فيروس كورونا في بحيرة والدن.. ماذا يخبرنا هنري ثورو عن العزلة في زمن التباعد الاجتماعي؟
ماذا يمكن للفلسفة أن تخبرنا عن التباعد الاجتماعي أو العزل الاجتماعي التام بالنسبة للبعض منا؟ هُنا قد يفيدنا التأمل في تجربة هنري ديفيد ثورو كما تناولها في كتابه "بحيرة والدن" الصادر عام 1854، والذي يتناول بالتفصيل الفترة التي قضاها في العزلة الذاتية. والدن هو سرد طوبوي مميَّز عن العيش البسيط، ولا يمكن أن ننسب الكتاب بسهولة إلى جنس معين: "تجربة ذاتية"، أو "جولة في الاكتشاف الروحي"، أو "دليل إرشادي في الاعتماد على الذات"، فقد أُحيل إليه بالعديد من الأوصاف بهدف تصنيفه، وانتقدهُ البعض محقّا ربما لمثاليته المفرطة. لكن يمكننا القول إنه على الأقلّ وصف لتطبيقات الفلسفة المتعالية أو ما يُعرف بالترانسندنتاليّة.
جوهريا، فكتاب والدن كتاب متعالٍ، حيث كُتب في الغابات العميقة لولاية ماساشوستس، وهو يعلّمنا كيف نعيش بتأنٍّ وكيف نكون وحدنا بصحبة أنفسنا: كيف نعتنق العزلة دون الإحساس بالوحدة، فالعزلة جيّدة، ومختلفة جدا عن الوحدة.
كان ثورو وصديقه رالف والدو إيمرسون أبرز شخصيات الترانسدنتاليّة، وكان ذلك ضمن حركة ثقافية في أميركا مستهل القرن التاسع عشر انكبَّت على إعادة التفكير إيجابيا بالمجتمع المعاصر، وتغيير ثقافته من التأقلُم الجاهل إلى فردانية طهوريّة. وقد انبثقت هذه الحركة عن الرومانتيكية الإنجليزية والألمانية، وكانت على الأرجح أوّل فلسفة غربية منذ عصر الإغريق القدماء تتلقى تأثيرها المباشر من الفلسفة الشرقية، ومنها فلسفة الأوبانيشاد الهنديّة. في والدن، يقتبس ثورو كثيرا من كونفوشيوس، الذي كانت أعماله المترجمة قد وصلت أميركا للتوّ آنذاك. وبعكس كثير من مؤلفات الفلسفة الغربية، كانت طريقة عمل الترانسندنتاليّة تستندُ إلى الحدس، لا المنطق. لكنني أعتقد أن الترانسندنتالية كانت أيضا شكلا قديما من أشكال النظرية النقدية، أي إنّها كانت نقدا عقلانيا للمجتمع المعاصر المتجذّر في التقدّم الإنساني الفرديّ.
وكما هو حال الوجودية، فلم يحدث أن نُظِّمت الترانسندنتالية في مدرسة تفكير رسمية، ولا تزال بعض مفاهيمها غير مبلورة بعد مثل مفهوم الديزاين عند هايدغر. لكنها على عكس الوجودية، طرحت تفاؤلية ساذجة نوعا ما للإنسانية. غير أن تأثير الفلسفة الترانسندنتالية على مدارس التفكير الأخرى مستتر، إن لم يكن قليل التقدير. وعلى سبيل المثال، فقد كان نيتشه معجبا بجوانب منها، ونيتشه ناقد لاذع للفلاسفة الحديثين، إن استثنينا رالف والدو إيمرسون، أبو الترانسندنتالية. لقد أحب نيتشه إيمرسون، وفي عام 1884 يقول نيتشه في كتاب "العلم المرح" إن أفكار إيمرسون الترانسندنتالية هي "أثرى أفكار هذا القرن". لكنك قد تتساءل عما يُمكن أن تقدمه ترانسندنتالية القرن التاسع عشر لأزمنتِنا الصعبة هذه.
في عام 1845، خاض ثورو تجربة فريدة، تمثّلت في العيش وحيدا في كوخ شُيِّد قرب بحرية والدن، في غابات يملكها إيمرسون. وكانت غاية ثورو هي أن يرى إن كان بإمكانه عيش حياة هادئة ومتأنية بالاعتماد على الأساسيات فحسب، وعلى ثمار مزروعاته الخاصة، والتخلص من الزوائد غير الضرورية للوجود الحديث، حتّى وإن كانت بشكلها الذي كان آنذاك.
ويكتب ثورو في مستهل الكتاب: "لقد عشت بمفردي، في الغابات، على بُعد ميل واحد من أقرب جارٍ، في بيت شيّدته بنفسي، على ضفاف بحيرة والدن، في كونكورد ماساشوستس، وجنيتُ قوت يومي مما صنعت يداي فقط، وقضيت هناك عامين وشهرين من الزمن"، وهكذا يبدأ ثورو كتابته التأملية والعاكسة عن العيش في الطبيعة.
بحسب ثورو، ليس على العيش أن يكون مسألة معقدة، فالكثير من التعاسة إنما يأتي من أعباء المجتمع الحديث، ويكتب قائلا: "حتى في هذا البلد الحر مقارنة بغيره، تشغلُ الناس جهلا وخطأ اهتمامات صوريّة وأشغال مسرفة فائضة عن الحاجة لا يُمكن لأشهى ثمار الحياة أن تُجنى بواسطتها"، وهو محق في هذه النقطة، وأنا واثق من أنني لست الشخص الوحيد الذي يساوره الأرق في مواسم الضرائب، وهي عبء آخر من أعباء المجتمع الحديث.
دَهِش كثير ممن قرأ ثورو وحتّى بعض من زاروه في مقصورة عزلته من حين لآخر كيف أمكنه العيش بمفرده تماما، فكما يكتب ثورو: "كان أقرب جارٍ لي على بُعد ميل واحد، ولا بيت يظهر من مرمى ناظرَيَّ سوى أعالي التلال على بُعد نصف ميل من هنا". لم يكن ثورو ناسكا عاشقا للطبيعة، وإن كان قد وجد الهناءة في الخصوصية، ولم يكن يكره العالم، ولا الناس، وبالتأكيد أنه لم يضع تجنُّب الناسِ هدفا له، بما أنه كان يستقبل الزوار، ويقول: "كان عندي ثلاثة مقاعد في مسكني؛ واحد من أجل العزلة، واثنان من أجل الصداقة، وثلاثة من أجل الناس". لكن العزل لم يكن يقض مضجعه أيضا، ومما لا شك فيه أن العزل عنصر مثير في تجربة ثورو بحيث يُخصِّص له فصلا كاملا في كتاب والدن، تحت عنوان "عزلة".
كانت إجابة ثورو لأي إنسان يسأله كيف يمكن للمرء أن يتحمّل أن يكون وحيدا بسيطة جدا: اتجه إلى دخيلتك عندما تكون بصحبة الطبيعة ولن تحس بالوحدة، ويكتب: "علمتني تجربتي أن أرقّ وأطيب المجتمعات وأكثرها براءة وتحفيزا قد يوجد في أي شيء طبيعي، حتى بالنسبة للفقراء البائسين، وأكثر الناس حزنا"، فالطبيعة تلفت انتباهنا إلى الأشياء المهمة حقا في الحياة، كما يقول، والوحدة ما هي إلا صنيعة انحرافنا الذهني المضلل.
إن ثورو يُتيح لنا نوعا من المنظور المواسي للوحدة، بالإشارة إلى أنه مهما حاولنا فسيظل هناك دوما انسحاب للوعي الناشئ بيني وبين شخص آخر، ويكتب ثورو قائلا: "أي نوع من المسافة الذي يحول دون إنسان ورفاقه ويجعله وحيدا؟ لقد وجدت أنه ما من جهد يمكن أن تبذله قدمانِ ويُقرّب عقلين ووعين إلى بعضهما". لذا فقد كان علينا التأقلم مع ما في المتناول، ألا وهي ذواتنا، إننا أفضل أصدقاء لأنفسنا. وفي هذا يُسدي ثورو إلينا نصيحة مشابهة لنصائح كثير من علماء النفس المعاصرين: إنَّ علينا إعادة صوغ أفكارنا السلبية على شكل أفكار إيجابية مثمرة. وكما يشير ثورو، فإن بإمكاننا إعادة صوغ الشعور الخانق بالوحدة على شكل عزلة تنعش الذات. لكنه يمضي قُدما ليعرض أداة ذهنية أخرى، وهي رواقية جدا في طبيعتها، ونحن نمتلكها في دواخلنا، ألا وهي أن نجعل العالم (بسلبيّته وإيجابيّته) يمرُّ بنا دون أن يدمغنا، أن نراقب العالم كما لو أننا نغادر أجسادنا، ويقول ثورو: "بجهد واعٍ من أذهاننا يمكننا أن نحتاط من الأفعال وعواقبها، أن تعبر كل الأشياء، بخيرها وشرّها، من جانبنا كالسيل"، بهذه الطريقة تمكّن ثورو من تخطيّ جذب الوحدة العنيف في عزلته التامة.
عُرف ثورو وغيره من الترانسندنتاليين بتفاؤلهم الجياش، أكان هذا التفاؤل عمليا أم لا، ويكتب: "إنني أحب أن أكون بمفردي؛ ذلك أنني لم أجد صاحبا أنيسا كما العزلة. إننا نقضي وقتا أطول في الوحدة بين الناس عما نقضيه في حجراتنا".
من الأشياء الأخرى التي يمكن أن تتعلمها من والدن خلال هذه الأيام الصعبة عيشُ الحياة بتأنٍّ. علينا الالتفات لسريرتنا لكي نفهم خارجنا، أن نكون استبطانيين، ولكي نشجّع هذه العقلية، علينا الخروج إلى الطبيعة والتفكير. سيساعدنا التقرب من الطبيعة والتفكير في الأشياء البسيطة في الحياة، أي التفكير فيما يسرُّنا بحقّ، خلال فترة العزل. لكن من الواضح أن من الصعب التسامر مع الطبيعة إن كنا محتجزين داخل شققنا في المدينة، فقد أصدرت حكومات العديد من البلدان قيودا على السفر أو حتّى المشي خارجا.
لكن على حد علمي فما من قانون يقول إنك لا تستطيع أن تدس رأسك خارج نافذة وتستنشق الهواء المنعش. إن كان بإمكان الطليان الغناء من الشرفات، فبالتأكيد إن بوسعنا فتح نافذة ومراقبة الطيور. لكننا إحقاقا للحق، من السهل قول هذا الكلام عن القيام به، وما من خطّ فاصل واضح نميّز به الوحدة عن العزلة، إنه مجال متداخل، يمكننا أن نخرج منه ونمضي إليه دون وعي منا. وحتّى ثورو نفسه يقر بذلك فيقول: "لم أشعر أبدا أنني وحيد، أو على الأقل مقموع بفعل أحاسيس العزلة سوى في مناسبة واحدة، وكان ذلك بعد أسابيع من مجيئي إلى الغابات، عندما شككت للحظة إن كان وجود الجار القريب في الحي جوهريا حقا لحياة هادئة وصحيّة". برغم ذلك، فمن الممكن أن نحب العزلة. وإن فهمنا ثورو بدقّة، فلربّما كانت الانطوائية ولو لمرة أكثر تشويقا من الانفتاح على الآخرين.
سألخّص في أدناه خمس نصائح بسيطة من ثورو يمكننا تطبيقها مباشرة على حياتنا الشخصية. بالتأكيد إن ثورو كان ليوافق على تبسيط خطابه على الأقلّ في حال لم يوافق على النصائح.
- تخلَّص من أغراض الحياة الحديثة التي تؤرقك، بسِّط حياتك
يعرف أولئك الذين قرؤوا كتاب ماري كوندو "الأثر السحري لتوضيب الأشياء" فكرة التخلص من الفوضى غير الضرورية. لكن بدلا من توضيب خزانتك، فكِّر في توضيب حياتك الشخصية، أولا عبر التخلص من التوتر.
تذكَّر أن الأشياء لا ترهقك، بل الإرهاق نفسه هو ما يفعل ذلك. ولذا فربما كان عليك الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي وممارسة بعض التأمل. صفاء الذهن مفيد أيضا. والتخلص من الأشياء الفعلية يمكن أن يفيد حُسن حالك. تذكّر كلام ثورو:
"حتى في هذا البلد الحر مقارنة بغيره، تشغلُ الناس جهلا وخطأ اهتمامات صوريّة وأشغال مسرفة فائضة عن الحاجة لا يُمكن لأشهى ثمار الحياة أن تُجنى بواسطتها".
- عِشْ على مهل
كما ذكرت سابقا، فغاية ثورو المطلقة كما يصفها في "والدن" كانت أن يجرب إمكانية عيش حياة بطيئة مُرضية بصحبة الأشياء الضرورية فقط، والتخلص من الفائض غير الضروري للحياة الحديثة.
ليس على العيش أن يكون مسألة معقدة إن عاش المرء بتأنٍّ، كما يقول ثورو. عيش الحياة ببطء يمكن أن يكون صعبا نوعا ما، لكن لحسن الحظ أن ثورو يُقدِّم إلينا نصيحة هنا، ألا وهي إعادة صوغ أفكارنا السلبية وأن ندع العالم يمر بجوارنا دون التأثير فينا:
"بجهد واعٍ من أذهاننا يمكننا أن نحتاط من الأفعال وعواقبها، أن تعبر كل الأشياء، بخيرها وشرّها، من جانبنا كالسيل".
بهذه الطريقة يمكننا مساعدة أنفسنا على تخطّي جذب الوحدة حتى في أثناء العزلة.
- التفت إلى سريرتك لكي تفهم عالمك
وتنبع هذه النصيحة الثالثة من سابقتها. قد يكون من الصعب علينا أن نفهم ما يدور حولنا، بالنسبة للبعض منا خلال أزمة "كوفيد-19" كان القلق والخوف ملموسَيْن. قبل أن نفهم العالم، علينا أولا أن نفهم أنفسنا، هذا هو ما يحثنا ثورو على تحقيقه. ومع جلوس العديد منا في منازلهم، محاولين فهم ما يتعين عليهم القيام به، بدلا من النظر خارجا إلى العالم لقتل الملل التفت إلى سريرتك واعرف نفسك.
في معظم الأحيان، وعندما تفهم نفسك حق فهمها وتتوصل إلى معرفة حقيقية بذاتك، بماذا تفكر وكيف تفكر ولماذا تحب الأمور التي تحبها، يمكن أن يصير التفكير محفزا لك لكي تبدأ هواية جديدة مثيرة أو تتعلم مهارة جديدة. لذا بدلا من التبرُّم، استنشق هواء نقيا وتأمل بسعادة في حياتك وفي الأشياء التي تحب القيام بها. ابدأ بكتابة يومياتك، أو خطط لمستقبلك. الحياة العادية ستعود، كُن سعيدا، واسمح لنفسك بالتفاؤل:
"كان عندي ثلاثة مقاعد في مسكني؛ واحد من أجل العزلة، واثنان من أجل الصداقة، وثلاثة من أجل الناس".
- تقرَّب من الطبيعة
التسامر مع الطبيعة يُوجِّه أذهاننا إلى الأشياء المهمة بحقّ في الحياة. أن نوجد في الطبيعة ونفكر في الأشياء البسيطة في الحياة، أي الأشياء التي تجعلنا سعداء بحق، سيساعدنا خلال فترة العزل الذاتي:
"علمتني تجربتي أن أرقّ وأطيب المجتمعات وأكثرها براءة وتحفيزا قد يوجد في أي شيء طبيعي، حتى بالنسبة للفقراء البائسين، وأكثر الناس حزنا".
قد لا يكون الذهاب إلى الخارج أمرا متاحا في المكان الذي تسكن فيه، لكن لا بأس، فما زال بإمكانك أن تدس رأسك خارج نافذة وتستنشق الهواء المنعش.
- حوِّل الوحدة إلى عزلة
دهِشَ كثير ممن قرأ ثورو وحتّى بعض من زاروه في مقصورة عزلته من حين لآخر كيف أمكنه العيش بمفرده تماما، لكن العزلة كانت خياره:
"إنني أحب أن أكون بمفردي؛ ذلك أنني لم أجد صاحبا أنيسا كما الوحدة. إننا نقضي وقتا أطول في الوحدة بين الناس عما نقضيه عندما نظل في حجراتنا".
لكن كيف يمكننا أن نحوِّل الانعزال إلى عزلة إيجابية؟ ذلك الإحساس الإيجابي الذي يتولّد عندما ننتهي من العمل على مشروع يخصنا، أكان بناء شيء أو تركيب شيء بصورة مختلفة، هو إحدى الطرق التي يمكن فيها للعزلة أن تساعد حالتنا النفسية. وما نفعله في أثناء العزل يعتمد على مشاريعنا الفردية، إن بإمكاننا تحويل مشاعر الوحدة إلى عزلة مُرْضية عندما ننخرط مع أنفسنا في مشاريع نقدّرها. وقد تباهى ثورو كثيرا بطريقة بنائه لبيته قُرب بحيرة والدن، بيديه العاريتين، بنفسه فقط.