شعار قسم ميدان

"محبة فينسنت".. العالم عبر عيني فان جوخ

ميدان - لوحة القمح لفان جوخ

في السابع والعشرين من (يوليو/تموز) 1890، انطلقت الرصاصة من المُسدس مجهول المصدر لتستقر أسفل قلب فينسنت فان جوخ.(1) نفذ صداها إلى عمق الصمت وبعثره، وانطلق صوت الموت يُدوّي بعيدا في أرجاء حقل القمح المُنعزل معلنا إياه المنظر الأخير الذي سيُسدِل عنده القدر الستار على حياة الفنان المليئة بالأسى.

 
لم تطل مسيرة فان جوخ في الحياة كثيرا، 37 عاما فقط امتد إليها طريقه. وفي أعوامه الوجيزة تلك، لم يجد أبدا ملجأ يقيه برد الوحدة الذي أخذ ينفذ إلى روحه كخناجر، ولا دواء يشفيه من آلام الكآبة التي أخذت تعتصر منه الحياة ببطء لتنتهي منه أخيرا في ذاك اليوم وسط حقل القمح. لم يهرب منها فنسنت، استسلم لها عندما صوّبت المُسدس إلى صدره، وترك لها يده تضغط بها على الزناد. كان يعلم أنه لا جدوى من الهرب، ولا مفر من الألم. على سرير النهاية، همس لأخيه ثيو: "سيستمر الحزن دائما"، ليطبق الموت بعدها شفتيه للأبد.(2)
 

"حقل القمح والغربان"، لوحة فان جوخ الأخيرة في حقل القمح الذي يُعتقَد أنه أطلق على نفسه النار فيه  (مواقع التواصل)

 

لكن الموت الذي ابتلع جسده عجز أن يطوي فنه، والنسيان الذي كان حليفه وهو بعدُ على قيد الحياة تبدد بعد أن رحل عنها، ليحل مَحله حُب وتقدير عميقان له ولكل ما رَسم. وقد كان ذلك الحُب هو الوقود الذي أزكى في قلوب 125 فنانا ما يكفي من شغف ليقضوا ست سنوات كاملة يُعيدون فيها رواية حياة فان جوخ عبر وسيطه المُحبب: الرسم. كانت النتيجة هي فيلم "محبة فينسنت" أول فيلم صُنع بالكامل من لوحات زيتية مُستوحاة من لوحات فان جوخ وأسلوبه في الرسم. 
 

كونه الفيلم الأول من نوعه لم يكن ما شغل بال دوروتا كيبيولا كثيرا عندما جاءتها فكرة الفيلم، كل ما أرادته المُخرجة البولندية هو أن تُرينا العالم كما رآه فينسنت فان جوخ. تقول كيبيولا: "لم نصنع هذا الفيلم لأننا أردنا أن نكون الأوائل أو لنحقق أية أرقام قياسية، صنعناه لأننا مؤمنون بأننا لن نتمكن من رواية قصة فينسنت بحق بلا رسوماته، ولهذا، كان علينا أن نبعث فيها الحياة".(3)

 
استبدل الفيلم شكل الواقع الفعلي الذي لم يجد فيه فينسنت سوى كل قسوة برؤيته له التي تؤدي فيها الألوان والأشكال رقصات حزينة. يرينا العالم كما رآه هو، وكما نقله لنا فنه. ففينسنت الذي وجد من الصعوبة الكثير في التواصل عبر الكلمات صب ذاته في لوحاته لتتولى هي النطق عنه. في أحد خطاباته كتب فينسنت لأخيه ثيو يقول: "لا يمكننا أن نتواصل سوى عبر الفن".(4) ولهذا، لم يجد "محبة فينسنت" وسيلة أبلغ ليُدخلنا عبرها إلى عالم الفنان المُعذَّب من جعل كل كادر لوحة تُحاكي لوحاته.

  

 
الحُب الذي يجعلنا نعبر حدود المُستحيل

بدأت الحكاية عندما مرت الرسامة والمُخرجة دوروتا كيبيولا بأزمة في حياتها وجدت السلوان عبرها في رسائل فينسنت لأخيه ثيو. خرجت كيبيولا من أزمتها عاقدة العزم على أن تروي حياة فينسنت عبر فيلم قصير يستغرق سبع دقائق مُستخدمة فيه اللوحات الزيتية.(5) لكنها عندما قابلت المُخرج هيو ولش -الذي وقع في حبها وحب مشروعها في آن واحد- استطاع أن يقنعها أن فينسنت يستحق أكثر من سبع دقائق. ومن هنا وُلدت فكرة صناعة فيلم روائي طويل عن الفنان الهولندي.(6)

 
أخرج هذا الفيلم من حيز المشروع الشخصي وحوّله إلى شيء ضخم سيحتاج إلى كثير من الوقت والمجهود والمال. تقول كيبيولا: "كان من المُفترض أن يكون هذا فيلما قصيرا طوله سبع دقائق، وبعد أن تحول إلى فيلم طويل لم يَعُد بمقدوري أن أرسمه وحدي، كان هذا ليستغرق 80 عاما!".(7)
  

 
وعوضا عن الثمانين عاما التي كانت ستحتاجها كيبيولا لإنجاز الفيلم وحدها تطلّب الأمر أن يترك 125 فنانا بيته وحياته، وفي بعض الأحيان وطنه، ويجتمع مع غيره من الفنانين وقد وضعوا نُصب أعينهم مُهمة صناعة الفيلم التي بدت مُستحيلة. فحتى يخرج الفيلم بشكل الرسوم المُتحَركة معناه أنه سيكون عليهم رسم 65,000  لوحة زيتية، بمُعدل 12 لوحة للكادر الواحد.
(8)

 
يقول ويلشمان "كل كادر في اللقطة الافتتاحية حيث تظهر لوحة "ليلة النجوم" استغرق ست ساعات لنرسمه، ما يعني حوالي أسبوعين لكل ثانية. تطلّبت اللقطة التي لم تستمر سوى عشر ثوانٍ على الشاشة حوالي عشرين أسبوعا لتُرسَم، أنت تنظر إلى نصف عام من حياة أحدهم". وهكذا لكي يتم صناعة "محبة فنسنت" قضى جيش من الفنانين شهورا طويلة في عمل مُضنٍ.(9)

 
في كل صباح، يتجه أولئك الفنانون إلى أحد الأستديوهات في مُنتزه غدانسك للعلوم والتكنولوجيا شمالي بولندا حيث سيكون عليهم قضاء يوم بأكمله في الرسم.(10)

الفنانون في الاستوديو  (مواقع التواصل)
الفنانون في الاستوديو  (مواقع التواصل)

 

من أولئك الفنانين سارة التي سافرت من موطنها إلى هناك وقد ظنت أن دورها سينتهي بعد خمسة أسابيع، لكن خمسة أشهر كانت قد مرت ولا نهاية تظهر في الأفق. تقول سارة: "أشعر بالحنين إلى بيتي، لكنني أعرف أنني إن غادرت فسأشتاق لما أفعله هنا أيضا، فقد أصبح حياتي كلها في الوقت الحالي".

 
وعند سؤالها عن فينسنت قالت: "أشعر بالأسى من أجله، كان مهووسا بشدة بأن يُصبح فنانا، لكنه لم يُلاقِ أي تقدير في حياته. إن لم أكن حذِرة، من السهل جدا أن أستسلم للدموع عندما أتذكر ما حدث له. لو كان يعرف كم من فنان سيقف الآن ويبذل قصارى جهده ليرى هذا الفيلم النور تحية له!".(11)

إحدى الفنانات أثناء عملها على كادر (مواقع التواصل)
إحدى الفنانات أثناء عملها على كادر (مواقع التواصل)

 

وبجانب العمل الشاق الذي احتاجه الفيلم، تطلّب الأمر أيضا كثيرا من الحُب والإيمان للمجازفة وصناعة شيء بهذا الحجم. يقول ويلش: "قيل لنا كثيرا من ممولي الأفلام وصُناع الرسوم المُتحركة أن ما نفعله شيء مجنون يقف على حدود المُستحيل. لكنّي منذ أول تجربة أجريناها آمنت بقوة أنه عليّ أن أستمر في صناعة هذا الفيلم حتى وإن كان الشيء الوحيد الذي سأفعل".(12)
 

ليل فان جوخ المُرصَّع بالأحلام

طالما كان لفينسنت علاقة خاصة وعميقة مع الطبيعة، حيث يرى الناقد الفني كليف إدوارد أنه كان في صفحتها أن تجلى له المُقدس(13). وقد كتب لأخيه ثيو في أحد رسائله يقول: "يفهم الرسامون الطبيعة ويعشقونها، ثم يعلموننا كيف نراها".

 
وقد ترجم عشق فينسنت للطبيعة نفسه بشكل خاص في لوحاته الليلية، حيث أحب هدوء الليل أكثر من صخب النهار، وكان في ذلك الليل أن واتاه الإلهام لمجموعة من أجمل لوحاته. يقول فينسنت: "أرى الليل ينبض بالحياة وثراء الألوان أكثر من النهار".

 
وفي إحدى المرات وهو يطل من شباك المشفى الذي أدخل نفسه إياه بعد نوبة اكتئاب عاتية كان فيها أن قطع أذنه، رأى منظرا سيحوّله فيما بعد إلى أحد أشهر الأعمال الفنية على الإطلاق. رأى السماء مليئة بالنجوم البرّاقة تتلألأ على بساطها، وكان أن حمله معناها إلى حلم يقظة استحال إلى لوحة "ليلة النجوم".

 

لوحة ليلة النجوم (مواقع التواصل)
لوحة ليلة النجوم (مواقع التواصل)

و"ليلة النجوم" هي واحدة من ثلاث لوحات ظهرت فيها نجوم فان جوخ الصفراء ذات الشكل المميز على خلفية سماء ليلية داكنة الزُرقة. أما اللوحتان الأخريان "تراس كافيه في الليل" و"ليلة النجوم فوق الرون"، ففيهما تظهر السماء والنجوم لكن في الخلفية، على العكس من "ليلة النجوم" التي يحتل فيها لمعان السماء الصدارة في المشهد.

 
وفيلم "محبة فينسنت" لم يغفل أهمية تلك اللوحات في حياة فان جوخ، فكانت على خلفية "ليلة النجوم" أن بدأ الفيلم وانتهى. كما جاءت في نهايته الأغنية الشهيرة التي كتبها دون مكلين في رثاء فان جوخ المُستوحاة من "ليلة النجوم" والتي تحمل أيضا اسمها. 
 

كتب فان جوخ لأخيه ثيو يقول "تحملني رؤية النجوم على الحلم. أتساءل، لماذا يصعب علينا الوصول إلى بقع الضوء في السماء أكثر من البقع السوداء على خريطة فرنسا. كما نركب القطار للوصول إلى تراسكون أو روان، نركب الموت لنصل إلى نجمة".(14)
 

 

مُنتحر.. أم مقتول؟

تجري أحداث الفيلم بعد مرور عام على موت فينسنت، حين يطلب ساعي البريد وصديق فان جوخ جوزيف رولان من ابنه الشاب أرمان رولان أن يوصل رسالة أخيرة من فينسنت لأخيه ثيو. يكتشف أرمان بعدها أن ثيو هو الآخر قد مات، وتبقى معه الرسالة تبحث عن مُتلقٍ، ويبحث هو معها عن إجابات حول الأسئلة التي طرحها موت فينسنت المُكتنف بالغموض.

 
undefined

نتبع بعدها أرمان في رحلته التي تأخذه إلى قرية أوفير الصغيرة في فرنسا، حيث يقابل الأشخاص المحوريين في أيام فينسنت الأخيرة. ومع كل شخص يقابله أرمان يظل سؤاله الأكثر إلحاحا يطرح نفسه: هل مات فينسنت مُنتحرا أو أن أحدا ما قد قتله؟

 
كل من يظهر في الفيلم هم أشخاص حقيقيون رسمهم فينسنت بالفعل في حياته. على رأسهم أرمان الذي عاش فينسنت في بيت والده لفترة من الزمن رسم فيها بورتريهات لجميع أفراد عائلته، ودكتور غاشيه الذي أشرف على علاج فينسنت في سنواته الأخيرة، وابنته مارجريت التي رسمها فينسنت وهي تلعب البيانو في لوحة شهيرة. تقول دوروتا عن هذا: "لطالما أعجبتني فكرة أن تقوم شخصيات رسومات فان جوخ برواية حياته".(15)

  

أدّى الممثل البريطاني دوجلاس بوث دور أرمان رولان ابن ساعي البريد، ويقول بوث عن الفيلم:
أدّى الممثل البريطاني دوجلاس بوث دور أرمان رولان ابن ساعي البريد، ويقول بوث عن الفيلم: "كم أتمنى لو كان فينسنت موجودا ليرى التحية المليئة بالحب المُصنوعة من أجله
 

ولإضفاء مزيد من الواقعية على الحركة تم الاستعانة بممثلين حقيقيين أدّوا الأحداث على خلفية خضراء. بعدها، يُدخل الفنانون خلفيات مُستوحاة من الأماكن التي رسمها فان جوخ ويعيدون رسم المشهد كله. وفي النهاية يتم دمج التمثيل مع اللوحات عبر برامج الحاسوب.

 
أدّى الممثل البريطاني دوجلاس بوث دور أرمان رولان ابن ساعي البريد، ويقول بوث عن الفيلم: "كم أتمنى لو كان فينسنت موجودا ليرى التحية المليئة بالحب المُصنوعة من أجله، ليرى درجة العشق والشغف التي يُكنّها الناس له ولأعماله. عندما سيُبصر رسوماته تُبعث للحياة سيظن أنه مُنتشٍ في القلب من حلم مليء بالهلوسات. ألم يكن قد قال "أحلم ثم أرسم أحلامي"؟ فلنا أن نتخيله يحلم بهذا الأسلوب".(16)

 
في أحد خطاباته لأخيه ثيو التي اقتبسها الفيلم يقول فينسنت: "من أنا في أعين معظم الناس؟ نكرة، غريب الأطوار، شخص غير مُرحب به، بلا أي مكانة في المجتمع الآن وللأبد، باختصار: شخص ينتمي إلى الحضيض. لا بأس، حتى وإن كان هذا صحيحا، أود أن أُري الناس عبر فني ما يحويه قلب ذاك النكرة غريب الأطوار. هذا ما أطمح إليه، مدفوعا بالحب أكثر مني بالبغض، رغما عن كل شيء".(17)

 
وقد كان حب فينسنت العميق والخالص لفنه ولكل الناس حتى من آذوه هو ما بقي وتردد ليستحيل "النكرة" إلى "أبي الفن الحديث"، ويبقى هذا الحب ليُلهم جيشا من الفنانين أن يعيدوا رواية حياته عبر رفيق دربه الوحيد الفن، ويلمس ذلك الحُب كل من يجلس في قاعة العرض المظلمة ويشاهد لوحات فينسنت ينفخ فيها مئة فنان من روحه لتدب فيها الحياة.

المصدر : الجزيرة