شعار قسم ميدان

"المربع".. عندما يلعب الفن على مآسي الآخرين

ميدان - المربع

"المُربّع هو ملجأ الثقة والاهتمام. داخل حدوده نتشارك جميعنا كافة الحقوق والالتزامات بالتساوي"

     

كانت هذه الكلمات التي تصف المشروع الفني الجديد بأحد متاحف الفن المُعاصر في العاصمة السويدية ستوكهولم، بالطبع فإن المتحف خيالي في الفيلم ولكن هذا لا يعني أن أحداث الفيلم كلها خيالية. أجرى روبن أوستلوند، المخرج السويدي الحائز على سعفة كان الذهبية عن فيلم المُربّع، عدداً من المقابلات كان من ضمنها تلك التي أجراها مع مدير متحف موديرنا موسيت في ستوكهولم. يعتبر هذا الإجراء طبيعياً بالنسبة لأوستلوند الذي يهوى قراءة الأبحاث وإجراء الاستطلاعات التي يعتمد عليها في كتابة أحداث أفلامه عموماً.

 

"لم تكن قراءة النشرات الفنية أمراً مفيداً، لأن لغة الفن من الصعب الولوج إليها"، يقول أوستلوند الذي يبدأ فيلمه بمقابلة يجريها كريستيان (الممثل الدنماركي كلاس بانغ) مع إحدى الصحفيات التي كان سؤالها الأخير مقتبساً من المدونة الشخصية لكبير أمناء المتحف الذي تقابله الآن وعندما تفاجَأ الرجل من تعقيد وفلسفة السؤال، كان المشاهدون قد أدركوا أنه لا يعلم على الإطلاق معنى ما هو موجود في مدونته الشخصية المعنية بالفن.

 

للهروب من الموقف يستخدم كريستيان أحد أقدم التحليلات لدور المتاحف فيقول "الأمر يتعلق بمدى تأثير المتاحف على القطع الفنية، مثلاً ماذا لو وضعنا حقيبتك هذه في متحف، هل هذا سيجعل منها قطعة فنية؟". كان البدء بكوميديا مُحرجة من هذا النوع طرف خيط لما سيكون عليه هذا الفيلم، نحن أمام طبقة لا نراها في المجتمع بسهولة، وهذه المرة نراهم تحت ضغط الإحراج وأحياناً الإذلال.

   undefined   

يقول أوستلوند أنه مهتم بتعريف الطبقات الاجتماعية في أفلامه،(1) فمثلاً في "قوة قاهرة Force Majeure" كانت عائلة من الطبقة المتوسطة العليا تواجه عقبات كادت أن تمحوها نهائياً، وبينما كانت الدراما حاضرة بتأثير صدمة أدت إلى ارتباك، ولكنه استطاع أحياناً توليد الكوميديا منه، والكوميديا كان منبعها الجمهور نفسه؛ من أي موقع سيتعامل مع هذه الطبقة، من مكان أعلى منهم أم من طبقة أدنى قليلاً، وفي كلا الحالتين هناك كوميديا خفيفة بمساحة ضيقة ولكنها حاضرة.

  

يغرق كريستيان، الأب لفتاتين في نفس الوقت، بسلسلة تكاد لا تنتهي من القرارات الخاطئة، سواء حينما قرر دخول علاقة جسدية مع الصحفية التي قابلته أو عندما تعرّض للسرقة ولم يتصرف كما ينبغي فتسبب في تعقيد الأمور أكثر، أو عندما يوافق على نشر فيديو ترويجي لمشروع المتحف الجديد لم يُراجعه أصلاً، أو بالتكتّم على تلف قطع فنيّة فيقوم بإصلاحها سراً.

 

يظهر كريستيان في بداية الفيلم مع أولى العقبات، عندما تبدأ إحدى الفتيات على الرصيف بالمناداة على المارة "هل ترغب في مساعدة إنسان؟" ممسكة ببعض الاعلانات بين يديها. لا يوجد من يتجاوب معها أو يبدي أي اهتمام للمساعدة، حتى كريستيان الذي استوقفته الفتاة لم يرغب بإضاعة دقيقة واحدة من أجل مساعدة أحدهم.

   undefined   

يتضح مع هذا الموقف ازدواجية التعاطي تجاه آلام الآخرين بالنسبة لرجل بموقع كريستيان، الفنان الغني والمثقف والوسيم الذي يمتلك سيارة فارهة وبيتاً يُحسد عليه، فبينما كان يسعى لبدء مشروع المتحف الجديد، المُربّع الذي يُرسم على الأرض وما إن يدخله أحد فإن المارة جميعهم عليهم تقديم المساعدة إليه إذا طلبها. كان هو نفسه يرفض تقديم مساعدة في موقف مماثل تماماً وحقيقي جداً ولكنه بلا مُربّع.

 

إذاً فإنّ الفارق الوحيد بالنسبة لكريستيان هو فنيّة الحدث لا إنسانيّته إذا أخذنا بالاعتبار أنه يصادف يومياً المرأة ذاتها وهي تطلب المساعدة، ولكنها لا تقف داخل أيّ مربعات، فهل هذا ما ينزع عنها مشروعية الطلب والحصول على مساعدة؟ تماما كما يمنح المتحف لقب "عمل فنّي" على كل ما هو بداخله دوناً عما هو بخارجه؟

 

لا يقف المخرج السويدي مكتوف الأيدي حيال الأمر، فبعد كل حماقة يرتكبها كريستيان نجده يحصل على عقابه المفروض مباشرة دون انتظار. بعد رفضه لمساعدة الفتاة على الطريق يتعرض لسرقة، وعندما يحاول استرجاع هاتفه وبطاقات ائتمانه المنتشلة يقرر إرسال تهديدات لسكّان عمارة بأكملها لأنه لا يعلم على وجه الدقة رقم شقّة السارق، ولا ينتهي الأمر باسترجاعه للأغراض، فالأسوأ لا يزال قابلاً للحدوث عندما يطلب منه أحد الفتيان من ساكني المبنى الاعتذار له ولعائلته على الألم الذي سببه لهم بعد اتهامه زوراً بالسرقة، يرفض كريستيان الاعتذار ويكاد يتسبب بمقتل الفتى، يعاقبه أوستلوند مجدداً بأن نراه بعدها بين أكوام القمامة محاولاً البحث عن رقم الفتى.

  

  

استلهم أوستلوند احداث المتحف من قصص قرأها أو سمع عنها حدثت حقيقة،(2) مثل مشهد وقوع التمثال الكبير بداية الفيلم، وقيام عامل نظافة بكنس عمل فني أثناء تنظيفه لإحدى القاعات. وفي أحد المشاهد يوجه الفيلم سخريته من طبقة بأكملها عندما يقوم أحد الفنانين بأداء عرض غرائبي في قاعة فخمة وسط المتحف كان زوّارها قد أتوا تلبية لدعوة على مأدبة عشاء من أجل التبرع للمتحف كي ينجز مشروعه الجديد.

 

كان "أوليج" الفنان الذي يؤدي دور القرد اسماً حقيقياً لفنان روسي اعتاد أداء دور "الكلب" مع لوحة إلى جانبه كتب عليها "لا تضايقني"، وإذا ضايقه أحد فإنه يهاجمه فوراً. كان أوليج في الفيلم القرد الذي اقتحم قاعة الأثرياء ويهدد أمنهم ويُهين عدد منهم دون استعداد أيّهم على الرد.(3)

 

يصل الأمر إلى قيامه بمحاولة اغتصاب لإحدى السيدات في القاعة وينفرد بها لولا تدخل متأخر من قبل أحد الرجال الحاضرين ليستجمع البقية شجاعتهم وينضموا إليه في عملية تهشيم رأس "القرد". لربما كانت غضبة "الفنان" لها دوافعها والتي لن يكون هناك حاجة لتبريرها فهو هنا يلعب دور "حيوان"، والاستسلام لهذه الفكرة من الأساس هو إعلان قبول لنتائجها، ولكن أكثر ما كان حاضراً في المشهد هو انعدام ردّ الفعل لدى مجموعة الأثرياء تلك، وخوفهم حتى من إيقاف مهزلة تحدث أمام أعينهم.

   undefined   

في هذا الفيلم كما في بقيّة أفلام المخرج السويدي روبن أوستلوند كانت القصة تتمحور حول فرد وسط مجموعة من الناس ينتمي إليهم بشكل عملي. يرى أوستلوند أن نمط المعيشة الذي اعتاد عليه الناس اليوم في المدن مرتبط بشكل أساسي بالاقتصاد.

 

تحولت العائلة الممتدة والكبيرة إلى قطع عائليّة صغيرة بمجرد انتقالها إلى المدن حيث لا تحتمل شقق المدينة أعداداً كبيرة، وبالنسبة للنظام الاقتصادي فإنه من الأفضل حتى أن يعيش كل فرد في شقة منفردة حيث يضطر لاستهلاك كل منهم ما كان يكفي عائلة بأسرها. يكرّس أوستلوند عمله لخدمة هذه الفكرة، متناولاً في كل مرة طبقة اجتماعية مختلفة في سياق واقعي للغاية، لا يخلو من بعض المُباشرة أحياناً، مثل حديث كريستيان في "المُربّع" عن الفروق الطبقيّة ورأس المال وغيرها.

 

في مرحلة ما من الفيلم يصل كريستيان إلى نقطة الانهيار الكامل، مع استقالته من العمل جراء فضيحة إعلامية كبرى تسبب بها للمتحف، وسبقها مضايقة الصحافية له عندما لم يتوقع هو أن تسير العلاقة بينهما على هذا النحو، إضافة إلى ملاحقة الفتى الذي يطلب الاعتذار منه مع دوره كربّ عائلة. انهيار رافقه خضوع للمبادئ الأصلية، والتي سيكون أبسطها: إن توجّب عليك الاعتذار.. اعتذر.

المصدر : الجزيرة