شعار قسم ميدان

كيف تأثر مسلسل "هاوس أوف كاردز" بعوالم شكسبير المسرحية؟

midan - series

"فقد وطّنت نفسي على الشر

ومعاداة المُتع العاطلة لهذه الأيام
ولهذا دبرت مكائد، خُطوات أولى ذات خطر
وحشدت لها بعض نُبوءات سكرى
وإشاعات ورؤى وأحلام"
(1)

(مسرحية "ريتشارد الثالث"، المشهد الأول بالفصل الأول)

 

ينفتح ستار خشبة المسرح لنجد أنفسنا بإنجلترا القرن الخامس عشر. يقف أمامنا ريتشارد الثالث، الأخ الأصغر لـ إدوارد الرابع، ملك إنجلترا المُنتمي لأسرة يورك الذي عاد ظافرا من حروبه الطويلة مع أسرة لانكستر. تعم البلاد البهجة، فقد انقشعت لتوّها غيوم الحرب الأهلية مُفسحَة المجال لشمس السلام الدافئة حتى تفيض بالنور.

 

لكنّ روح ريتشارد المُظلمة وكيانه الذي لا ينطوي سوى على شَبق سلطة حرمه منها كونه الأخ الأصغر تأبى إلا أن تنشر حولها الدمّار. يرصف ريتشارد طريقه للعرش بدماء ضحاياه، ويحكم بلاده بالحديد والنار. لكن، ولأن زمن الظلم لا يدوم طويلا، تشتعل الحرب مع عائلة لانكستر مرة أخرى، وهذه المرة تنقلب الموازين وينال هنري تودر سليل آل لانكستر النصر ويقتل ريتشارد الثالث ليظفر بالعرش.

  

يتبع المُسلسل فرانك في رحلته التي بدأت به عُضوا بالحزب الديموقراطي وممثلا له بمجلس النواب، وانتهت إلى توليه رئاسة الولايات المُتحدة الأميركية
يتبع المُسلسل فرانك في رحلته التي بدأت به عُضوا بالحزب الديموقراطي وممثلا له بمجلس النواب، وانتهت إلى توليه رئاسة الولايات المُتحدة الأميركية
  

ما لم يكن يعرفه ريتشارد أن شخصيته التي تضع النهاية لوجودها آخر فصول مسرحية "ريتشارد الثالث" لشكسبير ستنبعث للحياة مرة أخرى، لكن هذه المرة في أميركا القرن الحادي والعشرين، داخل جسد فرانك أندروود، السياسيّ الذي لن يدع شيئا -أو شخصا- يقف أمام سعيه إلى السُلطة، والذي تدور حوله أحداث المسلسل الأميركي "هاوس أوف كاردز".

 

يتبع المُسلسل فرانك في رحلته التي بدأت به عُضوا بالحزب الديموقراطي وممثلا له بمجلس النواب، وانتهت إلى توليه رئاسة الولايات المُتحدة الأميركية، وما بينهما من سُبل مُلتوية خاضها فرانك ليصل إلى هدفه. ويُقدّم لنا أيضا كلاير أندروود، زوجته التي تُشاركه الحلم في السلطة وتجرده من أي مبادئ في سبيل الوصول إليها. لكنّ شخصيتي فرانك وكلاير ليستا جديدتين تماما في الأوساط الدرامية، فمنذ أربعمئة عام قدم شكسبير في شخصيتي ريتشارد الثالث والليدي ماكبث مثيلين لهما. 

 

مُتواطئون مع المُجرم
في رحلته نحو السُلطة لا يتوانى فرانك أندروود عن فعل أي شيء، من الابتزاز بُكل أنواعه، لتدبير المكائد وسرقة المناصب من الآخرين لصالحه، وحتى القتل، ببساطة، ليس هنالك جريمة لم يرتكبها. الشر الكامن بشخصية فرانك ليس بالشيء الذي قد يفاجئنا، فسبق ورأيناه في مئات الأفلام. لكن بينما اعتدنا على مشاهدة الشرير في دور ثانوي يمثّل خلاله عقبة لا بد للبطل الخيّر اجتيازها لتطور الأحداث يقلب "هاوس أوف كاردز" الآية، ليصير الشرير هو البطل، وتصبح الشخصيات الخيّرة هي العقبات التي تقف بطريقه قبل أن يطحنها. يقع هنا صنّاع العمل في معضلة حقيقية: فكيف سيجعلون المُشاهد يتعاطف مع مجرم لا يوجد دافع أخلاقي واحد وراء فظائعه؟ كيف سيشدّونه لمُتابعة أحداث مسلسل تدور حول شخصية مشوهة تُثير الاشمئزاز؟ قبلهم بأربعمئة عام قابل شكسبير نفس المُعضلة، ومنه استلهموا نفس الحل.

  

  

في المشهد الأول من الفصل الأول من "ريتشارد الثالث" يوّجه إلينا -نحن المشاهدون- ريتشارد الحديث، يطلعنا على حنقه على أجواء السلام ورغبته في تبديدها، ثم يكشف لنا عن خطته في الاستيلاء على الحُكم عن طريق قتل أحد إخوته وسرقة العرش من الآخر. الشيء نفسه يفعله فرانك أندروود في "هاوس أوف كاردز"، حيث صارت أحد أكثر المشاهد المُحببة للمشاهدين تلك التي ينظر فيها فرانك إلينا عبر عين الكاميرا ويطلعنا على ما يجول حقا في خاطره الذي لا يكشفه لأحد.

 

يُسمى ما يفعله ريتشارد وفرانك بتحطيم الحائط الرابع*، حيث يتخلص البطل من الحاجز المُتخيَل بين الشخصية والجمهور ويتوجه لهم بالحديث. بهذا يجد المُشاهد نفسه طرفا في علاقة حميمية تجمع بينه وبين شخصية العمل الفني، تكشف فيها الشخصية أمامه أوراقها وتدعوه إلى أخذ صفها ومن ثم التواطؤ معها. لا يمر وقت طويل قبل أن يشعر المشاهد رُبما بشيء من الذنب، فقد تمنى لتوّه أن يفوز البطل الشرير الذي صادقه على آخر طيب يعده غريبا.

 

في حواره مع أحد المواقع يؤكد كيفن سبايسي -الذي سبق ولعب دور ريتشارد الثالث قبل أن يؤدي دور فرانك أندروود في "هاوس أوف كاردز"- على تأثر شخصية فرانك أندروود بـ ريتشارد الثالث ويقول: "الحقيقة أن فرانك لم يكن ليوجد لولا ريتشارد الثالث، وأنا أعني هذا حرفيا… لم أخترع شيئا، شكسبير هو صاحب فكرة جعل الجمهور مُتواطئا مع البطل بإشراكه في خططه وأفكاره. عن طريق فعل هذا أمام الجماهير، بالإضافة إلى نظري إلى أعين الناس حول العالم، تعلمت الكثير قبل بدئي في تصوير "هاوس أوف كاردز"".

 

الليدي ماكبث في بيت الورق
"تعالي إذن أيتها الأرواح الراعية للفكر الإجراميّ وجرديني هنا من أنوثتي، واملئيني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي بأبشع ضروب القسوة، وأحيلي ما في عروقي إلى دم غليظ، وأغلقي كل منافذ الندم حتى لا تُفسد عليّ مشاعر الرحمة خطتي الوحشية وتحول بينها وبين نتيجتها. تعالي أيتها الأرواح الفتاكة إلى صدري الأنثوي، واستبدلي بلبن الرقة عُصارة الصفراء حيثما شهدت أشكالك غير المرئية شرور الطبيعة"

(مسرحية "ماكبث"، الفصل الأول، المشهد الخامس)

  

فرانك أندروود وزوجته كلاير من مسلسل هاوس أوف كاردز (مواقع التواصل)
فرانك أندروود وزوجته كلاير من مسلسل هاوس أوف كاردز (مواقع التواصل)

 

بينما ينتمي فرانك أندروود إلى عالم ريتشارد الثالث تستعير زوجته كلاير الكثير من خصالها من الليدي ماكبث زوجة ماكبث بطل إحدى أهم مسرحيات شكسبير التي تحمل الاسم نفسه.

 

وتدور المسرحية حول نبوءة ثلاث ساحرات للجنرال ماكبث، أحد جنود الملك دانكان، بأنه سيتولى الحكم ويصير هو الملك. داعبت النبوءة خيال ماكبث في البداية، لكنه لم يلبث أن قابلها بكثير من التشكك والاستهجان. لكن عندما رواها لزوجته استحالت النبوءة إلى وقود أشعل بصدرها جذوة طموح مُدمّر، لم تترك على إثره زوجها حتى أقنعته بضرورة قتل الملك دانكن والاستيلاء على عرشه.

 

كالليدي ماكبث يُحرك كلاير أندروود طموحها الذي تنسحق أمامه كل المشاعر، فتؤكد غير مرة، وبأكثر من طريقة، أنها لن تتعاطف مع أي من كان في سبيل مصلحتها. وفي حوار يُذكّرنا بعض الشيء بمونولوج الليدي ماكبث السابق قالت كلاير لموظفة حُبلى تعمل بمؤسستها كانت قد سلبتها التأمين الصحي كوسيلة لليّ الذراع: "أنا على أتم استعداد أن أترك طفلكِ يذوي ويموت داخل أحشائك لو تطلب الأمر".

  

  

وكالليدي ماكبث أيضا لا أطفال لكلاير. لكن بينما استنبط بعض النقاد من إحدى حوارات المسرحية أن الليدي ماكبث سبق وكان لها أبناء ماتوا صغارا، توضّح أحداث المسلسل أن كلاير هي من كانت تُجهض حملها. اتخذ البعض من نظرية أبناء الليدي ماكبث المُتوفين مُفتاحا لتفسير شخصيتها، فأرجعوا طموحها المجنون في أن تصير ملكة إلى رغبتها في التعويض عن أمومتها المسلوبة. وعلى الجانب الآخر، فسّر النُقاد إجهاضات كلاير المُتكررة كتَجَلٍّ لنرجسيتها التي تأبى عليها أن تعيش لأحد سواها. في أحد الحوارات تصف روبن رايت -المُمثلة التي تلعب دور كلاير- شخصية كلاير بأنها "الليدي ماكبث وقد تزوجت ريتشارد الثالث".

 

لا عدالة تحت سماء واشنطن
لكن مع كل هذه الأشياء المُشتركة بين "هاوس أوف كاردز" ودراما شكسبير ما زال هنالك فرق واحد جوّهري: حرص شكسبير على تحقيق مفهوم العدالة، فشهدت نهاية مسرحية "ريتشارد الثالث" قَتل ريتشارد، كما انتحرت الليدي ماكبث في الفصل الأخير بعد أن أصابها الجنون، أما في "هاوس أوف كاردز"، فمع طرح الجزء الخامس منه منذ بضعة أشهر لا توجد بعد نهاية واضحة -أو عادلة- في الأفُق للزوجين أندروود.

 

قد يُرجِع البعض هذا إلى تجاوز عصرنا لـرومانسية شكسبير وبلوغنا حدا من النضج صرنا نعرف معه أن الحياة لا تكترث لنا، ومن ثم فليس من الضروري أن تتحقق العدالة ويدفع الزوجان أندروود ثمن جرائمهما. لكن، ومع هذا، يبدو السبب الأكثر منطقية هو ببساطة رغبة صُنّاع العمل في عمل أكبر عدد ممكن من الحلقات والأجزاء، الأمر الذي يحول دون التخلص أو الانتقام من الشخصيتين الرئيستين فرانك وكلاير.

  

رغم انفصالنا زمانيا عن مسرحيات شكسبير، واندثار العوالم التي دارت بداخلها مسرحياته، إلا أن رسمه لشخصيات تستعر بداخلها الصراعات لا يختلف في شيء عنّا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين
رغم انفصالنا زمانيا عن مسرحيات شكسبير، واندثار العوالم التي دارت بداخلها مسرحياته، إلا أن رسمه لشخصيات تستعر بداخلها الصراعات لا يختلف في شيء عنّا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين
 

وقد تركت تلك المُماطلة أثرها السلبي على العمل، فقد لاحظ أكثر من ناقد تَرهُّل الحبكة في الأجزاء الأخيرة منه ووقوعها في فخ اللامنطقية والتكرار، حيث دارت الأحداث منذ بداية المسلسل وحتى الآن في نمط واحد، يتم فيه مواجهة فرانك أندروود بالعراقيل التي دائما ما يتغلب عليها، مما يجعل الأحداث سهلة التوقع ويسلبها عُنصر المُفاجأة.

 

رغم انفصالنا زمانيا عن مسرحيات شكسبير، ورغم اندثار العوالم التي دارت بداخلها مسرحياته فإن رسمه الذي جاء مُعَقدا لشخصيات تستعر بداخلها الصراعات وتعاكسها الأقدار لا يختلف في شيء عنّا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين.

 

ولهذا ما زال أثره باقيا حتى الآن في أعمالنا الفنية المُعاصرة، ومنها مسلسل "هاوس أوف كاردز" الذي وإن تأثر بمسرحياته فإنه لم يصل إلى درجة كمالها من الناحية الفنية والأدبية، لكنه يظل مع هذا أحد أهم وأمتع الأعمال الدرامية التي قدمتها أميركا في الفترة الأخيرة. 

المصدر : الجزيرة