هل تعاني من "صدمة عاطفية".. لست وحدك لكن كيف تخرج منها؟
الصدمة العاطفية مشكلة تواجه عددا كبيرا من الأشخاص، فحسب الأبحاث والإحصائيات العلمية فإن 70% من البشر عانوا منها في مرحلة ما من حياتهم، وهي مشكلة خطيرة قد تؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية قوية.
والصدمة تأتي نتيجة حدث سلبي في الحياة يؤدي إلى الشعور الحاد بالأذى العاطفي أو العقلي. وتشمل الأمثلة على الأحداث الصادمة موت شخص تحبه، أو الانفصال المفاجئ عن زوجك (زوجتك)، أو التعرض للإيذاء مثل إصابة خطيرة نتيجة حادث أو كارثة طبيعية مثل الزلازل والأعاصير.
والأخطر أن تؤدي الصدمة العاطفية إلى "اضطراب ما بعد الصدمة" (post-traumatic stress disorder) (PTSD)، فقد أثبتت الدراسات العلمية أن نحو 20% من الأشخاص الذين يتعرضون لحدث صادم سيصابون باضطراب ما بعد الصدمة.
وتشير نتائج أكبر "دراسة مستقبلية" من نوعها في الولايات المتحدة إلى أن الأفراد الذين يعانون من الصدمة يشعرون "بالاغتراب"، وهو شعور عميق بالانفصال عن إحساس المرء بذاته أو محيطه، قد يشير إلى وجود مخاطر عالية للإصابة لاحقا باضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق والألم الجسدي والضعف الاجتماعي.
وقد نُشر البحث الذي قاده باحثون في مستشفى "ماكلين" في المجلة الأميركية للطب النفسي.
وقالت المؤلفة الرئيسة للدراسة الدكتورة "لورين إيه إم ليبوا" مديرة برنامج الاضطرابات الانفصالية وأبحاث الصدمات في مستشفى "ماكلين" والأستاذة المساعدة في الطب النفسي في كلية الطب بجامعة هارفارد "الانفصال قد يساعد شخصا ما على التأقلم في أعقاب الصدمة بتوفير مسافة نفسية من التجربة المؤلمة التي مرت به، ولكن بتكلفة عالية. فغالبا ما يرتبط الانفصال بأعراض نفسية أكثر حدة".
وفحصت ليبوا وزملاؤها بيانات تتعلق بـ1464 شخصا بالغا عولجوا في 22 قسما مختلفا للطوارئ في جميع أنحاء الولايات المتحدة، كانوا قد عانوا من نوع حاد من الانفصال يسمى "الاغتراب عن الواقع"، كما خضع 145 مريضا لتصوير الدماغ أثناء العلاج.
وبعد 3 أشهر، جمع الباحثون تقارير متابعة عن اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والألم وأعراض القلق والضعف الوظيفي التي عانى منها هؤلاء الأشخاص.
واكتشف العلماء أن الانفصال والغربة عن الواقع ارتبطا بالنشاط المتغير في مناطق معينة من الدماغ اكتُشفت لدى تصوير الدماغ.
وقال الدكتور كيري كيسلر كبير الباحثين في الدراسة وأستاذ الطب النفسي في جامعة هارفارد "إن الغربة عن الواقع علامة نفسية مبكرة وعلامة بيولوجية لنتائج نفسية أسوأ لاحقا، وقد تكون ارتباطاتها العصبية في الدماغ بمنزلة أهداف مستقبلية محتملة للعلاجات للوقاية من اضطراب ما بعد الصدمة"، وذلك حسب ما أوردت منصة "ساينس ديلي" (sciencedaily) التي نشرت أهم نتائج الدراسة.
أرق وكوابيس
بوجه عام، وفي الأيام والأسابيع الأولى التي تعقب الصدمة من الشائع أن يعاني الناس من موجة من المشاعر والأعراض الجسدية والنفسية غير المتوقعة مثل:
- الحزن
- الشعور بالتوتر والعصبية والنزق والغضب
- الأرق وصعوبة النوم
- مشاكل في العلاقات مع الآخرين
- الغرق في الذكريات مع أفكار سوداء وكوابيس
- صعوبة الإحساس بمشاعر إيجابية
- حب العزلة وتجنب الاختلاط بأشخاص آخرين
- الهرب من الذكريات والأفكار المرتبطة بالحدث الصادم
وعادة ما تتحسن هذه الأعراض بمرور الوقت، لكنها لدى بعض الأشخاص تستمر بشكل أكثر حدّة وتتداخل مع حياتهم اليومية ولا تختفي من تلقاء نفسها.
وقد يصاب بعض الأشخاص بما يعرف بـ"اضطراب الإجهاد الحاد" (acute stress disorder)، فتظهر عليهم أعراض شديدة من التوتر تتداخل بشكل كبير مع الحياة اليومية في الحياة والعمل، وذلك في الشهر التالي من الصدمة.
ويمكن لآخرين أن يصابوا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مع أعراض تتداخل مع الحياة اليومية وتستمر بضعة أشهر أو أكثر وقد تحتاج إلى علاج على يد مختصين.
التعامل مع الصدمة
الخبر السار هو أن هناك وسائل فعالة جدا للتعامل مع الآثار المجهدة للصدمة ومعالجتها، وقد وجد علماء النفس وغيرهم من الباحثين عددا من الإجراءات التي تساعد على الخروج من الصدمة، من أهمها:
اعتمد على أحبائك
لا تبق وحدك تجتر ذكرياتك وآلامك، بل قم بتحديد أكثر الأصدقاء قربا منك أو أفراد أسرتك، سواء أكانوا والديك أو إخوتك أو أولادك، وناقش معهم ما حدث لك.
ولا تخجل في الحديث عن مشاعرك إليهم، فهم أهلك وأصدقاؤك وأحبّتك، تحدث معهم بكل صدق وصراحة عن تجربتك ومشاعرك.
يمكنك أيضا أن تطلب منهم مساعدتك في المهام المنزلية أو المهنية أو الالتزامات الأخرى لتخفيف التوتر اليومي الذي تمر به.
لا تهرب.. واجه مشاعرك
من الطبيعي أن ترغب بتجنب التفكير في حدث صادم، لكن عدم مغادرة المنزل، والنوم طوال الوقت، وعزل نفسك عن أحبائك وبقية البشر، واستخدام أشياء غير صحية للهرب من مواجهة الواقع ليست أساليب صحية للتعامل مع الصدمة التي مررت بها.
صحيح أن التجنب ومحاولة الهرب أمر طبيعي وبالذات في الأيام الأولى بعد الصدمة، لكن الإفراط فيه سيطيل من معاناتك وألمك، ويمنعك من الشفاء. واجه مشاعرك وحاول العودة بالتدريج إلى روتين حياتك، ويمكن أن يساعدك الدعم من أحبائك أو خبراء الصحة العقلية كثيرا أثناء عودتك للحياة.
إعطاء الأولوية للرعاية الذاتية
ابذل قصارى جهدك لتناول وجبات مغذية وصحية وممارسة النشاط البدني بانتظام واحصل على نوم جيد ليلا، وابحث عن إستراتيجيات تأقلم صحية أخرى مثل الاستمتاع والانغماس بالفن والموسيقى أو الكتابة والتأمل والاسترخاء وقضاء الوقت في الطبيعة.
الصبر مفتاح الفرج.. كن صبورا
تذكر أن من الطبيعي أن يكون لديك رد فعل قوي على حدث مؤلم، ولكن الزمن كفيل بمعالجة كل الجراح فلا يتبقى منها في النهاية سوى ندب صغير، فتذكر ذلك وكن صبورا وعالج مشاكلك بهدوء وروية، ومع مرور الأيام ستتحسن وستبدأ تشعر بأنك أفضل يوما بعد يوم.
متى تحتاج إلى علاج؟
لا يحتاج كل شخص إلى علاج من الإجهاد الناتج عن الصدمة إذ يتعافى معظم الناس من تلقاء أنفسهم مع مرور الوقت. ومع ذلك، يمكن لمتخصصي الصحة العقلية والأطباء النفسيين مساعدتك في إيجاد طرق صحية للتعامل مع آثار الصدمة.
وإذا كانت محنتك تتعارض مع علاقاتك أو عملك أو أدائك اليومي، فقد تكون مصابا باضطراب التوتر الحاد أو اضطراب ما بعد الصدمة، وهنا يمكن للأطباء وعلماء النفس تقديم تدخلات قائمة على الأدلة لمساعدتك في التعامل مع الإجهاد الناجم عن الصدمة أو اضطراب الإجهاد الحاد.
الإسعافات الأولية النفسية
الإسعافات الأولية النفسية "بي إف إيه" (PFA) (Psychological First Aid) مصممة أصلا لمساعدة الأطفال والمراهقين والبالغين والعائلات في أعقاب كارثة ما أو بعد التعرض لحادث إرهابي، وتُستخدم الآن لمساعدة الأشخاص الذين عانوا من أي نوع من الصدمات.
ويعتمد هذا الأسلوب في العلاج على فكرة أن الألم والحزن والشعور بالكرب أمر طبيعي بعد حدث صادم، وبدلًا من معالجة هذا الضغط بوصفه اضطرابا ينصبّ تركيز هذا النهج على تقديم الدعم والمساعدة وتبادل المعلومات حول ردود فعل الإجهاد وإستراتيجيات التأقلم، حيث يقدم المتخصصون في خدمات الصحة العقلية والعاملون في الاستجابة للكوارث الإسعافات الأولية النفسية في الأيام والأسابيع الأولى التي تلي الصدمة في أماكن متنوعة، بما في ذلك المستشفيات وملاجئ الإسكان والأماكن المجتمعية وحتى عبر الخطوط الهاتفية الساخنة للأزمات.
والهدف تقليل الألم وتحسين التأقلم والأداء، على المديين القصير والطويل.
العلاج السلوكي المعرفي
علاج آخر قائم على الأدلة هو العلاج السلوكي المعرفي "سي بي تي" (CBT) (cognitive behavioral therapy)، يستخدم بنجاح لعلاج العديد من الاضطرابات النفسية، بما في ذلك الإجهاد الناتج عن الصدمة، وهو علاج نفسي يساعد الناس على تعلم تغيير أنماط التفكير والسلوك غير المفيد.
وتوصي منظمة الصحة العالمية بهذا النوع من العلاج الذي يركز على الصدمات لعلاج أعراض الإجهاد الحاد عند البالغين، وتشير بعض الأبحاث أيضا إلى أن الأشخاص الذين يتلقون العلاج المعرفي السلوكي المركّز على الصدمات قد يكونون أقل عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة المزمن.
أخيرا، فإن الحياة مملوءة بالمنغصات والأحداث والمواقف الصعبة، وقد تتعرض لحادث أليم أو غدر من قريب أو هجر من حبيب، ولكن الحياة تستمر ولا تتوقف، وكي تخرج من كل الصدمات وتتغلب عليها عليك أن تتقبل ما حدث مهما كان صعبا، ثم تسامح من تسبّب بألمك، وحين تسامح فليس مهما أبدا أن يكون الشخص الذي سامحته يستحق تسامحك.
أنت تسامح من أجل نفسك كي تعيش بسلام وتمضي مع الحياة لا ضدها، فهي ستعيد احتضانك وتداوي جراحك، فهناك دائما ما يستحق الحياة على هذه الأرض.