رمضان في السودان.. رحمات ممتدة على ضفاف النيل

"من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي والمصطفى؟ أما قرؤوا شعر العباس والمجذوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟"

(الطيب صالح.. الأديب والكاتب السوداني)

لا يزال شهر رمضان المبارك في السودان قادرا على الاحتفاظ بطعمه الأصيل، وتقاليده المميزة، ففي شوارع السودان وقبل بداية الشهر الكريم بأسابيع طويلة، تنبعث من البيوت روائح مميزة، وترتفع الأدخنة الكثيفة، وتتعالى ضحكات السيدات، وبشكل خاص الحبوبات (الجدات) اللاتي اجتمعن معا لتحضير (الآبري) و(المديدة) وغيرهما من المشروبات والمأكولات السودانية المميزة، استعدادا للشهر الكريم.

وإذا أردنا أن نلخص تقاليد شهر رمضان في السودان في مفتاح واحد رئيس، لوجدنا أنها جميعا تنبثق من قيمة واحدة هي "المشاركة"، بداية من المشاركة في التجهيز للشهر الكريم، وليس انتهاء بالإفطار الجماعي في كل شارع من شوارع المدن والقرى السودانية، فتعالوا إلى جولة نتعرف فيها تقاليد الشهر المبارك في السودان.

عواسة الحلو مر

قبل بداية الشهر الكريم تبدأ الأسر السودانية في الاستعداد عبر تخزين ما يُسمى "موية رمضان"، والتي تشمل كل ما يحتاجون إليه من أنواع الطعام والشراب المختلفة خلال شهر رمضان المبارك، وأهمها "الحلو مر" أو الآبري الأحمر، المشروب الرمضاني الأشهر وملك المائدة الرمضانية في السودان.

هذا المشروب ذكي الرائحة، والذي يجمع طعمه بين مرارة البهارات وحلاوة السكر، تتضمن عملية صناعته خطوات طويلة ومعقدة، بداية من غسل حبوب الذرة الحمراء وإنباتها في جوالات رطبة من الخيش، ثم تجفيفها تحت أشعة الشمس، وطحنها بعد ذلك كي تتحول إلى دقيق يُعجن جيدا ويُترك كي يتخمر، وتضاف إليه مجموعة من البهارات تشمل: الزنجبيل، والقرفة، والعرديب، والكمون، وحبة البركة، والكركديه، والتمر، وهكذا يصبح الحلو مر جاهزا للخطوة التالية، وهي ما يُعرف بـ"العواسة"، وفيها يُشكَّل على هيئة أقراص على صاج ساخن، ليتحول إلى رقائق جافة، تُخزن حتى الشهر الكريم، ويصبح جاهزا للتحضير عبر إضافة السكر والماء.

إعلان

لا يقتصر استهلاك الحلو مر على حدود السودان فقط، إذ يحرص المغتربون السودانيون في كل مكان حول العالم على التزود به في غربتهم، وهو تقليد قديم، حيث اعتاد أجدادهم التزود به خلال قوافل الحج الطويلة، وبالإضافة إلى الحلو مر تعرف المائدة السودانية في رمضان مشروبات أخرى، مثل: الآبري الأبيض، والذي يُصنَع من الذرة المقشورة، والنشا، والبهارات، وكذلك العرديب أو التمر الهندي، والكركديه، وغيرها.

خم الرماد

ومن عواسة الآبري إلى خم الرماد، الطقس الذي يحرص السودانيون على ممارسته قبل رمضان وهو يرتبط بـ"العواسة" أيضا، حيث يعني الخم: الكنس أو الجمع، والرماد يُقصَد به الرماد الناتج عن عواسة الحلو مر في الأسابيع السابقة لشهر رمضان الكريم، حيث اعتادت النساء قديما تكديس كميات الرماد ثم خمها أو جمعها في اليوم الأخير من شعبان، للتباهي بكميات الرماد الكبيرة، التي تدل على استعدادهم للشهر الكريم بتجهيز كميات كبيرة من أطعمة الإفطار ومشروباته، من هنا جاء أصل المصطلح، لكنه صار في يومنا هذا يُستخدَم للتعبير عن التوسع في الموائد واللذائذ، والإفراط في الطعام والشراب في اليوم السابق لشهر رمضان، حيث تتجمع العائلات والأصدقاء للخروج من المنزل وقضاء الوقت معا قبل رمضان.

ويمكننا أن نجد طقوسا مشابهة في ثقافات مختلفة، على سبيل المثال: تعرف بعض الطوائف الكاثوليكية يوم "Mardi Gras"، وهو لفظ فرنسي يعني: "الثلاثاء السمين"، حيث يحتفل المشاركون بتناول كميات كبيرة من المعجنات والأطعمة الغنية بالدهون في يوم الثلاثاء السابق مباشرة لبداية الصوم الكبير، ويُعرَف بمسميات مختلفة، فيُطلَق عليه بالإسبانية "ديا دي لا تورتيلا (Día de la Tortilla)" نسبة إلى طبق التورتيلا الإسباني الشهير، وفي إيطاليا يُطلَق عليه "مارتيدي جراس (Martedì Grass)"، ويعيده بعض المؤرخين إلى طقس روماني قديم.(1)(2)

وأخيرا في ليلة الرؤية، وعقب ثبوت رؤية الهلال، تخرج الجموع للاحتفال به في طقس سوداني خاص يُعرَف باسم "الزفة"، وهي عبارة عن مسيرة كبيرة وصاخبة تتقدمها جوقة الموسيقى العسكرية، ومواكب الطرق الصوفية، مع مختلف فئات الشعب، للطواف بالشوارع الرئيسة في المدن للإعلان عن بداية الشهر الكريم.

الإفطار الجماعي

اعتاد أهل السودان الخروج والتجمع للإفطار معا في شوارع الحي، حيث يُعَد ما سُمِي بـ"برش رمضان". (الفرنسية)

المشاركة والتراحم كما سبق أن أشرنا من أهم مفاتيح التقاليد السودانية في شهر رمضان المبارك، حيث اعتاد أهل السودان الخروج والتجمع للإفطار معا في شوارع الحي، حيث يُعَد ما سُمِي بـ"برش رمضان"، وهو عبارة عن نوع من السجاد الشعبي المصنوع من سعف النخيل، ويمتد في الشوارع ما بين البيوت، وكذلك في الساحات الخضراء والميادين.

كما يمتد إلى الطرق الرئيسة، وخاصة طرق السفر الواصلة بين القرى والمدن المختلفة، حيث يتنافس أهل القرى على تقديم الطعام للمسافرين الصائمين على الطريق، فيعترضون الطريق ويجبرون السيارات على التوقف والنزول للإفطار، وبعد تناول الإفطار وشرب الشاي والقهوة عادة ما يتوجهون في جماعات إلى صلاتَي العشاء والتراويح.(3)

إعلان

وما دمنا أتينا على ذكر الطعام، فالمائدة السودانية في رمضان تحفل بمجموعة من الأطباق التقليدية المتوارثة عبر الأجيال، ومن بين أشهرها: العصيدة، وهي الطبق الرئيس في المائدة الرمضانية، وتختلف مكوناتها من منطقة إلى أخرى، حيث تُصنَع في بعض المناطق من دقيق الذرة المخمر بالماء، ثم تُطهى على نار هادئة وتُقدَّم على شكل قوالب في الأقداح، وتُسقى بما يُعرَف بملاح التقلية أو النعيمية، وهذه الأخيرة تُصنَع من خليط الروب "اللبن الرائب" مع البصل والثوم والدقيق والنشا، وبعضهم يضيف إليها زبدة الفول السوداني، بينما ملاح التقلية يُصنَع بإضافة اللحم المفروم أو المجفف مع الصلصة والبهارات، وتكون ثقيلة القوام على عكس النعيمية التي اشتُق اسمها من نعومة قوامها.

ومن الأطباق المميزة أيضا طبق البليلة، وهو نوعان: البليلة العدسية الحمراء، وبليلة الكبكبي أو الحمص، ومنها نوع مالح، وآخر يُحلَّى بإضافة التمر إليه، وهو من الأطباق الحاضرة على مائدتَي الإفطار والسحور، وهناك أيضا طبق (المديدة)، وهو حساء كثيف له مذاق حلو يُصنَع من النشا أو حبوب الذرة أو الحلبة.(4)

وتتنوع طرق إعداد اللحوم في المطبخ السوداني، فمنها اللحم المقدد أو المجفف، والذي يُستخدَم في أغلب أنواع الملاح كما سبق أن أشرنا، وهناك أيضا الأقاشي، ويتكون من قطع اللحم الخالية من العظام، والتي تُتبَّل بالزنجبيل والفلفل والفول السوداني المطحون أو (الدكوة)، وتُشوَى حتى تنضج، وهناك أيضا شية السلات، وتُستخدَم لشي لحوم الضأن، حيث يُشوَى اللحم على نوع خاص من الأحجار الموضوعة فوق النار، وسُمِّيت بـ"السلات" لأن اللحم ينسلت من الدهن.

(رويترز)

"الرحمتات" في ليالي الختام

"نحن، بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي، فلاحون فقراء، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى، كأنني نغمة من دقات قلب الكون نفسه، إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان، سميكة اللحي حادة الأشواك، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة"

(الطيب صالح – موسم الهجرة إلى الشمال)

ومع اقتراب نهاية الشهر الكريم، وتحديدا في الخميس الأخير منه، عادة ما تقيم العائلات السودانية ولائم ضخمة، يُدعَى إليها الأهل والجيران وخاصة الأطفال الصغار، باعتبارها نوعا من الصدقة المهداة لأرواح الراحلين، وتُسمَّى "الرحمتات"، أي الرحمة جاءت أو أتت، وغالبا ما يتكون الطعام من اللحم والخبز والأرز فيما يُعرَف بالسليقة أو الفتة.

وقديما كان الأطفال يدورون على البيوت لجمع الطعام وهم ينشدون قائلين:

"الحارة ما مرقت

ست الدوكة ما مرقت

قشاية قشاية

ست الدوكة نساية

كبريتة كبريتة

ست الدوكة عفريتة

ليمونة ليمونة

ست الدوكة مجنونة"

وهكذا من الرحمات والمشاركة، تمتد ليالي رمضان السودانية على ضفاف النيل، ببركتها ورحماتها لتحمل أُنسا للقلوب تدوم بركته طوال العام.

_________________________________________

المصادر:

  1. 9 Things You May Not Know About Mardi Gras
  2. حفريات تاريخية ودينية في طقس (خم الرماد)
  3. Breaking Ramadan fast the Sudanese way
  4. A Data Glimpse on the Ingredients of Khartoum’s Cuisine in Ramadan
المصدر: الجزيرة

إعلان