التعاطف الانتقائي.. عنصرية مبطنة في تعالي الغرب على مآسي الشرق
منح بروميثيوس النار للبشر بعد أن سرقها من الآلهة، لذا أمر الإله زيوس أن يقيد بروميثيوس بالسلاسل إلى صخرة يحط عليها يوميا نسر، فيأخذ في نقر كبده الذي ينمو مرارا وتكرارا. بدا لبروميثيوس أن العذاب ممتد إلى الأبد، لولا استبصاره خلاصا مستقبليا يلوح فيه هرقل ابن زيوس نحوه ويحرره من قيوده. وفقا للأسطورة اليونانية القديمة، كان بروميثيوس بطلا ولم يتوانَ عن مد يد العون والتعاطف مع البشر. النار هي مجاز للمعرفة بشتى صورها، وكانت حصرا على الآلهة دون البشر، لذا حري بالآلهة أن تنزل غضبها على بروميثيوس، ومن هنا اشتقّت عبارة "نار بروميثيان". فالتعاطف هو تلك النار التي تمنح الدفء وتخلق حيزا من الأمان، وتُقصي أنانية فطرية قد تبعث على الاستحواذ على النار وعدم مدّها إلى الآخرين، فغياب تلك النار أو أو مدّها إلى فئة دون أخرى هو الأرض الخصبة لكل عمل وحشي ولا مبالاة.
تُفتقد نار بروميثيان في دول شرق المتوسط، حيث الموت يحوم من مدينة إلى أخرى، والنكبات تُلِمُّ بالأوطان، والحروب تُمزِّقها وتُشتِّت مواطنيها وتُفرِّقهم، تُخلِّف ندوبا قد لا تُرى، وتستبطن تاريخا من الخسارات، ولا فكاك لمَن كان في قلب المعاناة من تحاشي الذكريات أو التغافل عن حاضره المفجع إن كان لا يزال ممتدا. وفي الواقع الشرقي، كل مأساة هي حواشٍ لأحزان صغيرة أو كبيرة للدول الغربية، تعرضها الصحف العالمية أو تسقطها عمدا أو سهوا من صفحاتها. يُثير ذلك تساؤلات عن سبب ولاء الكاميرا للغرب أولا، وكيف يُعزِّز ذلك من نوع محدد من التعاطف وهو الانتقائي، ويُشكِّل ملامح وجه قبيح للعنصرية، مُمهِّدا لحالة من الانفصال؟
الانفصال الذي التقطته الروائية جنوب الأفريقية والناشطة الحقوقية الحائزة على جائزة نوبل "نادين غورديمر" في قصتها القصيرة "رحلة مطلقة إلى سفاري". في مدخل القصة نلحظ إعلانا يدعو إلى تجربة مغامرات صيد في سفاري أفريقيا، تحديدا في منتزه كروغر، وهو موقع حقيقي يعد أكبر المنتزهات الوطنية في جنوب أفريقيا. نبصر عالم السفاري والأحراش من زاويتين؛ في إحداهما ينعم الأثرياء ذوو البشرة البيضاء بالحياة المترفة، وفي الأخرى يتسلل لاجئون خفية متوغلين في المنتزه كونه طريقا حتميا للعبور. تمدنا طفلة في التاسعة من عمرها بتفاصيل الرحلة وأهوالها، من منظور ساذج، نقي، عايش تجربة أكبر من أن يعيها. تخبرنا الراوية في البداية أن والدتها ذهبت إلى السوق ولم تعد، تماما كشأن أبيها الذي ذهب إلى الحرب. نشاركها لحظات انتظارها لأمها التي يسودها التوتر ورفقتها الصامتة لأخويها، ومَقدم جدتها وجدها ومن ثم المكوث في منزلهما، والهلع من قطاع الطرق الذين أحكموا قبضتهم على المدينة. إنها موزمبيق في زمن الحرب، حيث أضحى السلم والأمن شيئا من الماضي وحلَّ الجوع والخوف في خارطة الحاضر والمستقبل. تشحب المدينة، وتضعف وتحتضر حتى تستحيل فيها الحياة، تأخذ الجدة بيد زوجها الواهن وأحفادها الثلاثة، تُشيّع موطنها بنظرة أخيرة خالية من الأمل وتمضي.
تتسابق خُطاها هي وعائلتها مع عشرات من الأقدام الأخرى التي تحث الخُطى أملا في رقعة آمنة، يجب عليهم عبور منتزه السفاري المليء بالحيوانات المفترسة، لا يتوقفون عن المسير لأيام وليالٍ طويلة، تُدمى أقدامهم، ويسقط بعضهم من شدة التعب، يلفظ آخرون أنفاسهم الأخيرة، ويكون بعض الآخرين فريسة للنمور، ويختفي الجد، يقبعون في الليل جائعين ينظرون من بعيد إلى حياة ذي البشرة البيضاء في بيت آمن يُعِدُّون فيه أشهى الوجبات التي تصل رائحتها الزكية إليهم هم المهاجرون الحزانى. في النهاية يصلون إلى حيث تقبع خيمة كبرى، سيحيا مئتا إنسان فيها. بعد عامين وشهر، تحكي الطفلة كفاح جدتها وعملها في البناء لتأمين حاجيات الحياة، وإصرارها على تعليمهم. يقدم وفد أجنبي لزيارتهم وتصويرهم، تقترب منهم امرأة وتسأل الجدة بضعة أسئلة تختمها بسؤالها إن كانت ستعود إلى وطنها، ترسل الجدة نظراتها بعيدا قبل أن تجيب بأنه ما عاد هناك وطن لتعود إليه، تخبرها المرأة أنهم سيجب عليهم العودة آجلا أم عاجلا. لم تملك تلك المرأة أية فكرة عما عانته الجدة ومن حولها، عما خاضوه وما فقدوه (1)، إنها حالة الانفصال التي سبق وأشرنا إليها والتي وقفت حائلا بينها وبين التعاطف معهم والنظر إلى قضيتهم من منظور أكثر إنسانية.
فقد عرّف آدم سميث الذي يُعرف بـ "أبو الاقتصاد" التعاطف بأنه "أشبه بإبدال موقعك مع مَن يعاني"، آدم سميث الذي لطالما سعى في تأكيده المصلحة الذاتية باعتبارها شريان الحياة للاقتصاد البشري هو ذاته الذي أقرّ أن مفاهيم المصلحة الذاتية والتعاطف لا تتعارض (2)، وهو ما يتسق مع مفهوم "التعاطف" الذي يشير إلى القدرة على التماهي بعمق وعاطفية مع حالة شخص آخر ومشاعره. وقد صيغ المصطلح عام 1908، ليدفعه علماء الاجتماع وعلماء النفس إلى الواجهة الثقافية بعد الحرب العالمية الثانية. كان دافعهم إلى ذلك هو الخوف؛ إذ تملكهم هاجس أن البشر سيقتلون بعضهم بعضا بالأسلحة النووية حتى لا يبقى أحد.
لذا ظهرت كلمة "التعاطف" في اللغة الإنجليزية في أوائل القرن العشرين باعتبارها ترجمة للكلمة الألمانية "Einfuhlung" التي تعني "الشعور بالحب" (3). جاءت بدايات الكلمة إلى حدٍّ كبير كونها مصطلحا جماليا، حيث اهتم الفلاسفة بتفسير لماذا يمكن للأعمال الفنية وشروق الشمس وأفولها ومشاهد الطبيعة أن تحرك الإنسان عاطفيا، كما يفعل نسيم دافئ مع حقل من الأزهار. بمرور السنوات، حامت بعض الشكوك حول التعاطف، واكتشف باحثون أن التعاطف قد يتخذ منحى انتقائيا، خاصة بين الشباب، وقد كانت سارة كونر، الأستاذة المشاركة والباحثة في جامعة إنديانا، من أوائل الأشخاص الذين لاحظوا ذلك. ففي أواخر الستينيات، أجرى الباحثون استطلاعا للشباب لقياس مستويات التعاطف لديهم، ووجدوا إجماعا على اتفاقهم على عبارات مثل: "ليست مشكلتي حقا إذا كان الآخرون في ورطة ويحتاجون إلى المساعدة"، لكن المثير للتفاؤل ورود عبارات على شاكلة "قبل انتقاد شخص ما، أحاول أن أتخيل كيف سأشعر لو كنت مكانهم" (4)(5).
جاءت نظرة ألبرت أينشتاين عام 1946 لتكون قاطعة وتؤكد تلك الشكوك، إذ قال: "إن المساواة والرغبة في حفظ الكرامة الإنسانية ركيزتان تستند إليهما القوانين المُسخَّرة من أجل الرجل الأبيض". فقد لاحظ أينشتاين أن أغلبية التشريعات التي تكفل حقوق الإنسان وتتعاطف معه بتحيزها لم تشمل الأعراق الأخرى كافة، وهي بذلك أبت الاعتراف بتلك الأعراق وقبولها على أنهم أشخاص كاملون. وبهذا عندما يوجد "الآخرون" يكون التعاطف مستحيلا، لأن "الآخر" ليس إنسانا أبدا، أو على الأقل ليس شخصا كاملا. هكذا ذيلت نظرية الرجل الأبيض بالإنسانية، وقرن خلافها بالنقص وشيء من الدونية.
وجدت تلك الانتقائية في التعاطف طريقها إلى مزرعة الحيوان التي شيدها جورج أورويل في روايته التي تحمل الاسم ذاته (6)، فيها تعلن الحيوانات بداية أن "جميع الحيوانات متساوية"، لتعدل عن ذلك المبدأ لاحقا وتجعله "جميع الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات أكثر تساويا من غيرها". أفسح ذلك مجالا للتحول من التعاطف العالمي إلى التعاطف الانتقائي، والمساواة الموحدة والمطلقة، المستحقة للجميع، إلى تدرُّجات وتفرُّعات من المساواة.
إن تصوراتنا للآخرين غالبا ما تكون أقل وضوحا من تصورنا لأنفسنا، ويمكن أن يؤدي هذا التباين إلى ترسيخ صور نمطية لجماعات يلوح لنا مرآها من بعيد، وقد جادل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بأن النصوص الغربية المؤثرة حول أفريقيا وآسيا أسهمت في اغتراب الأماكن والأشخاص فيها.
إذ يمكن أن تعزز مثلا حملات المساعدة المنطلقة إلى تلك الدول هذه الصور دون أن تقصد ذلك. فالحملات التي تعرض أطفالا يتضورون جوعا أو أمهات يحنين رؤوسهن بأسى بأعين دامعة غالبا ما تكون حسنة النية، لكنها يمكن أن تعزز الصور اللا إنسانية من خلال وصف المجموعات فقط من خلال معاناتهم. ففي مثل هذه الحملات، يُعرَض المدنيون المحاصرون في بؤرة الصراع على أنهم أشخاص يستحقون الشفقة، عوضا عن إظهار حياة دمرها العنف، كما يمكن اختزال المعاناة الحقيقية في أداة تَتربح من آلام الآخرين.
وقد يُنظر إلى كل المقهورين، من الأم والأب المُلتاعين، إلى الطفلة اللاجئة هي وذويها، إلى الشاب الذي فقد عائلته، على أنهم دون البشر وُجِدوا من أجل المشقة، أنهم أكثر قدرة منا على استيعاب آثار الموت والخسارة وتحمل الصدمات، وهو ما نقلته كاتي هوبكنز في مقالها عن بوب جيلدوف التي أتت فيه على ذكر الهجرة والأثيوبيين في مقتطف جاء فيه: "لكنهم صُنعوا لتحمل القنبلة النووية. إنهم ناجون" (7)، وهي النظرة ذاتها التي تبناها بعض الغربيين تجاه اليابانيين بعد مأساة هيروشيما وناجازاكي. وبصورة أقل دراماتيكية، يتبنى كثير من الناس هذا الرأي لا شعوريا، ويدعم بنظرة سطحية حول أنه رغم المعاناة، فإن الآخر ما زال يبتسم. إعطاء قيمة لتلك النظرة اللا أخلاقية هو ما يسمح للفقر والعنصرية والتمييز بالتوغل في الوجود، ويفسح مدى لانعدام التعاطف مع الآخر.
هكذا تُعزِّز التغطيات الإعلامية المكثفة من التعاطف الانتقائي، بتفاوتها في الاهتمام بحوادث العالم واحتلال العالم الغربي موقعا متميزا في تغطية وسائل الإعلام الإخبارية، لذلك تميل أجزاء أخرى من العالم إلى أن تكون ثانوية أو يُنظر إليها على أنها أقل أهمية (8). يساعد ذلك في تشكيل ملامح وجه قبيح للعنصرية، ويحضر سؤال عن علّة وجود تلك المساحة من التفرقة رغم أن المعاناة الناتجة من هذه الحوادث واحدة. توجد العديد من التكهنات حول سبب نيل الحوادث تعاطفا في بعض البلدان في دول أخرى أكثر من غيرها، أحد تلك التكهنات ما أورده الأستاذ ماثيو إرليش من كلية الإعلام بجامعة إلينوي: "الولايات المتحدة تميل في تغطيتها الإخبارية إلى أن تكون عِرقية، أي إنها تميل إلى التركيز أكثر على الأميركيين أو على الأشخاص الذين يشعرون بأنهم مشابهون للأميركيين، مثل الأوروبيين الغربيين. لذا فإن باريس أو بروكسل (التي سيكون الأميركيون على دراية بها وربما زاروها سائحين) ستحظى باهتمام إعلامي أكبر مقارنة بالدول في آسيا أو أفريقيا التي قد يكون غالبية الأميركيين أقل دراية بها، وربما يشعرون بقدر أقل من الانتماء إليها" (9). كما أن هناك أيضا ما يسمى بتطبيع الكارثة فيما يسمى بدول العالم الثالث، بحيث يتعلم الغربيون ألّا يُصابوا بالصدمة من العنف أو الكوارث التي تقع في تلك المناطق.
وفقا لدراسة استمرت ثلاثة عشر عاما حول ردود الفعل الأميركية على الكوارث الطبيعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فإن شدة كارثة ما أو خطورتها ليست العامل الأساسي الذي يدفع الناس إلى التعاطف. قتل زلزال ألف شخص في إيطاليا فحصل على ثلاثة أضعاف تغطية زلزال قتل أربعة آلاف شخص في غواتيمالا. ووجدت الدراسة، التي أجراها ويليام آدامز الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، أن التغطية الإخبارية كانت مرتبطة مباشرة بمدى اهتمام مواطني الولايات المتحدة بكل بلد. وجد باحثو الدراسة أيضا أن الاهتمام الذي شعر به مواطنو الولايات المتحدة كان مستندا أيضا إلى مدى احتمالية زيارة الأميركيين لبلد ما، ومدى قُرب البلاد جغرافيا من بلدهم (10). يُظهِر هذا أن البشر أكثر ميلا للتعاطف مع الأشخاص الذين يشاركونهم الخبرات، أو الذين يرون انعكاسات شخصياتهم فيهم (11)، ويشتركون معهم في السمات المجتمعية أو القومية أو الدينية، وبالأخص الآراء السياسية المعارضة (12).
فالثورة السودانية (2018-2019) بدأت باحتجاجات اندلعت يوم 19 (ديسمبر/كانون الأول) من عام 2018 بعد تردي الأحوال الاقتصادية في السودان وتدهور الأحوال على الأصعدة كافة، وقابلت السلطات تلك الاحتجاجات السلمية بالعنف، ووجّهت مُختلف الأسلحة لتفريقِ المتظاهرين بما في ذلك الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وشهدت بعض المدن استخداما للرصاص الحيّ من قِبَل قوات الأمن السودانية، فقُتل المئات وجُرحوا، وفُقِد الآلاف. أتت أنباء الثورة حينها على هيئة موجزات في الشبكات الإخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي، وكان من بين القتلى محمد مطر، طالب يبلغ من العمر ستة وعشرين عاما كان يدرس في جامعة برونيل بلندن، فقد حياته أثناء قيامه بحماية امرأتين من الميليشيات السودانية. كان اللون المفضل لمحمد هو اللون الأزرق، لذا قامت وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم بتغيير صور العرض إلى اللون الأزرق لتذكر بطولته وإظهار التضامن مع شعب السودان (13)، وفي حينها لم تحظَ الثورة باهتمام الإعلام مطلقا. وفي العام نفسه، نشب حريق في كاتدرائية نوتردام في باريس، أدى الحريق إلى سقوط أحد أبراج الكاتدرائية، فجاءت تغطية الحريق مرفقة بتقارير عن روايات الأشخاص الذين احتفظوا بذكرياتهم في نوتردام، ومن ثم الكشف عن كيفية إعادة بنائها ومَن سيُعيد بناءها، رغم أن المبنى لا يزال قائما، ولم يمت أحد في الحريق. هكذا قوبل الموت في رقعتنا الجغرافية بلا مبالاة، وذُرفت الدموع على مبنى قديم.
وجاءت فيضانات السودان لتحصد أرواح السودانيين، إذ ارتفع منسوب النيل في ذروة الفيضانات إلى 17.62 مترا، وهو مستوى غير مسبوق منذ بدء رصد النهر قبل أكثر من 100 عام، ليعيش الآلاف من سكان ولاية نهر النيل أوضاعا مأساوية بعد أن فقدوا المأوى ودُمِّرت آلاف المنازل وتقطعت بهم السُّبل جرّاء الفيضانات غير المسبوقة التي اجتاحت مناطقهم وشرّدت آلاف الأسر وقطعت الطريق الرئيسي الرابط بين الولاية ومدينة بورتسودان، الميناء الرئيسي الذي تعبر منه إمدادات السلع الأساسية، مما أدى حينها إلى صعوبات كبيرة في الحصول على السلع الأساسية وخصوصا الخبز. كل ذلك لم يحرك وسائل الإعلام ولو قيد أنملة، ولم تُدِر وجهها إلى السودان، كما لم تفعل في حوادث كثيرة.
كان هناك العديد من المآسي التي لم تحظَ بالقدر نفسه من الاهتمام، تلك البلدان الموجودة في ساحل العاج والعراق، والمآسي التي يُتغاضى عنها أو تلك التي لا تزال غامضة بالنسبة لمَن هم خارج تلك المناطق، الذين يجهلون إلى حدٍّ كبير الأحداث المروعة التي وقعت والتي تقع يوميا أيضا فيما يجاورها، من الحرب في اليمن وسوريا، إلى حريق مخيم موريا أكبر مخيمات اللجوء في اليونان، والانتهاكات ضد طالبي اللجوء من أفغانستان وسوريا ودول أفريقية في مخيمات اللاجئين في اليونان، إلى الحصار في غزة، والحقوق الإنسانية المجهضة في السجون المصرية والسورية وغيرها من البلدان التي تحكمها نظم سياسية ديكتاتورية، وحقيقة قتل عشرات الآلاف في شمال نيجيريا على يد جماعة بوكو حرام، أو 147 طالبا في جامعة غاريسا الكينية. كما حظيت سلسلة من المذابح باللا مبالاة من المجتمع الدولي، مثل الفظائع التي لحقت بمسلمي البوسنة خلال حروب البلقان في التسعينيات، والروهينجا حديثا ومأساة مسلمي الإيغور في الصين.
بعض الفئات "الأخرى" تعاني من الافتقار إلى التعاطف، مثل المسلمين والسود والطوائف والقبائل المهمشة، فلا توثق معاناة المسلمين في الهند والصين وغيرهم من الدول (14)، بل يرتبط عند البعض تصوُّر مُشوّه لما يجهله، فيسعى إلى ربط الإسلام بالإرهاب، والسود بالجريمة. تجعل تلك الصور أحيانا التعاطف معهم أكثر صعوبة، مما يُمهِّد الطريق للتحيز وتوسيع الفجوات (15)(16).
وتنشأ هذه الفجوات في التفكير من تاريخ مُقلق، وذكرت كريستينا شارب، الأستاذة في جامعة تافتس، في كتابها "في اليقظة: على السواد والوجود" (In the Wake: On Blackness and Being)، أن السود في الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم يعيشون كأنهم غير موجودين، وأن شبح العبودية جعل آلام السود وموتهم أمورا غير مفهومة بشكل أساسي بالنسبة للعالم. ويشير تحليل شارب إلى أنّ السود لا يكتسبون التعاطف بسهولة، أيًّا كانت طريقة موتهم، وتعتقد أن الخرافات العنصرية تتحدى المعتقدات الأساسية المتمثلة في التعاطف الإنساني. لهذا لا ينفك يخوض السود في العالم نقاشات حادة لتغيير نظرة العالم إلى قضاياهم.
وفي السياق ذاته، يُنبئنا الشاعر مريد البرغوثي في كتابه "رأيت رام الله" عن السلطة السياسية للنظام والطريقة التي يمكن أن يَتشكَّل بها التعاطف من خلال تسلسل الأشياء وإهمال بعضها بإدراجها في المرتبة الثانية، ويمكن القياس على ذلك باستدعاء مآسي الغرب في المرتبة الأولى يليها الشرق، إنها مسألة رؤية انتقائية، أساسها المنظور وهو شيء قوي، تبدأ فيه الحكاية دوما بأولا (17).
"من السهل طمس الحقيقة بحيلة لغوية بسيطة: يكفي أن تبدأ حكايتك بثانيا حتى ينقلب العالم.
ابدأ حكايتك من "ثانيا" تصبح سهام الهنود الحمر هي المجرمة الأصلية، وبنادق البيض هي الضحية الكاملة!
يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانيا" حتى يصبح غضب السود على الرجل الأبيض هو الفعل الوحشي.
يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانيا" حتى يصبح غاندي هو المسؤول عن مآسي البريطانيين.
يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانيا" حتى يصبح الفيتنامي المحروق هو الذي أساء إلى إنسانية النابالم.
وتصبح أغاني "فكتور هارا" هي العار وليس رصاص بينوشيه الذي حصد الآلاف في استاد سنتياجو.
يكفي أن تبدأ حكايتك من "ثانيا" حتى تصبح ستي أم عطا هي المجرمة وآرييل شارون هو ضحيتها".
– رأيت رام الله
____________________________________________________________
المصادر
- Nadine Gordimer, for The Ultimate Safari from Jump and Other Stories by Nadine Gordimer (Bloomsbury, 1991)
- The Evolution of Empathy
- David Blankenhorn: Avoid ‘selective empathy’ and ‘feel into’ both sides
- The End Of Empathy
- WEEK 13: ARE WE EXPLOITING EMPATHY?
- Selective Empathy: You Were Charlie… Why You Are Not Garissa
- Distant War and Selective Empathy
- A very well-known example of selective empathy is
- Selective Sympathy for Terrorism \
- The Terrible Costs Of Selective Empathy
- The Selective Sympathy « Nonormia
- The politics of selective empathy
- Massacre In Sudan & Global Silence Over It; Is It About Our Selective Empathy?
- Is South Asia the new Middle East?
- The Boston bombing produces familiar and revealing reactions
- Why We Are Able to Empathize With Some, Never All
- The Selective Empathy of #MeToo Backlash