئاب في عددٍ من حلقاته. يحول المسلسل التركيز إلى جيمي، الذي يقدم منظورًا خارجيًا عن تجارب غريتشن، وكيف يؤثر عليه اكتئابها.

         

لغياب العلاج عن المسلسلات التي تحدثتُ عنها منطقٌ من منظورٍ سردي، فالقضايا الغامضة المعقدة على التلفاز من الأفضل حلها بواسطة "المواهب المميزة" المستمدة من أعراض المرض العقلي، ما يفتح الباب أمام اختصاراتٍ سردية مسلية، والتلفاز ليس واقعيًا أبدًا على كل حال، لكننا الآن في حاجة إلى طرقٍ أكثر إبداعًا في تصوير الشخصيات التي تعاني من الأمراض العقلية في حبكات المسلسلات الخيالية على التلفاز.

 __________________________________________________

              

مترجم عن: الرابط التالي

المصدر : الجزيرة