فيلم "حيوات سابقة".. ماذا نفعل في أحلامنا التي لن تتحقق أبدا؟
"فافتَرَقنا حَولاً فَلَمّا التَقَينا .. كانَ تَسليمُهُ عَلَيَّ وَداعا"
(المتنبي)
"ماذا لو؟"، سؤال كثيرا ما نطرحه على أنفسنا؛ ماذا لو سرنا في طرق أخرى، أو اخترنا خيارات مختلفة؟ ماذا لو بقينا مع مَن فارقناهم، وتابعنا سرد الحكايات التي انقطعت؟ إلى أين كانت تؤدي بنا هذه السبل؟ وهل كنا لنصبح أشخاصا آخرين غير مَن نحن عليه الآن؟
يبدو سؤال "ماذا لو؟" وكأنه مفتاح سحري يفتح الباب على احتمالات لا نهائية، وهو السؤال الذي قررت المؤلفة والمخرجة الكورية "سيلين سونغ" أن تطرحه عبر فيلمها "Past lives" أو "حيوات سابقة" الذي استطاع أن يحصد إشادة نقدية واسعة، منذ عرضه للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي، كما رُشح لجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي الدولي.
ويتوقع العديد من النقاد أن يحصد الفيلم عددا من الترشيحات والجوائز في حفل الأوسكار القادم أسوة بسابقه "Everything Everywhere All at Once" أو "كل شيء في كل مكان في وقت واحد" الذي حصل في العام الماضي على سبع جوائز أوسكار، وهو من إنتاج الجهة نفسها "A24" التي تثبت في كل مغامرة إنتاجية قدرتها على فتح المزيد من الآفاق في المشهد السينمائي.
قصة حب انتهت قبل أن تبدأ
يبدأ الفيلم بافتتاحية هادئة؛ لقطة لثلاثة أشخاص: امرأة من أصل آسيوي تتوسط رجلين، أحدهما آسيوي مثلها، والآخر غربي. تقترب الكاميرا من الثلاثة ببطء، بينما نسمع حوارا بين شخصين خلف الكاميرا، يلعبان لعبة التخمينات حول العلاقة التي تربط الثلاثي، وعبر هذه النظرة المتلصصة ندخل إلى حياة الأبطال الثلاثة.
تروي المخرجة -وكاتبة الفيلم في الوقت ذاته- سيلين سونغ الحكاية في خط بسيط نسبيا يعتمد على ثلاث نقلات زمنية، حيث تعود بنا في الزمن بعد المشهد الافتتاحي السابق ذكره إلى سيول في كوريا قبل 24 عاما، حين كانت البطلة (نا يونغ) في طفولتها تقضي وقتها مع صديقها المقرب وزميلها في المدرسة (هاي سونغ)، ويجمع بينهما حب طفولي بريء، حتى إنها تخبر أمها أنها تنوي أن تتزوجه حين تكبر. لكن هذه الحكاية اللطيفة لا تكتمل أبدا، إذ تهاجر الفتاة مع عائلتها إلى كندا، وتفقد التواصل مع صديقها.
تأتي النقلة الزمنية الثانية بعد 12 عاما، حيث نرى الفتاة وقد كبرت وأصبحت تحمل اسما غربيا "نورا"، بوصفه وسيلة ضمن العديد من الوسائل للاندماج في مجتمعها الجديد. نورا التي تعمل كاتبة مسرحية في بداية مسيرة واعدة، تتذكر صديق طفولتها بالمصادفة وعلى سبيل التسلية، وبينما تبحث عن أسماء أصدقاء ومعارف قدامى من كوريا تبحث عن اسمه، ليفاجئها منشور له على فيسبوك يبحث عنها هو الآخر.
يعاود الصديقان الاتصال بعد مرور 12 عاما، وقد أصبح هاي سونغ الآن طالب هندسة، ولا يزال يعيش مع عائلته في سيول. نراقب كيف يستعيدان صداقتهما، وتبدو الرابطة الرومانسية البريئة بينهما وكأنها تعيد نوعا من التواصل بين نورا وجذورها، حيث تشير له ضاحكة حين يعلق على نطقها للغة الكورية أنها هجرت لغتها الأم ولا تتحدث بها إلا معه ومع والدتها.
يستمتعان ببدايات العلاقة، اللهفة والشوق ومكالمات سكايب الطويلة، حيث تستكشف المخرجة الطريقة التي تربطنا بها التكنولوجيا، لكن اللهفة تبدأ في التلاشي بمرور الوقت، وتحل محلها الحاجة إلى اللقاء الفعلي، والانزعاج من فروق التوقيت ومشكلات الاتصال والشبكات، لتتحول التكنولوجيا إلى عائق.
نورا التي تبدو من البداية شخصية عملية وطموحة (أخبرت أصدقاءها في طفولتها أنها ستترك كوريا كي تحصل على جائزة نوبل) تقرر إنهاء العلاقة التي تشعر أنها بلا مستقبل حقيقي، حيث لا يرغب أيٌّ منهما في السفر للآخر في وقت قريب، وتغير إقامتها لأسباب فنية حيث تلتقي بزوجها المستقبلي آرثر.
تأتي النقلة الزمنية الثالثة بعد مرور 12 عاما أخرى، تعيش نورا الآن في نيويورك مع زوجها، ويخبرها "هاي سونغ" أنه قادم إلى نيويورك في زيارة ويرغب في رؤيتها. يلتقي الصديقان أخيرا بعد مرور 24 عاما كاملة على لقائهما الفعلي الأخير، فما الذي يسفر عنه هذا اللقاء؟ ماذا لو لم تهاجر نورا، هل كانت قصة الحب بينهما لتكتمل بشكل آخر؟
إين يون.. هل تتحكم بنا الأقدار؟
إين يون أو بالكورية "In-Yun "인연، هو مفهوم مشتق من البوذية، تتحدث عنه نورا في أحد لقاءاتها الأولى بمَن سيصبح فيما بعد زوجها الأميركي. تقول نورا إن "إين يون" مفهوم يشابه القدر، ويشير إلى أن أي لقاء حتى لو كان عابرا بين اثنين هو نتاج لقاءات وتفاعلات أخرى في حيواتهما الماضية. وإذا تزوج اثنان فهذا يعني وجود نحو 8000 طبقة من الإين يون بينهما، وحين يسألها عن مدى إيمانها بهذا المفهوم، تجيبه بأنه مفهوم يستخدم في كوريا للإغواء، وهو ما تنجح فيه بالفعل حيث ينتهي المشهد بقبلة طويلة تجمعهما.
تتردد أصداء هذا المفهوم في مختلف مشاهد الفيلم، وفي العلاقة التي تجمعها بحبيبها الكوري القديم. فإن كان مقدرا لهما اللقاء والوقوع في الحب، فخيارات نورا الواقعية والعملية لن تجعلها تتخلى عن حياتها مع زوجها، كما يحدث عادة في قصص الحب الرومانسية التقليدية.
يقدم الفيلم مثلث حب لا يتبع المسار التقليدي المعهود في الحكايات الرومانسية، وهو ما يعبر آرثر عن مخاوفه منه بطريقة ساخرة، حين يخبرها أنه في مثل هذه القصة يُعد الزوج الأميركي هو الشرير الذي يقف في وجه القدر. لكنه في الواقع لم يكن شريرا، إنه زوج محب وداعم مقرب من عائلتها ويسعى للاندماج معهم، يتناول الأطعمة الكورية التقليدية ويحاول تعلم لغتها الأم، لكنه ما زال خائفا من ألا تكون قصته معها رومانسية بما يكفي في مقابل قصة حبيب الطفولة الذي يعاود الظهور من الماضي.
يتساءل آرثر إن كان من الممكن أن تترك حياتها معه لتهرب مع حبيب طفولتها، فابتسمت ساخرة وردت بأنها لن تفوت بروفاتها من أجل رجل. "نورا" امرأة عملية، قوية، لديها أحلامها ومسيرتها المهنية الواضحة التي لن تضحي بها من أجل حلم رومانسي عابر. (1)
ارتباك الهوية
خلف القصة الرومانسية لحبيب الطفولة العائد هناك طرح شديد الرهافة حول ارتباك الهوية لدى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، فالعلاقة بين "نورا" و"هاي سونغ" ليست مجرد علاقة حب محتملة بقدر ما هي نوع من الخيوط الرهيفة التي تربطها بتلك الطفلة الصغيرة التي تركتها خلفها في مسار طفولتها الذي انقطع في سيول. "هاي سونغ" هو الوحيد الذي يناديها باسمها الكوري، الذي توقفت والدتها عن مناداتها به، فهو هنا ليس مجرد حبيب الطفولة بقدر ما هو رمز لكل احتمالات الحياة التي تركتها عندما اضطرت للهجرة من وطنها الأم.
عندما سألت أم "هاي سونغ" والدة نورا قبل الهجرة عن سبب هجرتهم، أجابت بأن عليك التضحية بأشياء كي تكتسب أشياء أخرى. لقد اكتسبت نورا حياة مهنية واعدة في المهجر، وعلاقة ناجحة مع زوج داعم ومحب، لكنها لن تعرف أبدا ما فقدته في الوطن، ماذا لو تابعت قصة حبها مع هاي سونغ، هل كانت القصة لتحتفظ بالألق ذاته؟ أم أن العشب فقط يبدو أكثر اخضرارا على الجبهة البعيدة التي لا نطولها؟
لكن "نورا" لا تنوي استعادة الماضي أو الانشغال به، أو السماح له بإفساد خياراتها الحالية، بقدر ما جاء لقاؤها الأخير بهاي سونغ بمنزلة وداع ووسيلة للسماح بالرحيل، وداع مناسب لم يحظ به الطفلان اللذان افترقا دون وداع لائق، كي يتمكن كلٌّ منهما من الاستمرار في المضي قدما.
"أنت تحلمين بلغة لا أفهمها"، هكذا يخبرها زوجها "آرثر"، فيما يعكس توقه للتواصل مع هذا الجزء من شخصيتها، الجزء الذي لا يزال مرتبطا بالوطن رغم محاولات التكيف مع الوطن الجديد. (2)
التجربة السينمائية الأولى
"في ربيع 2018 وجدت نفسي أجلس في حانة في إيست فيلدج بين زوجي وصديق طفولتي، أحدهما يتحدث الإنجليزية فقط، والآخر لا يتحدث سوى الكورية، أدركت أني لا أترجم بين لغتيهما فقط، بل أيضا أترجم بين هذين الجزأين من نفسي، ومن هنا ولد الإلهام لقصة الفيلم".
(الكاتبة والمخرجة سيلين سونغ)
تشترك سيلين سونغ في الكثير من الأمور مع بطلتها "نورا"، مثلها هاجرت من كوريا مع عائلتها في عمر الثانية عشرة إلى كندا، وانتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية في العشرينيات من عمرها حيث التقت بزوجها الكاتب "جاستن كوريتزكيس".
كتبت "سونغ" وأخرجت للمسرح والدراما التلفزيونية عددا من الأعمال الواعدة، وفيلم "past lives" هو فيلمها الروائي الطويل الأول، الذي استندت في كتابة قصته إلى جزء من حياتها الشخصية. تمكنت من تقديم لغة بصرية أنيقة وبسيطة من خلال التصوير بكاميرا 35 ملم، وتمكنت من استغلال إمكانيات السينما دون أن تحبس نفسها داخل إطار تقنيات المسرح والدراما التلفزيونية التي اعتادت على العمل من خلالها.
وقد استفادت "سونغ" في كتابة الفيلم من خبرتها في الكتابة للمسرح وللتلفاز. عادة ما تعاني الأفلام الأولى التي يصنعها كُتّاب من خلفية مسرحية من الحوارات الطويلة، لكن سيلين سونغ نجحت في كتابة فيلم وازنت فيه بين الحوار المنطوق ولحظات الصمت التي نقلت فيها مشاعر الشخصيات عبر لقطات مقربة تركز على وجوههم، فلم تستغرق في الحوارات الطويلة أو العميقة، عدا المشاهد التي تجمع بين الزوجين نورا وآرثر، وهو ما يمكن تبريره بأن كليهما يعمل في الكتابة الإبداعية. في هذا السياق نجح المصور "شابير كيرشنر" في تقديم لقطات مقربة لوجوه الأبطال كانت في بعض الأحيان بديلا للحوار المنطوق.
اختارت الكاتبة ما ركزت عليه من أبعاد الشخصيات، فبينما برزت شخصية "نورا"، لم نعرف الكثير عن شخصية "هاي سونغ"، وكأنه لا توجد أبعاد أخرى لحياته خارج ارتباطه العاطفي بنورا. وبينما نشهد لمحات من ماضي "هاي سونغ" و"نورا" في طفولتهما يظهر "آرثر" فجأة في حياتها ولا تظهر عائلته أو ماضيه، فالماضي في كوريا، الوطن المهجور، بينما الحاضر يبقى رغم حضوره القوي بلا جذور. في مشهد معبر، بينما هي نائمة يظهر "آرثر" للمرة الأولى في النافذة المفتوحة خلفها، وكأنه أقرب للحلم، كما وصفته المخرجة في إحدى المقابلات.
نجح الممثلون الثلاثة في إيصال المشاعر شديدة الدقة والرهافة للشخصيات، وقد استفادت المخرجة من ظروف التصوير في خلق المشاعر بين طاقمها، على سبيل المثال كانت الممثلة "جريتا لي" التي تؤدي دور نورا تعيش في لوس أنجلوس، بينما كان "تيو يو" الذي أدى دور "هاي سونغ" يعيش في كوريا، فلم يلتقيا إلا عبر جلسات الزوم حتى حان وقت تصوير المشاهد التي جمعتهما في نيويورك، وهو ما استغلته المخرجة لخلق نوع من الشعور بالتحفظ وعدم الراحة الذي يظهر عند استعادة التواصل مع صديق قديم.
قدمت المخرجة كذلك عددا من الإشارات لأفلام أخرى تناولت العلاقة مع الزمن والذاكرة، فنرى ملصقا لفيلم "Celine and Julie Go Boating" على جدار مكتب والد نورا. كما تستدعي نورا فيلم "Eternal Sunshine of the Spotless Mind" في حديثها مع هاي سونغ، ليظهر وهو يشاهد مقطعا منه في المشهد التالي. كما تذكرنا مسيرة "هاي سونغ" و"نورا" في شوارع نيويورك بعد لقائهما ببعض مشاهد ثلاثية "ريتشارد لينكليتر" الشهيرة.
يعتمد الفيلم على سرد خطي مباشر، بإيقاع بطيء نسبيا رغم أنه يتناول أكثر من عقدين من الزمن في زمن أقل من ساعتين، فيما يبدو رثاء لكل الاحتمالات اللا نهائية لطرق أخرى كان من الممكن أن نسلكها.
______________________________________________
المصادر:
- 1-‘Past Lives’ review: This aching film is the most affecting love story in ages : NPR
- 2-Past Lives movie review & film summary (2023) | Roger Ebert