من الرفاهية والسياحة إلى الضرورة.. عودة الروح إلى الحمامات الشعبية في دمشق
دمشق- اعتاد أهل دمشق قديما ترديد المثل القائل إن "دخول الحمّام ليس كالخروج منه" أمام الأشخاص الذين خرجوا لتوّهم مما كان يُعرف بـ"حمّام السوق" المنتشر بكثرة في الأحياء العتيقة للعاصمة السورية. وذلك للإشارة إلى تغيّر الحالة المزاجية والنفسية لأولئك الأشخاص عقبَ الاستحمام والاستجمام، والاستمتاع بأجواء حمام الحي الذي يتيح لزواره -بالإضافة إلى الخدمات الأساسية للاستحمام كالتكييس والتدليك- الاستمتاع بوقتهم مع غيرهم من الزوار في جلسات تملؤها مظاهر المسرّة من غناء وعزف وأحاديث ونكات.
وتاريخيا، كان ارتياد الحمّام الدمشقي مظهرا أساسيا من مظاهر الحياة الاجتماعية للدمشقيين الذين كانوا يترددون إليه أسبوعيا للاستحمام والاستجمام وإقامة جلسات الضيافة. وكانت زيارة "حمام السوق" طقسا رئيسا من طقوس المناسبات الاجتماعية العائلية للدمشقيين، كالزواج واستقبال المواليد الجدد وإقامة الحفلات العائلية.
ويعود بناء الحمامات الشعبية في دمشق إلى عصر الخلافة الأموية، وتعد الحمامات الأثرية كحمام "الورد" وحمام "بكري" من أهم معالم العمارة الدمشقية والإسلامية؛ لكونها عنصرا أساسيا من عناصر الهوية المعمارية والثقافية للمدينة، ولانتشارها بتصاميمها الدمشقية في عدد كبير من المدن العربية والإسلامية حول العالم.
وعلى الرغم من اندثار طقس زيارة "حمام السوق" من حياة معظم السوريين، واقتصاره على السياح والزوار الأجانب خلال العقود الأخيرة، فإن الدمشقيين عادوا إلى ممارسته هذا الشتاء، على خلفية ازدياد ساعات قطع التيار الكهربائي (21 – 22 ساعة يوميا) وشح الوقود ومادة الغاز المنزلي، ما جعل من استحمام السوريين في منازلهم أمرا صعبا ومرهونا بالوقت، وغيره من العوامل.
أكثر من مجرد حمام
لم يكن البيت الدمشقي القديم (البيت العربي) يحتوي على حمّام بالمعنى التقليدي، بل على بركة ماء تتوسط صحن الدار، ويمكن للسكان الاغتسال بمائها أو الوضوء منها قبل الصلاة. لذا كان الدمشقيون يلجؤون إلى الحمامات المنتشرة في أحيائهم، من مرة إلى اثنتين أسبوعيا، للحصول على جلسة "تكييس" (عملية فرْك الجسد بكيس مصنوع من قماش خشن) تضمن لهم النظافة، فضلا عن الاسترخاء.
من هنا، تتخذ الحمّامات الدمشقية أهميتها لا كأمكنة للاستحمام وحسب، ولكن كنشاط اقتصادي واجتماعي أصبح بمرور الوقت جزءا من هوية المدينة وثقافة سكانها.
واشتهر رجال دمشق، في الماضي، بنشاطاتهم المتنوعة داخل الحمام. وكانت تنقسم زيارتهم للمكان إلى عدة مراحل يقومون خلالها بالاستحمام، ثم بشرب أنواع مختلفة من الشراب الساخن وتدخين النراجيل، وربما يقوم بعضهم لاحقا بلعب بعض الألعاب كـ "ورق الشدّة" (الكوتشينة) أو طاولة الزهر.
في المقابل، عُرف عن النساء الدمشقيات حبّهن للقاء جاراتهن في حمام السوق حيث يتمكنّ من الحديث بشكل جماعي، وتبادل الأخبار، والترويح عن النفس. كما اشتهرن بجلبهن الفواكه إلى الحمام، وخصوصا البرتقال لما يمنحه من رطوبة وانتعاش بعد جولات الاستحمام بالماء الساخن.
ويورد المؤرخ السوري منير كيال في كتابه "حمّامات دمشق" (1986)، أن حمّامات العاصمة كانت تعكس في السابق الوضع الاجتماعي والثقافي لزوارها؛ إذ أطلق على "الحمام السلطاني" اسمه نسبة إلى السلطان العثماني سليم الأول الذي كان يتردّد إليه وحاشيته، في حين استقبل حمام "الملكة" في منطقة ساروجة في المدينة القديمة زبائن سوق ساروجة وتجاره. أما حمام "الرأس"، فكان يقصده الحجاج الأكراد والإيرانيون، بينما كان المسيحيون واليهود يتردّدون على "حمام البكري" القريب من أحيائهم.
تصميم معماري فريد
تتشابه الحمامات الدمشقية في تصميمها المعماري الفريد؛ فتتكوّن معظمها من 3 أقسام رئيسة: البراني، والوسطاني، والجوّاني. وغالبا ما يتوسط القسم البراني بركة ماء تعلوها قبة مسقوفة، وتتوزع من حولها مساطب عليها أرائك يتهيأ فوقها الزوار للاستحمام؛ فيرتدون المناشف، ويجهّزون أغراض الاستحمام للولوج إلى القسم الجوّاني.
أما القسم الوسطاني، فعادة ما يكون مجهّزا لاسترخاء الزوار بعد الاستحمام تحت أشعة الشمس التي تدلف من قباب زجاجية ملونة تزيّن سقف المكان. بينما يتألف القسم الجوّاني عادة من إيوانَين (قاعة مستطيلة الشكل تحيطها 3 جدران) متقابلَيْن على طرفي بيت النار (الفرن الذي يسخن الماء)، ويتوسط كل إيوان جرن كبير أو أكثر فيه ماء ساخن. ويتفرع عن كل إيوان غرف ومقاصير يحتوي كل منها على جرن وعدّة التنظيف والاغتسال.
ويعد "حمام الورد" في دمشق القديمة أحد أعرق حمامات المدينة. ويعود تاريخ بنائه إلى أوائل القرن الثامن الميلادي، وفق اللافتة المعلقة على مدخل الحمام. ويتميز بتصميمه المعماري الدمشقي الأصيل وأرضيته السوداء والبيضاء المعشّقة بحجارة وردية وبقايا رخام قديم، وببحرته (بركة ماء) ذات الكأس الوردية الجميلة بـ3 طبقات نحاسية تتوسّط القسم الخارجي.
ومن الحمامات الدمشقية الأثرية، أيضا، "حمام البكري" الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الـ16، وحمّام "قصر العظم" الذي شُيّد في القرن الـ18 بأمر من والي دمشق العثماني، و"حمام العقيقي" الذي يشاع أنه بني في القرن العاشر، و"حمام الرفاعي" وهو من حمامات القرن الـ16، و"حمام المقدّم" الذي يُنسب جرنه إلى الشيخ محي الدين بن عربي، إذ ظلت النساء يقدمن فيه النذور ويضئن الشموع حتى وقت قريب.
من طقس اجتماعي إلى ضرورة حيوية
لم تقتصر أهمية حمام السوق في الحياة الاجتماعية الدمشقية على خدمات التنظيف أو فسحة الراحة والاستجمام التي يوفرها، وإنما أصبحت زيارته بمرور الوقت طقسا أساسيا من الطقوس المصاحبة للأحداث والاحتفالات العائلية الكبرى كالأعراس واستقبال المواليد الجدد.
ويعد "حمام العروس" من أبرز طقوس الأعراس الدمشقية؛ إذ تتم فيه دعوة الأقارب والجيران وأهل العريس من النساء، من جانب أم العروس، إلى الحمام للاحتفاء بابنتها المقبلة على الزواج؛ فتستحم النساء وسط أجواء من الاحتفال يتخللها الغناء والعزف والرقص، وتختتم بمائدة غداء تتحلّق حولها النساء في الحمام ذاته.
وهناك "حمام الغمرة" الذي يأتي بعد الزفاف بأسبوعين، وتردّ من خلاله أم العريس دعوة أم العروس لهن إلى الحمام يوم الزفاف. وأخيرا، هناك "حمام الأربعين" (استقبال المولود) الذي يأتي صبيحة اليوم الأربعين لقدوم المولود الجديد.
وظل طقس حمام السوق حاضرا في المجتمع الدمشقي حتى أوائل القرن الـ20، قبل أن تقتصر زيارة الحمامات على شريحة ضيقة من أهل المدينة والسياح، بعدما أصبحت وظيفة حمام السوق بحكم المنتهية مع انتشار الحمامات الصغيرة في الدور والمنازل.
غير أن الواقع الخدمي المتردّي في دمشق مؤخرا، دفع السوريين إلى إحياء طقس زيارة حمام السوق مجددا، وهذه المرة ليس للاحتفال أو الاستجمام أو الاستمتاع بأشعة الشمس في القسم الوسطاني، ولكن بهدف الاغتسال بالماء الساخن فقط.
وتشهد حمامات السوق في دمشق، اليوم، إقبالا كبيرا منذ بداية فصل الشتاء، بعدما وصلت فترة قطع الكهرباء عن معظم أحياء العاصمة إلى 22 ساعة يوميا في ظل أزمة شح الوقود المتفاقمة، وتأخر توزيع أسطوانات الغاز المنزلي للعائلات إلى 90 يوما أو حتى 100 يوم، ما يجعل غالبية السوريين عاجزين عن تسخين الماء في منازلهم للاستحمام.
حتى الحمّامات تغيّرت ظروفها
على خلفية الإقبال غير المسبوق الذي تشهده الحمامات الشعبية في الآونة الأخيرة، رفعت بعض حمامات دمشق رسوم دخول الشخص إليها إلى 20 و25 ألف ليرة (3 و4 دولارات).
ويعزو أصحاب الحمامات هذا الارتفاع الكبير في الأجور إلى أزمة المحروقات التي تشهدها البلاد، وصعوبة تأمين مادتي البنزين والمازوت اللازمتين لتسخين المياه وإنارة الحمامات، وارتفاع سعرهما في السوق السوداء، حتى إن عددا من الحمامات الشعبية والأثرية العاملة في دمشق أغلقت أبوابها منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، تزامنا مع تفاقم أزمة شح المحروقات في البلاد، وذلك ريثما يتحسن واقع المشتقات النفطية مستقبلا.