"ليدي بيرد".. كيف تبدو علاقات النساء بعيون النساء؟

midan - ليدي بيرد

كثيرا ما يختار المخرجون أنفسهم لأفلامهم، جاعلين من حيواتهم الفعلية خشبة مسرح كبيرة تتولى فيها شخصياتهم الحقيقية دور البطولة. فعلها المخرج الفرنسي الأيقوني وأحد أهم أعلام الموجة الجديدة فرانسوا تروفو، عندما حوّل مراهقته المضطربة لفيلمه الأول والأهم "400 ضربة"، مسندا دور البطولة للمراهق حينها، "جان-بيير ليود"، والذي كان يشبهه تماما في الشكل والشخصية. وامتد التعاون بين الاثنين ليغطي معظم مسيرة تروفو السينمائية ومساحات كبيرة من حياته الواقعية والتي جعل منها أفلاما قام ليود بأداء دوره فيها كلها.

         

وكذا فعل المخرج الأميركي الشهير وودي آلان، والذي لم يسند دوره لعقود طويلة لأحد، واقفا أمام كاميرته وخلف أفلامه، مؤديا نفس الدور للرجل القصير بعض الشيء، الذكي والمضحك دائما، والمهووس بشكل لا شفاء منه بالجميلات. وحتى في السينما المصرية، نجد يوسف شاهين الذي سار على خطى تروفو وأعار نفسه وحياته لأبطال أفلامه في سلسلة تناول فيها سيرته الذاتية. لكننا هنا نقف أمام نموذج مغاير بعض الشيء.

    

جان-بيير ليود على اليسار وفرانسوا تروفو على اليمين
جان-بيير ليود على اليسار وفرانسوا تروفو على اليمين
          

في "ليدي بيرد"، تطلعنا مخرجة ومؤلفة الفيلم الممثلة الأميركية "جريتا جيرويج" على قصة المراهقة "ليدي بيرد" التي تعيش بمدينة سكرامنتو شمال كاليفورنيا في بداية الألفينات، وبالرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تناول عبور فتاة من مرحلة المراهقة لبدايات النضج، إلا أن التناول هذه المرة واقعي جدا وصادق للغاية، ولا عجب في هذا، فكما فعل تروفو وألان وشاهين، أعارت جرويج نفسها لليدي بيرد، مازجة في هذا بين الخطوط العريضة الحقيقية لحياتها والتفاصيل الخيالية التي تمنت لو كانت واقعا(1)، خالقة في هذا تعبيرها السينمائي الخاص بشدة، والحميمي تماما عن تلك المرحلة من وجهة نظر نسائية فريدة.

               

وبالرغم من وقوف جرويج وراء الكاميرا كمخرجة لأول مرة في "ليدي بيرد"، إلا أن إفادتها الكبيرة من السنوات التي قضتها كممثلة وسيناريست في أفلام سابقة بدت منعكسة بشكل واضح في درجة النضج التي جاء بها الفيلم، كما انعكست شخصيتها أيضا، التي طالما رأيناها على الشاشة، على كل التفاصيل؛ فعوضا عن المشاركة في كتابة الحوارات وأداء دور البطولة كما اعتادت، وقفت جرويج هذه المرة خلف الكواليس تحرك كل الأجزاء الصغيرة بحب وعناية لتخرج لنا بفيلم أول يحمل في طياته أصداء متداخلة لذاتها وحياتها الشخصية اللتين رأينا منهما شذرات كثيرة في أفلامها السابقة.

                   

undefined

                

السيدات أولا
قالت جريتا جرويج في أحد حواراتها: "إنني مهتمة بشدة بكل أشكال العلاقات التي قد تجمع النساء ببعضهن البعض، كصديقات في مثل السن أو متفاوتات الأعمار، كأمهات وبنات، كأخوات، أو كزميلات في العمل. ففي كتاب "غرفة تخص المرء وحده" تتحدث فيرجينيا وولف عن عجز الرجال عن الكتابة عمّا تفعله النساء وهن وحدهن لأنهم ببساطة لا يكونون هناك، فالرجال لا يعرفون ما تفعله النساء بغيابهم. هذا بالنسبة إلي عالم سري، عالم أشعر ببعض القدرة على الحكي عنه". (2)

              

وهذا بالضبط ما فعلته جرويج في أفلامها، من "فرانسس ها" و"ميستريس أميركا" التي قامت فيهما بدور البطولة وشاركت في كتابة السيناريو والحوار، إلى "ليدي بيرد" الذي كتبته وأخرجته.

      

undefined

              

فنجد في تلك الأفلام أن علاقات النساء دائما ما تتصدر المشهد، بينما تتنحى العلاقة الرومانسية التقليدية بين الرجل والمرأة إلى الخلفية، فكانت العلاقة الأساسية التي تابعنا تطوراتها في "فرانسس ها" هي علاقة الصداقة بين فرانسس وصديقتها صوفي، وفي "ميسترس أميركا" احتلت صداقة بروك وترايسي الصدارة، أما في "ليدي بيرد"، كان الأمر مختلفا قليلا.

 

يروي فيلم "ليدي بيرد" قصة المراهقة "كريستين"، التي نعرف في أول مشاهدها أنها تبرأت من اسمها الفعلي واتخذت اسما جديدا هو "ليدي بيرد"، تقول في أحد الحوارات: "إنه اسمي المُعطى، أعطيته أنا لنفسي". يتابعها الفيلم في سنتها الأخيرة من المدرسة الثانوية ويتركها وهي على أعتاب الجامعة، وفي هذا، نرى التطور الطبيعي الذي تأخذه علاقاتها، القديمة منها والناشئة، والتي تقع في المركز منها  العلاقة التي تربطها بوالدتها.

          

            

حيث تجمع أول حوارات الفيلم "ليدي بيرد" بأمها "ماريون"، ويختتم الفيلم بحديث ليدي بيرد إليها. وبين البداية والنهاية، نتتبع شدا وجذبا لا ينتهي بين الاثنتين: على أحد الأطراف تقف المراهقة الحالمة والعنيدة والتي لا تتناسب أحلامها مع واقعها، وعلى الطرف الآخر توجد والدتها المرهقة تحت ضغوط الإنفاق على الأسرة بأكملها بعد طرد الوالد من العمل، والتي تريد من ابنتها أن تتوقف عن الطيران قليلا لتحط على أرض الواقع.

                

وبالرغم من بعض التفاصيل الخاصة التي قد تحملها تلك العلاقة، إلا أنه باستطاعة الكثير من الأمهات وبناتهن أن يجدن أنفسهن في ماريون وليدي بيرد. يرجع هذا في المقام الأول لبراعة جرويج في رسم شخصياتها، فلم تأت ماريون في شكل الأم المتسلطة تماما على الرغم من تحكماتها الكثيرة، ولم تأت ليدي بيرد كذلك في صورة المراهقة الطائشة بالرغم من تصرفاتها المجنونة بعض الشيء بين الحين والآخر. فجرويج لم تقع هنا في خطأ القولبة الكاريكتورية لشخصياتها، بل مزجت فيها بالخليط الإنساني جدا بين المتناقضات. فحتى لو لم تمر بضعة أيام دون أن ينشأ عراك ما بين الأم وابنتها، يظل الدفء والحب موجودا في مركز علاقتهما، وإن أساءتا التعبير عنه.

          

              

كما يرجع هذا أيضا لتلقائية وانسيابية الحوارات التي كتبتها جرويج، والتي امتازت بها كل الأفلام التي شاركت في كتاباتها، فنرى الشخصيات تتلعثم بعض الشيء وتقول كلمات غير مترابطة في المواقف المحرجة، أو تتحدث سريعا جدا دون أن تتوقف لحظة للتنفس أو حتى للاستماع للطرف الآخر وهي غاضبة، تماما كما يحدث في الحياة الواقعية. وفي تلك العلاقة المُتذبذبة، نجد الكثير من التفاصيل النسائية الحميمة؛ كخروج ماريون ووالدتها لشراء فستان والعراك الذي ينشأ وسط هذا والذي يتوقف تماما حال وجدتا الفستان المثالي.  

            

undefined

                 

وتمتد تلك التفاصيل المُنتمية لعالم النساء الخاص، والذي لا يقدر على الحكي عنه بكل هذا الصدق سوى أنثى، لباقي أجزاء الفيلم. نجد هذا بشكل خاص في الثرثرات الطويلة بين "ليدي بيرد" وصديقتها المُقربة والتي تبدو كأي محادثة حقيقية بين مراهقة وصديقتها، وفي شكل ليدي بيرد، الذي ابتعد عن هذا الكمال الشكلي الذي عادة ما تظهره لنا السينما في النساء، واقترب أكثر لشكلهن الحقيقي؛ فشعرها المصبوغ بلون أحمر داكن لا تزال جذوره السوداء ظاهرة، وبشرتها الخالية من الأصباغ تظهر عليها بعض البثور الخفيفة، تماما كما قد تبدو أي مراهقة.

             

سكرامنتو.. نيويورك
تظل كاميرا جرويج في
تظل كاميرا جرويج في "ليدي بيرد" مُنحازة لسكرامنتو، فتقف طويلا عند أشجارها وواجهات بيوتها، وتغمرها بلون الشمس الدافئ
          

كتبت جريتا جرويج في مقال لها منشور مؤخرا في موقع "النيويورك تايمز" تحت عنوان "أمي، مدينتي"، تقول: "سكرامنتو مكان تستطيع دائما أن ترى منه المدى، فهي مسطحة وجميلة ومفتوحة. لكنّني أحببت زحام نيويورك، أحببت كيف أنه عند هطول المطر كان يبدو كما لو أن المباني هي التي تمطر لا السماء".(3)

 

نشأت جريتا طوال حياتها في سكرامنتو وذهبت لتدرس وتعيش في نيويورك عند دخولها الجامعة، وقد وجدت هذه الحيرة المتأرجحة بين مكانين طريقها لأفلامها؛ ففي فيلم "فرانسس ها"، نجد فرانسس ذات الـ27 عاما تتنقل بين الشقق في مدينة نيويورك المزدحمة في اضطراب يعكس فوضى حياتها، ولا تجد بعضا من السكينة إلا عندما تذهب لقضاء العطلة مع أهلها في سكرامنتو (قامت والدة جرويج الحقيقية بأداء دور والدة فرانسس في الفيل). وفي فيلم "ليدي بيرد" نجد ليدي بيرد التي تصغر فرانسس بعشر سنوات تكاد لا تستطيع صبرا حتى تفرد أجنحتها بعيدا عن مدينة سكرامنتو الصغيرة وتطير إلى نيويورك "حيث توجد الثقافة… ويعيش الكُتاب في الغابات"، كما تقول لوالدتها.

 

لكن تظل كاميرا جرويج في "ليدي بيرد" مُنحازة لسكرامنتو، فتقف طويلا عند أشجارها وواجهات بيوتها، وتغمرها بلون الشمس الدافئ، وتتجول ليدي بيرد هناك مع صديقتها في الأحياء والمنعطفات، وتقفان لتتأملا المنازل الواسعة الجميلة وتحلما كيف قد تبدو حياتهما في واحدة منها. وفي طريق ماريون للمشفى، تتأمل الكاميرا الطريق بحب لتنقل لنا دوامة لونية من الحدائق الخضراء والينابيع الزرقاء والمباني البنية.

 

في أحد مشاهد الفيلم، تقول الراهبة التي تترأس مدرسة ليدي بيرد الكاثوليكية لها كيف أنها تكتب عن سكرامنتو بحب، تستعجب ليدي بيرد تعليق الراهبة وترد عليها قائلة إنها لم تكن تفعل شيئا سوى وصف كل ما تهتم به عيناها، يأتي رد الراهبة حينها أن الحب والاهتمام هما الشيء نفسه. وهذا ما رأيناه في فيلم "ليدي بيرد"، الذي وإن لم يكن يدور حول أي شيء جديد أو خارق للعادة، وإن لم يصور سوى تلك التفاصيل العادية جدا واليومية، إلا أنه فعل هذا بحب كبير لذلك العادي، واهتمام عميق بكل تفاصيله الصغيرة، ليخرج لنا كوصف حميمي لحياة قد تكون لأي منا، ويُغرقنا منذ دقائقه الأولى في تفاصيلها بنعومة وانسيابية، لاغيا ما بيننا وبينها من مسافات حتى نكاد نرى أنفسنا في الكثير من مواقفها على الشاشة. وبهذا، يخلق مثال آخر حي على أن الجمال لا يكمن فقط فيما ينأى عن الواقع المُعاش، بل من الممكن جدا أن نراه في بعض التفاصيل البسيطة للغاية في حياتنا العادية حتى الملل.

المصدر : الجزيرة

إعلان