مدرسة الروابي للبنات.. لماذا تنتهي معاركنا مع الشر بالهزيمة؟
هل انتبهت مؤخرا إلى مسلسل "مدرسة الروابي للبنات"؟ ربما استوقفك أحد الآراء المتضاربة عنه على الإنترنت، أو أنك قد شاهدته بالفعل وكوَّنت رأيا أعربت عنه أو كتمته، أو لعلك تجاوزته دون اكتراث، مهما يكن الأمر، فليس ثمة شك أن تجارب "نتفليكس" في الأردن حتى الآن لا تزال محلَّ جدل شديد.
في شهر يونيو/حزيران عام 2019، أعلنت "نتفليكس" عن باكورة الأعمال الدرامية العربية على شاشتها وهو المسلسل الأردني "جن"، الذي يتناول قصة عُصبة مراهقين يسعون لاستدعاء جني، ويطرح ثيمات جانبية حول مفاهيم مثل الحب والتنمر. أثار العمل فور صدوره جدلا عنيفا، إذ احتوى على ألفاظ نابية ومشاهد عدَّها المشاهدون منافية للقيم والآداب. انتهى الأمر بإصدار المدعي العام أمرا عاجلا بوقف عرض المسلسل في العاصمة عمّان، بالتزامن مع تصريح مفتي عام المملكة الأردنية الهاشمية بأن المسلسل بمنزلة انحدار أخلاقي ولا يُمثِّل عادات الأردنيين ولا التعاليم الإسلامية.
يُعَدُّ التنمر أيضا هو المُحفِّز الرئيسي للأحداث في "مدرسة الروابي للبنات"، التجربة الثانية لـ "نتفليكس" في الأردن. فور عرض المسلسل في مطلع أغسطس/آب من العام الجاري، تدفَّقت ردود الفعل حوله وتجاوزت العالم الافتراضي إلى الواقعي. لكن الرأي العام -وإن بدت نبرته حادة- لم يفتك بالعمل كسابقه، وفي المقابل، ظهرت في الخلفية نقاشات حول قضايا مُلِحَّة، على غرار النظام الأبوي، والقتل بدعوى الشرف والتحرش الجنسي، والتصدُّع الأسري، ووصم المجتمع للعلاج النفسي، والعنف ضد المرأة، وسَطْوَة مواقع التواصل الاجتماعي على حياة الشابات، والاستغلال الذي يمارسه بعض مستخدمي هذه المواقع تجاه القُصَّر.
ونتيجة لهذا الكم الهائل من القضايا الخلافية، انقسم المشاهدون بعد مشاهدتهم للمسلسل إلى فريقين رئيسيين: الأول يرى أن العمل مسَّ مشكلات حقيقية يعاني منها قطاع من المجتمع الأردني، وإن لم يُمثِّل جُلَّ فئاته، أما أنصار الفريق الثاني فقد رأوا المسلسل وصمة على جبين المجتمع الأردني، وأعربوا عن خشيتهم من أن تُفسِد الأفكارُ التي يطرحها الفتيات الصغيرات في المجتمعات المحافظة.
يحكي المسلسل قصة فتيات مراهقات في المرحلة الثانوية، زمرة منهن يمارسن التنمر، وتتزعَّمهن ليان (نور طاهر)، وثلة أخريات يقعن ضحايا لهذا التنمر وفي مقدمتهن مريم (أندريا طايع)، ونظرا لنفوذ والد ليان، فإنها لا تتلقَّى عقابا يُذكَر جرَّاء سلوكها، ولا يجرؤ أحد على المساس بها. ومع الاستمرار في تعنيف مريم وتدمير حياتها بلا هوادة، تُقرِّر الأخيرة الثأر من ليان وعصبتها.
غير أن السؤالين اللذين تُركا أيضا دون جواب شافٍ هما: ما الحد القاطع بين العتمة والنور، وبين الخطأ والصواب؟ وكيف يمكن لإنسان أن يُجابه عباءة الشر دون أن ينتهي به الأمر مُتدثِّرا بها؟ وهل المسلسل حقا مرآة عاكسة للأردنيين أم أنه مجرد محاكاة هوليودية أو بالأحرى غربية بصوت شرقي محلي أردني؟
صراع الشرق والغرب
تُنذر افتتاحية الحلقة الأولى من المسلسل التي يُعتدى فيها على مريم ضربا ويرتج رأسها بأن ذلك العنف ما هو إلا تمهيد لمتوالية من الإذلال والتنكيل، لننتقل مباشرة بـ"فلاش باك" إلى ما قبل الحادث بأسبوعين، بينما تهمّ مريم باستقلال الحافلة. داخل الحافلة، تُقدَّم أغلبية الشخصيات الرئيسية، بمَن في ذلك مريم وليان ورانيا (جوانا عريضة) ودينا صديقة مريم (يارا مصطفى)، ما يمنح المُشاهِد إطلالة مبكرة حول طبيعة العلاقات، قبل أن تصل الحافلة إلى مدرستهن.
تعمَّدت المخرجة "تيما الشوملي" أن يكون للمدرسة المظهر الخاص بها بصريا، فسكبت على واجهتها البريق والضوء لإضافة إحساس بالاصطناع بعض الشيء، وانتقت اللون الوردي لجدران المدرسة وللزي الرسمي للطالبات، كما صيغت الكلمات المُنمَّقة والنشيد بهدف إثارة مفارقة ساخرة بين الزيف الخارجي والحقيقة الداخلية (1). لكن ألا يبدو أن "الشوملي" تمادت قليلا في صناعة قناع مُتكلَّف لعملها حتى إنها خنقت الروح الأصيلة للأردن ولم يعد عملها يعكس سوى وجوه "متغربة" مع صوت يحاول قدر الإمكان أن يكون شرقيا؟
بعبارة أخرى، تكمن المشكلة الرئيسة في أن "الشوملي" صبَّت مجموعة من الاعتقادات وأنماط الحياة العربية في قالب غربي تماما، فأنتجت هجينا لا يتماس مع حياة غالبية الأردنيين. فالمُشاهِد بإمكانه تمييز أن العمل يقترب من النمط الأميركي، في التفاصيل الداخلية ورسم الشخصيات، واعتماده استعارات مباشرة مُستمَدَّة من أعمال غربية مثل مسلسل "جوسيب جيرل" (Gossip girl)، ومسلسل "كاري" (Carrie) للمخرج "برايان دي بالما" الذي أُنتج عام 1976.
في الواقع، يلتقط المحرر والناقد "خليل حنون" التقاطع اللافت بين شخصية "كاري" في فيلم "دي بالما" مع شخصية "مريم" في الروابي، من حيث الإصرار على الانتقام رغم اختلاف الحالة النفسية. تبدأ شخصية "كاري" مسارها الانتقامي بعد صدمة التنمر الجماعي عليها في غرفة تبديل الملابس، الأمر نفسه حدث مع مريم في مدرسة الروابي. أضف إلى ذلك أن كلتيهما في العمر نفسه، وتتَّسِمان بالخجل، وكونهما -بحد تعبير كليهما في العملين- كبشَ فداء سهلا.
ينتسب مسلسل "مدرسة الروابي للبنات" إلى دراما المراهقين التي تولي اهتمامها إلى اليافعين وتصوير حيواتهم بطريقة أكثر واقعية (2). ولا يستقطب هذا النوع من الدراما عادة شريحة عريضة من الجمهور، ولا يجتهد في سبيل ذلك، إذ إن توجُّهه المُعلَن ينصب على الفئة التي يضعها في بؤرة التركيز. ويتسم هذا النوع من الأعمال بمعالم متناظرة وشخصيات تقليدية، من الفتيات اللاتي يتمتعن بشعبية جارفة ونادرا ما يلتفتن إلى شخص خارج مجموعتهن إلى الفتاة الجديدة التي تتوشَّح بالسواد وتضلع في القرصنة الإلكترونية، لعل أقرب مثال هنا على هذا هو شخصية نوف (ركين سعد).
ولكن في حين أن سيناريو المسلسل يركِّز على الحبكة والعاطفة ويخلق خطا لهما، فإن العواطف التي تحكَّمت في الأحداث كانت مُنمَّطة مثل الحزن والغضب. كذلك كانت هناك تقلبات فجائية في الشخصيات، وشخصيات ثانوية أجمع مشاهدون أن ظهورها لم يكن مُبرَّرا ولم يُضف إلى الحبكة. ففي العمل العظيم لا تنفصل الشخوص عن الحبكة، ووفقا للفيلسوف اليوناني هرقليطس فإن شخصية المرء هي مصيره (أي إن الحبكة هي حياته).
وحدها شخصية مريم على ما يبدو كانت تحتوي على كل متطلبات النضج، مع وجودها في بؤرة الصراع وذروة الأحداث، ووجود مُحرِّك واضح هو الثأر للكراكة يدفع القصة إلى الأمام، وهو ما يصنع الزخم ويوفِّر ترابطا للمشاهد، لينشأ التوتر الذي يحافظ على اهتمام المشاهدين.
تخطو مريم إلى الشر بأقدام مرتجفة، تصبح كسندان تهوي عليه مطرقة الشر حتى تُثبته. كل واقعة تطمس ملامح البراءة في وجه الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا التي تجمع بين الذكاء والحساسية. يُعاد تشكيل هويتها ببطء، لتكشف لنا فجأة عن وجه جديد قاسٍ لا يرحم، تنسحق تحته حقيقتها وتصبح البراءة قناعا، وتؤول نفسها إلى نسخة تعتمل بالشر الذي كانت تهدف لمحاربته في المقام الأول.
"احذر وأنت تُصارع الوحوش من أن تتحوَّل أنت ذاتك إلى وحش.. إذا أطلتَ التحديق في الهاوية، فاعلم أن الهاوية هي الأخرى ستُحَدِّق فيك".
(فريدريك نيتشه، ما وراء الخير والشر)
كيف تحوَّلت مريم إلى النسخة الأسوأ من ذاتها؟ في الواقع، فإن الأخلاق واللا أخلاق ليسا دائما على طرفَيْ النقيض، ويُعزِّز صعوبة التمييز بينهما أن لكل إنسان في الحقيقة جانبين. غالبا ما يُغذِّي الغضب مكامن الشر في الإنسان ويُلبسه قناعا زائفا للعدالة، لهذا اتجه ديفيد تشيستر من جامعة فرجينيا إلى دراسة النزعة الانتقامية واستحواذها على الإنسان (3).
في البداية، اكتشف هو وزميله ناثان ديول من جامعة كنتاكي أن الإنسان الذي يتعرَّض للإهانة أو الرفض الاجتماعي يداهمه شعور بألم عاطفي، مُثيرا أحد النوازع القديمة للاستجابة للتهديدات وهي الانتقام العدواني. فرغم أن الرفض يبدو مؤلما في البداية، فإن هذا الألم يمكن تجنُّبه إذا أفسح الإنسان الفرصة لمشاعر الانتقام التي تُنشِّط نظام المكافأة في الدماغ (مجموعة من الهياكل العصبية المسؤولة عن سمة الحوافز، أي الدافع والرغبة في المكافأة) (4). لذلك، ليس من المستغرب أن يكون الانتقام باعثا على النشوة.
في السياق ذاته، كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه يرى أن عاداتنا العقلية وشخصياتنا تتأثر بشدة بما ننهمك به ونشغل أوقاتنا وأذهاننا فيه (5). لذلك فإن استغراق مريم في التدبر في الانتقام جعله عنصرا أساسيا في كيفية تصرُّفها وآليته، وهو ما يتفق مع قول أرسطو "نحن ما نفعله باستمرار". ربما أشاحت مريم بوجهها عن الهاوية في النهاية، لكن الهاوية لم تتوقَّف عن التحديق بها وبالأخريات على فترات.
تُخبرنا الشوملي أن المسلسل بأكمله -بحلقاته الست- مبني على حوادث تعرَّضت لها، أو عاينتها في قصة أحدهم، مثل المشهد الذي حاول فيه رجل التحرش بنوف وتتذكَّره المخرجة بوضوح. وتردف الشوملي في أحد اللقاءات: "بوصفنا شابات، كنا دائما نفتقر إلى الأعمال الدرامية حول المرأة وقضاياها، لهذا نرى أن كل شيء مُصمَّم لخدمة فكرة أن يطرح المسلسل نظرة أنثوية بالكامل" (6) (7).
وبمعزل عن كم المشاحنات حول العمل، ربما بإمكاننا تأويل سقوط مريم إلى هاوية الشر بـ "سونيتة" (أغنية قصيرة) للشاعر روبرت فروست تُدعى "لن تكون أغنية الطيور هي نفسها مجددا"، يصف فيها صوت شخص مشدوه بأصوات الطيور وتنقُّلات نغماتها وألحانها، وكما يوحي العنوان، تطرأ تغييرات في أغنية الطيور ولا تعود هي نفسها مرة أخرى.
—————————————————————–
المصادر
- ما وراء مدرسة الروابي للبنات 👩🏻🎓🎬🏫 وثائقي يحكي قصص وتجارب الكاست في مواقع التصوير
- Teen Film, Catherine Driscoll (2011)
- The Complicated Psychology of Revenge
- The hidden upsides of revenge
- Beyond Good and Evil, Friedrich Nietzsche
- ما وراء مدرسة الروابي للبنات 👩🏻🎓🎬🏫 وثائقي يحكي قصص وتجارب الكاست في مواقع التصوير
- Al Rawabi School for Girls: Netflix series sparks debate over portrayal of Jordanian teens