شعار قسم ميدان

"بلا حب".. كيف صور "زفياجنتسيف" أزمات المجتمع الروسي؟

ميدان - فيلم بلا حب 11
اضغط للاستماع

  

"بالطبع، أنا أحتقر بلدي من الرأس إلى أخمص القدمين

لكنني لا أسمح لأي غريب أن يبادلني هذا الشعور"

(بوشكين)

          

في أحد مشاهد فيلم تاركوفسكي "المرآة" -واحد من أهم الأفلام على الإطلاق(1)– يظهر طيف امرأة عجوز للطفل "إجنات" ويطلب منه أن يأخذ كتابا من على الرف ويقرأ فقرة من فقراته بصوت عال. يطيعها الفتى ويتلو كلماته التي كانت تقول: "لا أستطيع أن أتفق معك على انعدام أهميتنا التاريخية. أفلا تجد شيئا مهما على الإطلاق في وضع روسيا الحالي؟ شيئا من شأنه أن يدهش مؤرخا ما في المستقبل؟ بالرغم من أني متعلق من أعماق قلبي بسيادتنا الوطنية، إلا أنني لست معجبا بكل ما أراه من حولي. ككاتب، أشعر بالضيق، أشعر بالإهانة، لكنني أقسم أن لا شيء في الكون قادر على جعلي أغير موطني أو أستبدل تاريخه الذي كتبه الأجداد ومنحه إيانا الرب بأي تاريخ آخر".

       

كانت تلك الفقرة مأخوذة من أحد رسائل الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين (1799-1837)، والتي كان يناقش فيها وضع بلاده في تلك الفترة من القرن التاسع عشر. مرت سنوات طويلة على موت بوشكين، تلاه بعدها عشرات الأدباء والشعراء والمخرجين الروس، تغير فيها الكثير وبقى شيء واحد على حاله: كبوشكين، لا يستطيع الفنانون الذين نشأوا في ساحات الثلج البيضاء لذلك البلد الواسع والبعيد الفكاك منها. دائما ما تتبعهم كشبح، يخيم على أعمالهم ويرقد مختبئا في زواياها وأزقتها.

          

              

إن أي عمل فني جاء للحياة على أرض روسيا غالبا ما يظل يحمل رائحتها، تتسلل إليه في حوارات الشخصيات الطويلة حول حال البلاد وسياساتها كما في روايات تولستوي، أو تختبئ ما بين السطور في سخرية لاذعة من الفساد الحكومي بمسرحيات جوجل، أو تنتشر في مشاهد طويلة للمساحات الواسعة من الطبيعة الباردة والجميلة في أفلام تاركوفسكي. وامتدادا لكل هؤلاء، جاء المخرج الروسي المعاصر أندريه زفياجنتسيف، ليلتقط طرف الخيط ويستكمل نسج انعكاس "روسيا" في ثنايا أفلامه التي كان "بلا حب" آخرها.  

               

"أوه يا روسيا إلى أين تذهبين؟"
وصل زواج بوريس وشانيا، الذي امتد لاثنتي عشرة سنة هي عمر ابنهما أليوشا، لنهايته. لكن  مصير ابنهما ظل معلقا في الوسط، فشانيا التي تواعد أربعينيا ثريا تود أن تدفن ماضيها بكل آثاره وراءها وتبدأ من جديد، وبوريس على وشك أن يصبح أبا للمرة الثانية مع شابة أخرى ولا يريد أن يثقل كاهله بعبء أليوشا.

          

نفهم كل هذا من خلال حوار يدور في بداية الفيلم بينهما، والذي انتهى بأن قالت شانيا غاضبة إنه إن كان أحد منهما لا يريده، فمن الأفضل إذن أن يلقيا به في أي مدرسة داخلية. يعترض بوريس على هذا الاقتراح، فمن شأنه أن يُشوه صورته أمام رب عمله المسيحي الأرثوذكسي المُتزمت. وعندما يتحول الحوار إلى شجار يتبادلان فيه السباب، تتركه شانيا وتذهب. وعندما تفتح الباب، تكشف لنا كاميرا زفياجنتسيف من ورائه أليوشا، يقف مُنتحبا في صرخات مكتومة بعد أن سمع كل كلمة مما قيل.

                

كانت تلك أول صفعة يوجهها لنا فيلم "بلا حب"، والصفعة التالية لن تتأخر كثيرا، فبعد هذا المشهد بيومين، يختفي أليوشا دون أن يترك وراءه أثر، ويقضي زفياجنتسيف بقية الفيلم في متابعة بوريس وشانيا في بحثهما عنه، لتتوالي بعدها الصفعات.

            

             

اعتاد زفياجنتسيف في أفلامه أن ينسج الخاص بالعام، مُبطنا إياها بالكثير من النقد السياسي والاجتماعي لحال روسيا المعاصرة، وازداد نقده حدة بعد تولي فلاديمير بوتين الحُكم. تأتي في واجهة ذلك النقد غالبا قصة لأسرة تمر بأزمة تعكس تفاصيلها الأوضاع المُتردية للبلاد(2). ربما أفضل مثال على هذا فيلم زفياجنتسيف الأهم "لوياثان"، والذي يدور حول الصراع الذي يخوضه الميكانيكي "كوليا" في سبيل الاحتفاظ بمنزله وأرضه بعد محاولة عمدة المدينة الاستيلاء عليهما. وتظهر شخصية القس صديق العمدة في عدة مشاهد تنتقد في فحواها العلاقة الآثمة التي تجمع بين الدين والدولة في رأي زفياجنتسيف. وفي وسط ذلك الصراع تتلقى علاقته بابنه، الذي ماتت أمه وهو صغير وبزوجته التي اقترن بها بعدها، ضربات قاسية.

              

لكننا في فيلم "بلا حب"، نجد تلك الآراء قد انخفض صوتها وأخذت تختبئ في الخلفية، دون أن تقل حدتها أو تختفي تماما. كما اتسع أيضا نطاقها وصارت تحمل انتقادا، في كثير من الأحيان، لا يخص روسيا وحدها، بل ينسحب على المجتمعات الحديثة بشكل عام.

        

فتتصاعد فوضى الحرب في أوكرانيا (تقع أحداث الفيلم عام 2012) من مذياع السيارة ومن التلفاز، ونظل نستمع في الخلفية لنشرات الأخبار التي تحمل تساؤلات حول ما إذا كانت نهاية العالم حقا وشيكة-في إشارة للشائعات التي انتشرت حول ذلك حينها. واختفى الوجود الفعلي لرجل الدين، ليستبدله زفياجنتسيف بطيف رب عمل بوريس الذي نسمع عنه دون أن نراه، والذي بلغ به التزمت الديني حدا لا يسمح معه بتعيين أي شخص غير مُتزوج بالشركة. وظل انتقاد البيروقراطية الحكومية وما تؤدي إليه من ضياع الحقوق ممتدا من "لوياثان" لـ"بلا حب"، والذي يتخذ هذه المرة شكل ضابط البوليس الذي يأتي لشانيا بعد إبلاغها باختفاء أليوشا، ويرفض حتى أن تبحث القوات عنه، فوفقا للإحصائيات سيعود الفتى بعد أسبوع أو عشرة أيام، وحتى وإن لم يعد فليس للشرطة وقت حتى تجده. يحيلها عندها إلى إحدى الجمعيات الأهلية المُختصة في البحث عن المفقودين والتي تلجأ إليها شانيا بالفعل في إشارة واضحة إلى عجز الحكومة عن القيام بمهامها الأساسية.

                     undefined

                 

ويأتي انتقاد زفياجنتسيف للبرودة المُسيطرة على العلاقات في تصويره للعلاقة التي تجمع بوريس بحبيبته ماشا، وشانيا بحبيبها أنتون. فعند ظهور الاثنين على الشاشة، نرى معهما النمط التقليدي للشريك النموذجي وفقا لقواعد المجتمع. ماشا، شابة عشرينية شقراء وجميلة مُناسبة تماما لأي رجل ثلاثيني يود أن يبدأ حياته من جديد، وأنتون غني أربعيني سيحقق لأي امرأة يقترن بها الصعود الاجتماعي السريع الذي تحلم به. وهذا بالضبط ما يحدث، ففي المشاهد التي تجمع بوريس وماشا، وأنطون وشانيا، لا نجد حقا أي عمق في علاقاتهما، مما يحيلنا على أن ارتباطهم جاء بالفعل لأسباب ظاهرية اجتماعية فقط.

     

ويمد زفياجنتسيف خط تأليه العصر الحالي للمظاهر في مشاهد شانيا، فتكاد لا تترك الأيفون الخاص بها للحظة، ملتقطة بنهم كل التفاصيل التافهة التي تجعلها كاميرا الجوال تبدو برّاقة، رافعة إياها على مواقع التواصل الاجتماعي. وربما لزيادة التأكيد على الجانب المولع بالزيف من شخصيتها، اختار زفياجنتسيف لشانيا أن تعمل في صالون تجميل.

    

 هكذا يدس زفياجنتسيف الوضع المُلتبس لروسيا والعالم بفيلمه، فاعلا هذا بدقة وخفاء، جاعلا الأزمات الكثيرة التي يناقشها واضحة دون أن تلفت النظر لنفسها أو تُخل بالسياق العام. ويظل المشهد الأبلغ هو ذاك الذي يختتم به زفياجنتسيف فيلمه، حيث تجري شانيا فوق مشّاية رياضية، مرتدية سترة كُتب على صدرها بحروف كبيرة "روسيا"، لتصير هي في النهاية صورة لروسيا كما يراها، تهرول بسرعة كبيرة، لكن إلى اللامكان.

                      undefined

             

يتحدث زفياجنتسيف عن هذا المشهد في إحدى المقابلات ويقول: " هناك كاتب روسي معروف جدا عاش في القرن التاسع عشر اسمه نيقولاي جوجل. تنتهي رواية جوجل "الأرواح الميتة"، بمشهد للبطل فوق عربة تجرّها الخيول راحلًا بعيدًا عن بلدته. يكتب جوجل حينها: " أوه يا روسيا إلى أين تذهبين؟"، وبعدها يقول إنه لا توجد إجابة لذلك السؤال. ومشهد بطلة فيلمي مرتدية سترة رياضية وكلمة "روسيا" مطبوعة على صدرها، هو تحتيتي الصغيرة للسيد جوجل. فإلى الآن، تظل لا توجد إجابة لسؤال إلى أين تذهب روسيا".(3)

undefined

المصدر : الجزيرة