عندما يجتمع التاريخ مع الجمال.. القاهرة الرمضانية تحتضن التراث والثقافة والفنون
القاهرة- اعتاد الماليزي الأربعيني عبد الشكور أحمد التجوّل مع أسرته في شارع المعز لدين الله الفاطمي، عقب صلاة التراويح في مسجد الحسين الشهير في قلب أحياء القاهرة التاريخية، وذلك منذ إقامته في العاصمة المصرية بعد تخرّجه من الأزهر الشريف قبل سنوات.
يقول أحمد للجزيرة نت "أحب أن أصلي بين الأزهر الشريف وجامع سيدنا الحسين مع أسرتي في رمضان، ثم أخرج إلى شارع المعز لنستمتع بجمال الفنون المعروضة"، مضيفا -وهو يحتضن ابنيه درويش وأحمد بدوي- "يقولون إن رمضان في مصر شيء آخر، وأنا أشعر بذلك فعلا، إذ أتجوّل في الشارع يوميا، سواء مع الأسرة أو الأصدقاء".
اقرأ أيضا
list of 2 itemsفي عادة لا تغيب.. عودة رواج الفوانيس التقليدية في مصر
وعلى غرار أحمد، تجذب أحياء القاهرة القديمة في رمضان كل عام آلاف المواطنين والسياح المأخوذين بالأجواء الساحرة التي تعم الشوارع والأزقة خلال الشهر الكريم، تزامنا مع برامج متنوعة تنظمها خلال هذه المناسبة وزارات الثقافة والأوقاف والسياحة.
"ليالي المعز" التي لا تنقطع
يعود تاريخ شارع المعز إلى عصر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله (341-365هـ/ 953-975م)، الذي حكم مصر قبل أكثر من ألف سنة، ليكون أول الخلفاء الفاطميين للبلاد.
ويعد الشارع حاليًا، وفق وزارة السياحة والأثار المصرية، أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، فضلا عن كونه موقعا تراثيا فريدا أُدرِج على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) لمواقع التراث العالمي عام 1979.
ويضم الشارع الممتد بين بابين من أسوار القاهرة القديمة (من باب الفتوح شمالا حتى باب زويلة جنوبا) مجموعة من أروع آثار العاصمة، يصل عددها إلى 29 أثرا تكشف عن سحر الشارع التاريخي الذي يختصر جمال مصر الإسلامية في الفترة من القرن العاشر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، التي تبدأ من العصر الفاطمي بمصر (358-567هـ/ 969-1171م) حتى عصر أسرة محمد علي (1220-1372هـ/ 1805-1953م).
وتتزين واجهات الشارع بأنوار رمضانية متلألئة، مع اصطفاف مميز لمحال الحرف اليدوية التقليدية والزخارف الجميلة على طول الشارع، بينما تنتشر على جنبات الشارع المقاهي ذات العبق التاريخي، التي تحاول جذب الجمهور بعروض فنية مميزة، مثل عرض التنورة.
وفي قلب شارع المعز، يقع "بيت السحيمي"، أشهر البيوت الثقافية التابع لقطاع صندوق التنمية الثقافية (حكومي)، الذي يقدم خلال رمضان الجاري أمسيات لفرق "صحبة سمسمية"، و"الموسيقى العربية"، و"قصر الغوري للتراث"، في حين يقدم "بيت الشعر" (جهة إبداعية رسمية) -الموجود بالقرب من بيت السحيمي- أمسية للشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي (87 سنة) وندوات عن الشعر الصوفي في مصر.
قبل أن يواصل مناداته لجذب الزبائن، يقول سلطان الذي يعمل في مقهى تاريخي بالقرب من بيت السحيمي -للجزيرة نت- إن "العروض الفنية والثقافية منتشرة في الشارع، وهي تستقطب مزيدا من الناس إلى الشارع في رمضان، ومن ثمّ تزيد من مكاسبنا".
وينتشر المصوّرون في الشارع التاريخي لتسجيل لحظات السعادة للجماهير من مختلف الجنسيات بعبارات تمتلئ بالود، ولجأ بعض المصورين إلى عمل "فوتوسيشن" (جلسة تصوير) على بعض جنبات الشارع وأمام المواقع الأثرية، مع وجود ملابس لمختلف العصور الإسلامية لمن يرغب في ارتدائها والتقاط الصور بها.
في الحسين والأزهر جماليات أخرى
على أعتاب المقام الحسيني، الذي يُقال إن رأس الحسين بن علي -رضي الله عنهما- مدفون به، في قلب مسجد يعرف باسمه في القاهرة التاريخية، يقف طالب آسيوي بجوار مصريين يقرأ ما تيسر من الأدعية والابتهالات بلكنته المميزة، بينما يصطف أقرانه خارج المقام لأخذ صورة "سيلفي" مع المقام الشريف، في حين تمتلئ ساحة مسجد الحسين، التي باتت تحفة معمارية بعد أعمال التأهيل الأخيرة، بكثير من المصريين والعرب والأجانب الذين يلتقطون صورًا تذكارية.
بلغة عربية يسيرة، يقول الطالب التايلندي محمد للجزيرة نت "هنا شيء عظيم، كل شيء جميل، أحب هذا المكان جدا"، قبل أن يكمل جولته في ساحة المسجد التي تضم معرضا للكتب بأسعار مخفضة تنظمه وزارة الأوقاف.
وعبر نفق أرضي، يستطيع الناس زيارة الجامع الأزهر الشريف، الذي يمتلئ بالمصلين من المصريين وكل الجنسيات خاصة الطلاب الوافدين في جامعة الأزهر، لأداء صلاة التراويح في جو روحاني مميز.
ويعد جامع الأزهر من أشهر المساجد الأثرية في مصر والعالم الإسلامي، وجزء من مؤسسة الأزهر الشريف، ويعود تاريخ بنائه إلى بداية عهد الدولة الفاطمية في مصر حيث أقيمت أول جمعة فيه في رمضان عام 361هـ/ 972م.
وأطلق الأزهر مؤخرا خطة لجذب الزوار في رمضان، وشهدت أوائل أيام الشهر الكريم حضورا كثيفا بالآلاف من مختلف الجنسيات على الإفطار، الذي جهز له الأزهر هذا العام 4 آلاف وجبة يومية لخدمة زواره القادمين لأداء صلاة التراويح خلف أئمة يتلون القرآن بالقراءات العشر.
وإضافة إلى جامعي الحسين والأزهر، يعود هذا العام مسجد الحاكم بأمر الله ليفتح أبوابه، بعد 6 سنوات من الترميم، لاستقبال الزوار والمصلين.
ويُعد جامع الحاكم بأمر الله، الذي يقع في نهاية شارع المعز رابع أقدم المساجد الجامعة الباقية في مصر، وثاني أكبر جوامع القاهرة اتساعا بعد جامع أحمد بن طولون.
بني الجامع عام 403هـ/ 1013م، ويمثل قيمة أثرية وتاريخية كبيرة جدا لأنه يحتوي على عناصر معمارية وزخرفية، خصوصا في مدخله الشهير.
خان الخليلي.. عبق الزمان والمكان
في منطقة خان الخليلي، أبرز المواقع التجارية التراثية والسياحية في مصر، بقلب القاهرة التاريخية، استقبل السوق العتيق آلاف الزوار من جنسيات عربية وأجنبية، مع أول أيام الشهر الفضيل، ليشتروا نسخا من تحف معمارية مصرية من مختلف العصور، لا سيما الفرعونية والإسلامية، فضلا عن الأزياء التراثية المصرية.
وتنتشر المحال التي تبيع المشغولات النحاسية، والمنتجات الخشبية من علب وأثاث خفيف، بجانب محال العطور العتيقة والملابس التراثية.
ويستطيع الزائرون، كذلك، الجلوس للاستجمام في المقاهي الثقافية التاريخية في الخان، وأبرزها مقهى الفيشاوي، الذي يُعد نقطة تجمع مشاهير مصر، إذ يجمع زبائنه من السياح العرب والأجانب من حول العالم، في تجربة مثيرة تكشف الأجواء الشعبية الشرقية في مكان يزخر بالطاولات والكراسي التراثية والمرايا والخشب المزخرف.
ويمكن للزائر، في نهاية الرحلة، أن يقف عند "أبو علي" -بائع التوت السوري- بزيه التراثي، لتذوق ما طاب من شراب التوت اللذيذ.
وفي حديثه للجزيرة نت، يقول أبو علي -كنية السوري أحمد الحبشي- إن "هذه السوق من الجنة، تركت من أجله كل المناطق السياحية الأخرى في مصر لأقف فيه أبيع مشروب التوت"، مضيفًا أنه يقابل يوميًا كل الجنسيات، واللغة التي تدور بينهم هي البسمة قبل أن يطلبوا مشروباتهم منه.