شعار قسم ميدان

اليهود والسينما العربية.. من عصر الاحتلال إلى زمان التطبيع

داخل حارة اليهود في مصر، أو "الملَّاح" في المغرب، وفي بقاع أخرى؛ عاش اليهود حياتهم في المجتمعات العربية والإسلامية، منعزلين تارة، ومنخرطين في مجتمعاتهم تارة أخرى، ومتوسعين في عدد من المهن والمجالات التي سمحت لهم بأن يحوزوا وزنا مهما داخل مجتمعاتهم في أحيان كثيرة، ومن بين هذه المجالات كان الفن، الذي تحدَّث عنهم بوجودهم أو بدونه، كاشفا أسرار وأغوار حياة الجيتوهات، والتحوُّلات السياسية والاجتماعية التي ضربت الجاليات اليهودية في المنطقة حينئذ، وأعنفها على الإطلاق إسرائيل.

شالوم.. اليهودي الأول

كان الظهور الأول لليهود على الساحة الفنية العربية عبر ممثلين برزوا في المسرح أولا ثم انتقلوا إلى السينما بعد ذلك، واختار عدد كبير منهم تغيير اسمه واتخاذ اسم محايد لكسر الحواجز بينه وبين الجمهور العربي، المُسلم في أغلبه. فقد اختارت الفنانة المصرية "هنريت كوهين" لنفسها اسم "بهيجة المهدي"، وغيَّرت "راشيل إبراهيم ليفي" اسمها إلى "راقية إبراهيم"، فيما عرَّب الفلسطيني "بدرو لاما" اسمه إلى "بدر لاما". على الجهة المقابلة اختار فنانون آخرون الاحتفاظ بأسمائهم اليهودية، مثل المصرية "فيكتوريا كوهين"، وزميلتها الفنانة سورية المولد "إستر شطاح"، دون أن يؤثر ذلك على تعامل الجماهير معهما ومع أعمالهما(1). وتمكَّن الفنانون اليهود من إثبات مواهبهم وإيجاد موطئ قدم لهم داخل الساحة الفنية، فكانت مشاركتهم طبيعية بجانب زملائهم من أهل الفن المسلمين أو المسيحيين.

بيد أن الظهور الحقيقي لشخصية اليهودي على الساحة الفنية ظهر مع وصول المخرج اليهودي الأشكنازي الإيطالي الأصل "توجو مزراحي" إلى مصر، الذي أنتج عددا من الأفلام لعب بطولتها اليهودي السفاردي "شالوم". وكانت العلاقة بين المواطنين اليهود والمواطنين المسلمين أو المسيحيين في بعض البلدان العربية أفضل من العلاقة بين أغنياء اليهود الذين عاشوا في الأحياء الراقية وفقرائهم الذين عاشوا في حارات اليهود الفقيرة. وداخل هذا السياق، جاءت أفلام توجو مزراحي التي حاولت إعادة صياغة العلاقة بين اليهود وبعضهم بعضا عبر تسليط الضوء على أبرز التحديات التي يواجهونها بوصفهم أقلية في مجتمعات عربية شرقية غالبيتها تدين بالإسلام(2).

 

 

حاولت أفلام مزراحي مخاطبة اليهود الفقراء، الذين ظهروا عادة عبر شخصية "شالوم"، الشخصية الرئيسية لكل الأفلام، الذي انحسر ظهوره في قالب اليهودي الفقير الذي مارس مهنة بسيطة لم يسمح له المجتمع بغيرها. فشالوم هو بائع اليانصيب في فيلم "05001" (سنة 1932)، وبائع الفول في فيلم "الرياضي" (1938)، وهو الفيلم الذي صوَّره محروما من بعض حقوقه كممارسة الأنشطة الرياضية، رغم أن الواقع لم يؤكد حدوث ذلك بالضبط، ففي الفترة نفسها، كانت هناك العديد من الأندية الثقافية والرياضية اليهودية، مثل جمعية المكابي الرياضية في الإسكندرية التي تحوَّلت بعد ذلك على مستوى مصر إلى "الاتحاد اليهودي الرياضي والأدبي المكابي"، ولكن لعلها كانت مساحات يصعُب على فقراء اليهود الاندماج فيها(3). وعانى شالوم بجانب الفقر من الاضطهاد، فرغم قناعته بمهنة بسيطة مثل بيع الشطائر في فيلم "الرياضي"، تعرَّض للنصب من بعض اللصوص، وعندما اشتكى للشرطة اعتدت عليه وأنصفت السارق وفق أحداث الفيلم.

حققت أفلام شالوم نوعا من النجاح بسبب خفة ظلها وطرحها الكوميدي رغم الرسائل المهمة التي حاول مزراحي إيصالها لأبناء ديانته من اليهود، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، لم يعد من الممكن استمرار أفلام "شالوم" على الساحة الفنية داخل الإطار نفسه، ولم يكن ممكنا إعادة تقديمها بشكل مختلف، فاختفى بعدها "شالوم" إلى الأبد من عالم الفن. وراهن مزراحي بعد ذلك على الفنانة ليلى مراد التي لم تكن قد أعلنت إسلامها بعد، فأخرج لها أفلام "في ليلة مُمطِرة" (1939)، و"ليلى بنت الريف" (1941)، و"ليلى بنت المدارس" (1941)، ثم أخيرا "ليلى" (1942)، ولم تُركِّز هذه الأفلام كثيرا على يهودية البطلة، بل ركَّزت بشكل أكبر على المجتمع العربي المحيط بها والكيفية التي يواجه بها التحديات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية.

من فيلم "ليلى بنت المدارس" (مواقع التواصل)

بعيدا عن أفلام مزراحي، حضرت الشخصية اليهودية في عدد من الأفلام وإن لم تكن رئيسية، ونذكر هنا على سبيل المثال فيلم "طاقية الإخفاء" الذي لعب فيه الممثل شفيق نور الدين دور اليهودي المرابي الذي استولى على أملاك أرملة يهودية عجوز لعبت دورها "سيرينا إبراهيم"، فيما ظهر اليهودي بصورة إيجابية في فيلم "لعبة الست" (1946) من بطولة نجيب الريحاني، وهو "حسن" الذي يلتقي برجل الأعمال اليهودي "إيزاك" أثناء فترة بحثه عن لقمة العيش وسط جفاء الناس وانتشار الطمع والبخل وسوء الخلق. ويُظهر الفيلم "إيزاك" بشخصية فريدة وإنسانية وسط مجتمع خنقته الحسابات المادية، ويبرهن لحَسَن بأقواله وأفعاله أن السعادة الكاملة تكمُن في التضحية وإنكار الذات والوفاء، وينتهي به المطاف متبرعا لحسن بكل ثروته بعد وصول النازيين إلى ليبيا، إذ يقرر إيزاك الهرب من مصر والتوجه لجنوب إفريقيا بحثا عن الأمن والأمان بعيدا عن معتقلات النازيين.

إسرائيل.. الطرف الجديد في المعادلة

"كل حياتنا كفاح وجهاد

شيء وارثينه من الأجداد

اللي فاتولنا دول وبلاد

فيها العز وفيها الجاه

أرض جدودنا وغيرها ما فيش

فوقها نموت وعليها نعيش"

من أغنية "يا مجاهد في سبيل الله"، من فيلم "فتاة من فلسطين" (1948)

كان لظهور دولة الاحتلال سنة 1948 دور كبير في إعادة تشكيل علاقة المواطن العربي المسلم أو المسيحي بالمواطن اليهودي في بلده، فقد أثَّرت النكبة وما بعدها على التشكيل المجتمعي للدول العربية التي ضمَّت جاليات لا بأس بها من المعتنقين للديانة اليهودية. وكان لهذا التغيير دون شك تأثير كبير على دور اليهود في صناعة السينما العربية عموما والمصرية خصوصا، كما ألقى بظلاله على "صورة اليهود" في الأعمال الفنية التي جُسِّدوا فيها. بداية، يمكن للناظر إلى أحوال الفنانين اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين أن يشعر ببعض الضغط الاجتماعي والسياسي الذي دفعهم إلى هذه الهجرة دون وجود رغبة حقيقية منهم في ذلك.

يُبرهن على ذلك مسار حياة "سيرينا إبراهيم" و"جراسيا قاصين" اللتين هاجرتا إلى دولة الاحتلال، في حين أن "نجمة إبراهيم" شقيقة سيرينا، و"صالحة قاصين" شقيقة جراسيا، لم تهاجرا من مصر بسبب زواجهما من مسلمَين، وانتمائهما لأسر مستقرة استطاعت البقاء في البلاد. يخبرنا ذلك أن "إسرائيل" لم تمثل ذلك الحلم الوردي لعدد كبير من اليهود، من بينهم فنانون ومشاهير دعموا دولة الاحتلال في فترة من الفترات، إذ هاجرت راقية إبراهيم (راشيل إبراهيم ليفي) إلى الولايات المتحدة في الأخير رغم حصولها على جواز سفر إسرائيلي، فيما فضَّل توجو مزراحي التوجه إلى منفاه الاختياري بإيطاليا التي عاش فيها حتى وافته المنية سنة 1982، ومن جهتها هاجرت "سميحة مراد" إلى الولايات المتحدة بعد انفصالها عن زوجها "ليون كازيس"، وهو أحد وسطاء الوكالة اليهودية التي عملت على تهجير اليهود إلى "أرض الميعاد".

على الجانب الآخر، اختار بعض الفنانين اليهود تقديم أعمال تساند القضية العربية في مواجهة الدولة اليهودية، إذ أسند المخرج "يوسف وهبي" للمطربة "ليلى مراد"، اليهودية الأصل التي كانت قد أسلمت للتو، دور الشخصية الفلسطينية في فيلم "شادية والوادي" (1948)، وارتدت ليلى مراد ملابس الممرضات رفقة "كاميليا"، الممثلة اليهودية أيضا، للعناية بالجنود المصريين العائدين من حرب فلسطين في فيلمي "أرواح هائمة" (1949) ثم في فيلم "الحياة الحب" (1954)، فيما تزيَّنت راقية إبراهيم بعلم مصر في فيلم "ماكانش على البال" (1959).

راقية إبراهيم في فيلم "ماكانش على البال" (1959). (مواقع التواصل)

وإن كان هذا هو حال الممثل اليهودي، فإن صورة اليهودي على الشاشة تأثرت هي الأخرى كثيرا بفعل المعطيات السياسية في مرحلة ما بعد قيام دولة الاحتلال. ففي سنة 1948 قدّم المخرج "صلاح أبو سيف" فيلمه "مغامرات عنتر وعبلة" الذي اكتسى بطابع سياسي من خلال عدد من الشعارات القومية التي استُخدِمت في الإطار السينمائي من قبيل "أرض العرب للعرب" و"نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا"، وقدَّم الفيلم صورة جاسوس يهودي أدى دوره الممثل "زكي طليمات"، الذي ظهر واضعا عصابة على عينه في إسقاط واضح على شخصية "موشيه ديان" قائد الأركان ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق، وقدَّم الفيلم الجاسوس اليهودي بوصفه شخصية لا تَنسى ثأرها من العرب ولا تعترف بالمثل العليا وحق الوطن، وتبيع الأبطال والمُخلصين إلى أعدائهم مقابل المال والسلطة. أما فيلم "فتاة من فلسطين" (1948) فنجد فيه طريقة أخرى في تصوير الشخصية اليهودية، فلم يلجأ إلى الرسائل المباشرة كما في "حكايات عنتر وعبلة"، لكنه مثَّل العدو على أنه قوة غامضة وقوية لا ضمير لها.

بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، وعلى عكس المتوقع، هدأت الأمور نوعا ما في مصر، فكان الموقف الرسمي هو التأكيد على ضرورة التمييز بين اليهودي والصهيوني، وهنا يمكن استدعاء فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل"، وهن 3 فتيات، مسلمة ومسيحية ويهودية على الترتيب، وقعن ضحية الشاب يوسف الذي أراد الزواج من ثلاثتهن، وأحبَّهن بالقدر نفسه، وأحب كل واحدة منهن لتميُّزها واختلافها. وقد أراد الفيلم أن يقول بطريقة غير مباشرة إن الوطن قادر على استيعاب جميع مواطنيه على اختلاف عقائدهم دون إشكال ولا تعارض(4).

البحث عن التوازن

رغم الخطاب العدائي الرسمي الذي تم تصديره للداخل والخارج حول دولة الاحتلال من قبل مصر والدول العربية، فإن الفن بقي محافظا على درجة من التوازن في تجسيد صورة اليهودي بين إظهاره بمظهر العدو ومحاولة إظهاره بصورة عكس ذلك في عدد من الأعمال الفنية، فنجد مثلا مناهضة واضحة لشخصية اليهودي في أفلام مثل "بورسعيد" (1957) و"ابن حميدو" (1957) و"جميلة" (1958)، فلم يقتصر دور الشخصيات اليهودية على ممارسة مهنة الربا، أو اتهامها بالبُخل في إطار السخرية، بل ظهرت هنا تُهَم جديدة بعيدة حينها عن "الكليشيهات" مثل الخيانة والاتجار بالمخدرات.

من فيلم "أنا حرة" (1959) (مواقع التواصل)

على النقيض، نجد تجسيدا مختلفا لصورة اليهودي في فيلم "أنا حرة" (1959) عن رواية الكاتب إحسان عبد القدوس بنفس العنوان، فقد تعرفت بطلة القصة "أمينة" على الفتاة اليهودية "فيكي" التي ساعدتها على إعادة اكتشاف نفسها وإيجاد تعريف حقيقي للحرية عبر الدراسة والتفوق والعمل. ولا يكتفي الفيلم بتقديم "فيكي" نموذجا إيجابيا، بل ويُظهِر لنا المجتمع اليهودي المُصغَّر الذين يتكون من والدة فيكي السيدة المكافحة وشقيقها المثقف الذي يعمل موظفا في بنك صباحا ومُعلِّما للرقص بعد الظهر. وقد دخل الفيلم أيضا في مقارنات واضحة بين المجتمع العربي والمجتمع اليهودي من خلال بعض الأحداث، مثل الأعياد التي يُظهر فيها اليهود نوعا من الالتزام وحسن الخلق حتى مع وجود ممارسات من قبيل شرب الخمر والعلاقات المفتوحة بين الشباب والفتيات، عكس المجتمع العربي الذي تسيطر فيه الغيبة والنميمة حول العديد من التابوهات بداية بأسرار البيوت وصولا إلى الجنس.

خلال سنوات الستينيات ظلت المعادلة نفسها حاضرة، فاستمرت الصورة النمطية لليهودي المُرابي والبخيل والمحتال الذي أصبح جاسوسا، وبنت صهيون الجميلة التي تستغل جمالها لخدمة أجندات إسرائيل (فيلم "صراع الجبابرة" 1962) والأب اليهودي الذي يعيش على "مفاتن بناته" فأضحى يُعوِّل بأكثر من ذلك، ويُجنِّد بناته داخل إسرائيل حتى يتمكَّن من إيجاد موطئ قدم له وسط علية القوم في مجتمع جديد ناشئ (فيلم "الجاسوس" 1965). على الجانب المقابل، قُدِّم الجانب الإيجابي لليهودي عندما تخلَّص من صهيونيته، كما هو حال "نادية لطفي" في فيلم "صراع الجبابرة"، التي سافرت إلى دولة الاحتلال حالمة بوطن قومي لليهود، ثم أدركت الواقع وضحَّت بحياتها لإنقاذ حبيبها الضابط المصري الأسير لدى جيش الاحتلال.

مع توقيع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل نهاية السبعينيات، دخل الإنتاج الفني في دوامة انقسام أكبر من تلك التي شهدتها الستينيات حول كيفية صياغة العلاقات الجديدة مع إسرائيل، وما يترتب عليها من تغيير على المستوى الفني. وقد انقسم أهل الفن بعد ذلك إلى فريقين، فريق يبحث في صفحات التاريخ الغابرة عن أحداث تدعم السلام والتسامح وتُنفِّر من الحرب، فيما أخذ الفريق الثاني على عاتقه محاربة الصهيونية والتحذير من خطرها وانتشارها في العالمين العربي والإسلامي(5). في العموم، كان الإنتاج الفني قليلا في هذه الفترة، ولم يظهر أي تجسيد للشخصية اليهودية، فغاب الإنسان وحضرت المدرعات والمعدات العسكرية، فيما كان الظهور الوحيد لضابط إسرائيلي في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، حيث لعب "محيي الدين إسماعيل" دور الصهيوني الذي يقتل الأسرى المصريين بملامح باردة بعد نكسة 1967.

من فيلم "48 ساعة في إسرائيل"، السيد راضي في دور"ديفيد" (يمين) وفاروق الفيشاوي في دور "سليم أو شلومو" (يسار). (مواقع التواصل)

مع وصول سنوات التسعينيات طرأ تغيير نوعي على الأعمال الفنية التي تناولت العلاقة بين العرب واليهود، مع التركيز على "الصهاينة" الذين ثبَّتوا أركان احتلالهم لأرض فلسطين. وبدأت أفلام الجاسوسية في الظهور والسيطرة على المشهد الفني لعدة أسباب، أبرزها التأكيد على أن الدول العربية لديها من الإمكانيات ما يجعلها تقف نِدّا لإسرائيل وتحقق انتصارات كبرى في سرية تامة، وهو أمر بقي في الإطار الفني بالطبع، إذ إن النظام المباركي كان شديد الارتباط بالولايات المتحدة، ومن ثَمّ حَرَص على احترام السلام بين القاهرة وتل أبيب مع مراعاة الخطوط الحمراء اجتماعيا وسياسيا أمام الشعب الذي لم يقبل حتى اليوم بالتطبيع مع دولة الاحتلال(6).

عرفت هذه الفترة إنتاج عدد من الأفلام مثل "فخ الجواسيس" (1992) و"مهمة في تل أبيب" (1993) و"48 ساعة في إسرائيل" (1998)، وقدَّمت لنا هذه الأعمال شخصية اليهودي بأكثر من طريقة. ففي "مهمة في تل أبيب" نكتشف شخصية "بوتا" الذي يتميز بالدهاء والقسوة، فيما نرى زميله "بنحاس زائيف" الذي يعتبر مَلَاكا إذا قارنّاه ببوتا، كما تصف ذلك "آمال" (نادية الجندي). أما فيلم "48 ساعة في إسرائيل"، فقدَّم لنا "ديفيد" (السيد راضي) الذي مثَّل الشر المطلق مقابل زميله "سليم أو شلومو" (فاروق الفيشاوي) صاحب القدر الكبير من ضبط النفس والهدوء والتحضر، ولكن كل ذلك اختفى حين أظهر ما كان يُخفيه في نفسه من كراهية عميقة وتعطُّش لدماء العرب.

مع مرور الوقت، بدأ تركيز السينما على علاقة العداء مع اليهود أو الصهاينة يقل بشكل ملاحظ نظرا لعوامل سياسية واجتماعية، لكن بقيت هنالك محاولة إقحام مشاهد "وطنية" تؤكد العداء لهم في سياق لا علاقة له بالعمل بالضرورة، مثل أفلام "همام في أمستردام"، و"جاءنا البيان التالي" بطولة محمد هنيدي، و"رحلة حب" لمحمد فؤاد وأحمد حلمي، و"ورقة شفرة" للثلاثي هشام ماجد وشيكو وأحمد فهمي.

التطبيع حلّا لمحاربة الثورات

مسلسل "حارة اليهود" (2015)، تدور أحداثه في مصر في الفترة الزمنية بين عامي 1948 و1956، ويتطرق لحياة الجالية اليهودية في مصر. (مواقع التواصل)

عادت العلاقة بين الدول العربية وإسرائيل تطرح نفسها بصفتها نقطة محورية أثناء ثورات الربيع العربي التي اشتعلت في أنحاء المنطقة، حيث اعتبرت شرائح واسعة من الثوار أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل سواء رسميا أو تحت الطاولة إرث خلَّفته الأنظمة الحاكمة وترفضه الشعوب العربية لأنه تَخَلٍّ واضح عن القضية الفلسطينية، ولكن بعد أن استعادت الأنظمة القديمة عافيتها ونجاحها في كبح جماح المطالب الثورية في غالبية الدول العربية، سارعت هذه الأنظمة إلى توطيد علاقاتها بإسرائيل. ولم تعد الأعمال الفنية بعد الثورات المضادة تبذل جهدا في تمرير الرسائل السياسية بسرية وعلى طريقة "دس السم في العسل" كما قيل، بل أتت الرسائل مباشرة بشكل فج وصادم أحيانا(7). وقد ظهر التغير الأهم في سياسة بعض الدول العربية تجاه إسرائيل بوضوح في أعمال فنية عربية ظهرت مؤخرا، وغيَّرت من صورة اليهودي على شاشتها، وحاولت تقديمه بصورة يقبلها المواطن الجالس أمام التلفاز، وهو مواطن يُعوَّل عليه ليكون ظهيرا شعبيا للتطبيع وسط جمهور عربي يكن مشاعر العداء لإسرائيل لأسباب سياسية وتاريخية ودينية.

تزامنا مع ذلك، ظهرت أعمال فنية أعادت تقديم اليهود وتاريخهم على الشاشة بشكل أكثر "توازنا"، مثل مسلسل "حارة اليهود" (2015)، الذي تدور أحداثه في مصر في الفترة الزمنية بين عامي 1948 و1956، ويتطرق لحياة الجالية اليهودية في مصر، التي اتخذت من حارة اليهود سكنا لها، جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين بلا أي تمييز على أساس الدين. وقد قدّمت لنا "عائلة العدل" الأسرة اليهودية بطريقة غاية في الرقي، حيث التحضر والأناقة وحسن الخلق من جميع أفراد الأسرة، باستثناء الابن "هارون" الذي لعب دوره الممثل أحمد حاتم، إذ عمل هارون في السر لصالح الحركة الصهيونية، أما أخته "ليلى"، بطلة الفيلم التي لعبت شخصيتها الممثلة منة شلبي، فهي شابة مصرية أحبت الضابط المصري المسلم "إياد نصار"، وارتبطت به عاطفيا رغم ضعف فرص الزواج منه بسبب اختلاف الديانة.

عاشت الأسرة في المسلسل العديد من التقلبات بسبب الوضع السياسي وانشقاقها داخليا حيال الموقف من إسرائيل، ومن ثَم فرضت الظروف على ليلى الالتحاق بأخيها في إسرائيل، لكنها سرعان ما عادت إلى حضن حارة اليهود بعد أن تبيَّن لها إجرام العصابات الصهيونية، وأصرَّت على الزواج من الضابط علي، وهو زواج لم يتم بسبب نشاط أخيها الصهيوني؛ ما دفعها إلى السفر وحيدة إلى فرنسا بعد وفاة أبيها وفرار أمها اليهودية المتدينة مع ابنها موسى خوفا من استهداف اليهود على يد "المتطرفين".

حاول المسلسل تقديم العديد من الرسائل، أبرزها ارتباط اليهود العرب ببلدانهم وعدم اقتناعهم بمشروع "أرض الميعاد" الصهيوني باستثناء قلة منهم، وكيف أنهم تركوا حياتهم في بلدانهم جزئيا بسبب "المتطرفين الإسلاميين" الذين مارسوا عليهم الإرهاب وفرضوا عليهم التوجه إلى إسرائيل، مع إظهار تطرف اليهود الصهاينة أصحاب المشروع الإسرائيلي في الوقت نفسه. وقد خرجت سفارة إسرائيل بالقاهرة للإشادة بالعمل قبل أن تتراجع بعد ذلك لتحفُّظها على طريقة تجسيد الشخصية الإسرائيلية، تماما كما فعل "أفيخاي أدرعي" الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي في الإعلام العربي(8)(9).

السينما اليهودية تشرق من المغرب

من الأفلام التي عرضت في المغرب فيلم "بئر يعقوب" (يدعى أيضا "بنت إسرائيل") من إنتاج فرنسي-أميركي (مواقع التواصل)

من المشرق نذهب إلى الغرب، حيث يعود الحضور اليهودي في بلاد المغرب إلى مئات السنين، وتختلف الروايات في تاريخ الوصول الأول لليهود لهذه الأراضي، فهناك مِن المؤرخين مَن أرجع هذا الوجود إلى زمن ما قبل ميلاد المسيح عليه السلام، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن هناك من الأمازيغ، السكان الأصليين لهذه المناطق، من كان يهوديا(12). وعلى كل حال، ظلت الجاليات اليهودية في المنطقة المغاربية، خصوصا في المغرب الأقصى، حاضرة بقوة حتى بداية المشروع الصهيوني، حيث خرج اليهود طوعا أحيانا وكرها في أحيان أخرى نحو فلسطين المحتلة.

انعكس هذا الحضور الديمغرافي لليهود على الفن في الدول المغاربية، ففي الجزائر مثلا التي عرفت الانطلاقة الفعلية للنشاط السينمائي عام 1905، كانت جل الأفلام المنتجة تابعة لشركتَي "باتيه" و"جومون"، وكلاهما كانت مملوكة ليهود. وقد سيطر اليهود على هذه الصناعة فيما ابتعد العرب، وذلك لأسباب عديدة أهمها عدم سماح الاستعمار للمغاربة بالوقوف خلف الكاميرا لإنجاز الأفلام قبل الأربعينيات(13). وقد تمكَّنت شركة "باتيه" عام 1907 من فتح فروع في المغرب العربي، وفي عام 1908 افتتحت أول قاعة عرض سينمائية في تونس، فيما نجح عدد من رجال التسويق والتوزيع السينمائي من المتمصِّرين اليهود من حاملي الجنسية الفرنسية في دخول سوق بلدان المغرب العربي وتوزيع أفلامهم التي أنتجوها في المشرق(14).

ظهر وجه جديد للسينما اليهودية بعد ذلك سنوات قبل احتلال فلسطين، وهي السينما الصهيونية التي كسبت مساحات جيدة للانتشار، خصوصا في المغرب الأقصى الواقع آنذاك تحت الاحتلال. ونشأت فكرة السينما الصهيونية عند "أودلف نيفلد"، وهو يهودي من أصول بولندية، قدم فكرة مُفصَّلة للربط بين الصهيونية والسينما خلال المؤتمر الصهيوني الأول عام 1899، مؤكدا على أهمية "الفن السابع" للمشروع الاستيطاني الصهيوني. وبدأ التنفيذ عبر "جاكوب بن دوف" الأب الروحي للسينما الصهيونية، وهو يهودي روسي هاجر إلى فلسطين بعد ثورة 1905 في روسيا، وأخرج عام 1912 فيلما عن يهود فلسطين، وهو "حياة اليهود في أرض الميعاد"، ثم فيلم "الفيلق اليهودي" عام 1923(15).

عرف المغرب بداية حضور الأفلام الصهيونية بعد إعلان دولة الاحتلال عام 1948، ومن الأفلام التي عرضت في المملكة فيلم "بئر يعقوب" (يدعى أيضا "بنت إسرائيل") من إنتاج فرنسي-أميركي، ويحكي قصة فتاة عملت راقصة وعاشت في عدد من الدول قبل أن تلتحق بالحركة الاستيطانية لتوطين "الشعب اليهودي" في فلسطين المحتلة. وعرض الصهاينة أفلاما أخرى في المغرب المُستعمَر من فرنسا، مثل فيلم "الحقيقة ليس لها حدود" الذي تناول قصة "الهولوكوست" في بولندا.

من فيلم "أوركسترا منتصف الليل" (مواقع التواصل)

أثارت هذه الأفلام سخط المغاربة المسلمين، وهاجمت الصحافة "الوطنية" استفحال النشاط الصهيوني، خصوصا في مدينة طنجة التي بلغ فيها الأمر أن عرضت بعض دور السينما أفلاما تمثل العسكرية الصهيونية، فهَاج الأهالي وحطَّموا الدار احتجاجا على ذلك. وليست وحدها الصحافة المغربية من ثارت في وجه هذا التوسع السينمائي الصهيوني، بل كان الموقف مشتركا مع بعض المثقفين المغاربة، مثل "محمد عابد الجابري" الذي نشر عام 1959 (بعد استقلال المغرب بثلاث سنوات) سلسلة من المقالات في صحيفة التحرير فضح فيها النشاط الصهيوني الذي انتشر في السينما المغربية، ضاربا في إحدى مقالاته المثال بحفل زفاف لعروسَيْن يهوديَّيْن تمَّ في ساحة فيردان التي تحوَّلت إلى اجتماع شبه سري، أغلقت فيه الأبواب وعُرِضَت فيه تسجيلات سينمائية عن إسرائيل(16)(17).

بعد استقلال المغرب، خفت حضور السينما الصهيونية، إلا أنه ونظرا للعلاقة التاريخية بين المملكة وجاليتها اليهودية، واصلت الأعمال التي تتحدث عن اليهود ظهورها عبر الوثائقيات التي رصدت أنماط حياة اليهود، ومنها "يا حسرة دوك ليام" الذي أظهر نمط حياة اليهود الاجتماعي والديني في الخمسينيات من القرن الماضي(18). وفي مرحلة تالية، ظهرت الأعمال السينمائية حول الجالية اليهودية مثل فيلم "أوركسترا منتصف الليل" لـ"جيروم كوهين أوليفار" و"عايدة لإدريس لمريني"، و"إلى أين أنت ذاهب يا موشي" للمخرج "حسن بنجلون"، الذي تحدَّث عن هجرة اليهود في ستينيات القرن الماضي إلى فلسطين المحتلة، ثم فيلم "تنغير-القدس" الذي أثار جدلا كبيرا وقت عرضه عام 2012 بسبب رفض شريحة من الجمهور دعوة الفيلم إلى التطبيع مع إسرائيل. وبعد إعلان المغرب عن تطبيع علاقاته بإسرائيل، عاد الفن بقوة لمد جسور العلاقات بين الرباط وتل أبيب عبر بوابة الجالية اليهودية من أصول مغربية الموجودة في الأراضي المحتلة، فخُصِّصَت الدورة الثامنة عشرة لمهرجان أكادير الدولي للسينما والهجرة لموضوع توطيد العلاقات بين المغرب وإسرائيل(19).

شكَّل اليهود رافدا مهما من روافد الفن العربي، وبعد رحيلهم من بلدان العرب، سواء إلى الأراضي المحتلة أو إلى البلدان الغربية؛ واصلت الشاشة العربية الاهتمام بهم، وواصلوا هم حضورهم خلف الشاشة ولو على استحياء، فيما واصلت الكاميرات الراصدة لعبتها في الحشد ضد الصهاينة تارة، أو الدعوة إلى التطبيع معهم تحت ستار "التعايش" تارة أخرى، وهو تغيُّر لم توازيه بالضرورة تغيُّرات في المزاج العام تجاه الصهيونية، إذ يبدو الشارع العربي أكثر استقرارا في رفضه لدولة الاحتلال منذ تأسيسها قبل أكثر من 70 عاما.

__________________________________________

المصادر

  1. أحمد رأفت، كتاب اليهود والسينما في مصر والعالم العربي، هيئة قصور الثقافة بالقاهرة.
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4. المصدر السابق.
  5. المصدر السابق.
  6. مركز الجزيرة للدراسات: العلاقات المصرية الإسرائيلية في عهد مبارك.
  7. أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة، مركز نماء.
  8. سفارة إسرائيل: حارة اليهود يأخذ مسارا تحريضيا ضدنا
  9. مسلسل حارة اليهود يشعل جدلا مصريا إسرائيليا
  10. مسلسل "حارة اليهود" يثير الجدل بمصر وإسرائيل
  11. اتفرج | مدحت العدل : حرقت علم إسرائيل فكيف تتهموني بالتطبيع في "حارة اليهود" ؟
  12. اليهود المغاربة.. إليكم بعض الحقائق التي قد لا تعرفونها
  13. الدعاية الصهيونية في المغرب خلال الحماية وبعيد الاستقلال
  14. المصدر السابق.
  15. المصدر السابق.
  16. المصدر السابق.
  17. اليهود المغاربة في السينما والأدب
  18. المصدر السابق.
  19. "سينما الهجرة" تواكب علاقات المغرب وإسرائيل
المصدر : الجزيرة